ثقافة وفن

خواطر رمضانية.. عالم حلو من الذكريات!

 منير كيال : 

تراود ذاكرة الواحد منا، خواطر من الصعوبة بمكان نسيانها، فهي تتعايش معنا كالقدر ولا تكاد تفارقنا، وإذا كان لها أن تتوارى من حين إلى حين آخر، فإنها لا تلبث أن تعاود تحوم في ذاكرة المرء حوم فراش حبيس أمام ضوء من شعلة، فتأخذ عليه تفكيره وسلوكه، ولا يجد مجالاً للخلاص منها.
ومن ذلك ما تعايشناه من ذكريات شهر رمضان، يوم كنا صغاراً نحاول صيام أيام هذا الشهر، أسوة بالكبار ممن حولنا.
إذا حلّت أيام شهر رمضان، تبدلت أساليب تعايشنا مع من حولنا، من أخذ وعطاء، وارتباط بالحياة بكل ما في ذلك من روابط روحية واجتماعية..
وأصبح من يخرج عن أطر هذه الحياة بقليل أو كثير، ينظر إليه، وكأنه غير جدير بالتعامل، أو التعايش مع ما يحيط به من أترابه، ومع ما يحيط به من الآخرين..

كنت تراهم ينظرون إليه نظرة استهجان وامتهان، ويلصقون به أبشع الصفات، ويتمنون له أسوأ العواقب ومن ذلك ما تناقله تراثنا الشعبي بمفطر أيام شهر رمضان وقد قصدوا بكلمة البم، المفرط في السمنة، وأرادوا بنهر قليط، النهر الذي يحمل فضلات المدينة، وبيت المي هو دورة المياه كما هو معروف وإذا كان الطفل يحاكي الكبار في صيامهم بل سلوكهم، فقد كان لهذا الصائم، محبة ومكانة خاصة، من جميع أفراد الأسرة، لدرجة أن جدته لا تتوانى عن حمل ذلك الطفل الصائم، والطواف به بأركان المنزل مباهية به، قائلة إنه أصبح شاباً يحق له أن يحمل اسم الأسرة، وهي في طوافها بهذا الصائم على أفراد الأسرة بل الجيران، تعبر عن الفرحة به، وكل من هؤلاء لا ينسى أن يقدم للطفل ما لذّ وطاب من المآكل التي يخبئها إلى وقت الإفطار.
وكان الواحد من أولئك الأطفال الصيام، إذا التقى أحد أترابه، سرعان ما يسأله، إذا كان صائماً مثله، فإذا كان الإيجاب، يطلب إليه أن يفتح فاه (فمه) ليتأكد من صيامه، وما أن يفتح فمه، حتى يسارع إلى سحب صيامه من فمه وهو يقول: أخذت لك صيامك.. أخذت لك صيامك، ويتبع ذلك بقول:
يا رمضان غيّرت الطبيعة، السن صغير والرقبة رفيعة.
وكان إعلان مولد هلال شهر رمضان يرتبط بتقاليد وشروط لابد من توافرها، أكان ذلك بوقت بزوغ هلال الشهر أم في شكله واتجاهه، ويصدر هذا الإعلان عن اجتماع وجهاء أحياء المدينة والمفتي العام والعديد من علماء الدين الإسلامي بالمحكمة الشرعية التي كانت بزقاق المحكمة وبقربها المدرسة الجوهرية، فإذا وفد إلى المحكمة من يثبت مولد هلال شهر رمضان وكان على نحو من السمعة الحسنة يتداولون مع قاضي المحكمة الشرعية في موضوع إعلان بدء شهر رمضان وبدء الصيام، فإذا كان ذلك ينصرف الوجهاء كل إلى حيه لإعلان البشارة، وينطلق المسحرون إلى مطافاتهم لإعلان ذلك.. واستعداداً للصيام وتلبية حاجات الناس بهذا الشهر ترى المحال بالأسواق وخاصة سوق البزورية وباب السريجة وأسواق مصلبات الأحياء بأنحاء المدينة ممتلئة بما لذ وطاب من المواد الغذائية من سمن وأرز وزيوت وتوابعها ولوزامها.. والناس يتوافدون إليها لاستكمال ما يلزمهم من مواد غذائية استعداداً لهذا الشهر.
وبالتالي تتبدل هوية دمشق، فلا تعود تجد محال وأماكن التسلية وتزجية الوقت كالمقاهي ونحوها، وكذلك ما كان يتعلق بأماكن تزجية الوقت بالمسارح ودور السينما، فإنها تصبح معدومة ولا رواد لها، ويستعيض الصائم عنها بأماكن دور العبادة وبخاصة المسجد الأموي والأخرى الكبرى بدمشق، كمسجد الشيخ محي الدين ونحوه وذلك لحضور حلقات دروس العلماء كالشيخ أبو اليسر عابدين والشيخ صالح فرفور وكذلك الشيخ أحمد كفتارو وأمثالهم ممن كان يحرص على توجيه الناس إلى كل ما يتعلق بأمور الدين الحنيف وخاصة صيام شهر رمضان، وكان لكل حلقة من حلقات أولئك العلماء الأجلاء مريدون يتابعون دروسهم جلوساً ووقوفاً فضلاً عن ذلك كان عند وحول كل عمود من أعمدة الأموي أناس يلتقون للاستماع إلى المواعظ والإرشادات الدينية، والوقوف على أصول الدين الحنيف ومعرفة ما قد يكون قد خفي عنهم من تلك المعارف.
وكان شهر رمضان شهراً مقدساً قبل الإسلام، وقد ورد في اللغة الآرامية باسم رَمَعَ أي رمض، لأن الضاد العربية، تقابلها العين الآرامية.
ويرى الدكتور حامد الخولي في كتابة رمضان في عصور الإسلام معنيين للفعل رمض، الأول: بمعنى حر الحجارة، لأن الرمضاء هي الأرض الشديدة الحرارة من وهج الشمس.
والمعنى الآخر من قولهم رمضت النصل إذا دفعته بين حجرين ليرقّ بمعنى أنهم أطلقوا على الشهر تسمية رمضان لأنهم كانوا يرمضون فيه أسلحتهم استعداداً للقتال في شهر شوال الذي يسبق الأشهر الحرم.
وعلى هذا فإن الصوم لغة هو الإمساك عما تتنازع إليه النفس والكف عن الإضرار بالآخرين.
وهو (الصوم) في الشرع: الإمساك عن الأكل والشرب ومواقعة النساء من الفجر إلى المغرب، كما أنه الإمساك عن كل ما يغضب الله من قول أو عمل وفي جميع الأحوال فإن الصيام فُرض على الإنسان منذ الأزل، وهو ركن من أركان كل دين، فهو أقوى العبادات، حتى إن الوصية الأولى التي وصى بها الله آدم وحواء، هي وصية الصوم (النهي) عن تناول ثمار إحدى الأشجار، وهو معروف عند قدماء المصريين واليونان والرومان، لكن ذلك الصيام لم يكن مشابهاً لصيام المسلمين، فقد ورد أن السيدة مريم صامت عن الكلام في قوله تعالى: (إني نذرت للرحمن صوماً، فلن أكلم اليوم إنسياً) وقد جاء الصوم في صور متعددة متنوعة، منها الصوم عن بعض الطعام، أو عن الطعام كله، والصيام في بعض ساعات اليوم، أو صيام أيام متتاليات، ومن الصيام ما كان صيام الشكر وصيام التكفير عن الذنوب.. الخ.
وكان غاندي يرى أن الصوم يرقّق الدم فيصفو العقل وتسقط نوازع النفس التي تنحرف بالإنسان عن الصواب وكان يقول: إن الصوم لروحي كعيني لجسدي، ما تفعله العينان للدنيا الخارجية يفعله الصوم للدنيا الباطنية.
وكان صيام العرب قبل الإسلام ينحصر بصيام يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من شهر المحرم وكان رسول الله (ص) يصومه وأمر بصيامه، فلما فرض صيام شهر رمضان ترك صيام يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه.. وكان المسلمون قبل فرض صيام شهر رمضان أيضاً يصومون الأيام الثلاثة البيض، من كل شهر وهي يوم ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر من كل شهر ثم نسخ ذلك بفريضة الصيام في شهر رمضان.
وهناك من يذهب إلى أن القصد من تخصيص النهار بالصيام إنما هو ابتلاء النفس وتمرينها على المجاهدة والمصابرة والجلد أمام غرائز ميول الهوى وانحراف الطبع وقد شرّع الصيام في السنة الثانية من الهجرة فكان أحد أركان الإسلام الخمسة وقد ميز العلماء بين أربعة أنواع للصوم هي:
1 – الصوم المفروض وهو صيام شهر رمضان.
2 – الصوم المحرّم: وهو صوم صيام أيام العيدين وأيام التشريق الثلاثة.
3 – الصوم المكروه وهو صيام يوم الشك وإفراد يوم الجمعة بالصيام وصيام المرأة من غير إذن زوجها، وصيام الدهر.
4 – الصوم المندوب، ويراد به صيام شهر المحرم، وأفضله صيام اليوم التاسع والعاشر منه.
أما شروط الصيام فهي: الإسلام والعقل والصحة والإقامة والنيّة.
وما زلت أذكر توافق الكثير من الدماشقة من أبناء جيلنا والجيل الذي سبقنا وذلك باعتبار شهر رمضان من ثلاثة أقسام (أعشار) حيث يكون الاهتمام بأيام العشر الأولى من الشهر للمرق (الطعام) والعشر الثاني للخرق (كسوة العيد) والعشر الثالث الأخير كان لما يُعرف بصرّ الورق (أي إعداد محلي العيد).
وهذا يفسَّر اهتمامهم خلال أيام العشر الأولى بموائد الإفطار، فينصب اهتمام السيدات على كل ما يتعلق بالطعام وأساليب إعداده أو طهيه ذلك أن الدمشقي على رغبة جامحة في تناول أطياب الأطعمة عند الإفطار، حتى إن من كان يقتصر طعامه خلال أيام الحول (السنة) يعتمد على ما يسد رمقه، فإنه لا يحرم نفسه من أطايب أطعمة الشام، أكان ذلك مما يعرف بالخروف المحشي أو أنواع الكبب والشاكرية واللبنية وكذلك طبخة الباشا وعساكره والمشمشية والشيش برك والشيخ المحشي فضلاً عن صحن الفول المدمس أو فتة المقادم والتساقي على تعددها، ولذلك كان من أهم ما يشغل بال سيدة البيت الدمشقي تلوين مائدة الإفطار بما لذ وطاب وسال من أجله اللعاب، وكنت ترى من سيدات دمشق، وبخاصة الجوار، إذا التقين بزيارة للمباركة بحلول شهر رمضان، ينصب حديثهن على أسلوب إعداد أو طهي تلك المآكل.
ذلك أن الدمشقي معروف بتذوقه للطعام فهو يعرف طعمة فمه، حتى إن من أهم وصايا الأم لابنتها لدى زفها إلى عريسها، أن تكون على عناية كبيرة بما يدخل إلى فمه فضلاً عما تقع عليه عينه وما يشم بأنفه.
فضلاً عن هذا فإن من كانت مائدة إفطاره بسيطة، فإن هذه المائدة لا تلبث أن تحفل بأطايب الطعام، بسبب التقليد الذي عرف به أهل دمشق، وأقصد به أسلوب المساكبة بين الجوار، بما تشتهيه الجارة لجارتها من أطايب ما أعدته لمادة ذلك اليوم من رمضان، وبما تعبر به عن خبيئة شعورها بالزهو لكونها أعدت أطايب الطعام.
فإذا دنت أيام العشر الأوسط من شهر رمضان، انصرف جلّ اهتمام الدماشقة إلى تلبية حاجات الأسرة من الخِرق، أي كسوة العيد من الطربوش إلى البابوج، وبخاصة حاجات الأطفال، وفي أيام العشر الأواخر من الشهر تنهمك سيدة البيت الدمشقي بإعداد ما يعرف بصرّ الورق، أي حلوى العيد من معمول محشو بالجوز أو الفستق الحلبي، ومن التويتات والسنبوسك، والأقراص المحشوة بالعجوة، فضلاً عن الكرابيج.. ثم إرسالها إلى فرن (مخبز) الحارة لخبزها وهي في صاجات (أوان خاصة)… وهم في ذلك لا ينسون الأسر المستورة، التي قد لا يتاح لها عمل محلي للعيد.. وذلك من خلال إرسال صرر تحوي كمية من تلك الحلويات وبذلك تعمّ فرحة العيد الجميع وكل عام أنتم بخير.
وأنا بدوري أقول كل عام ووطننا بخير، حمى الله سورية ووثق عرا شعبها بالحب والإيثار والعطاء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن