من دفتر الوطن

انجلى الغبار وبان الحمار!

| حسن م. يوسف 

«الحق مُوزَّعٌ في الناس، لهذا يظن كلّ منهم أن الحق معه».
تلحُّ عليَّ هذه الفكرة، التي كتبتها في دفتر ملاحظاتي قبل نحو ربع قرن، كلما أوشكت أن أطلق حكماً على أي شخص مهما بدا لي مخطئاً، فإطلاق الأحكام من مهام القضاة، وشتان بين القاضي والفنان؛ فمهمة الكاتب الفنان، برأيي، هي أن يَفْهَمَ الناس ويُفْهِمَهم، أي أن يضعهم في مواجهة حقائقهم الذاتية وظروفهم الموضوعية، كي يفهموا الأسباب الكامنة وراء بؤسهم وتخلفهم، فيعملوا تالياً على التصدي لها وتغييرها، والكتابة، بحد ذاتها، هي فعل فردي عاجز، لكنها عندما تنفذ من قلب وعقل المتلقي إلى وجدانه، تصبح جزءاً من المنظومة الأخلاقية التي توجه أفعاله وأقواله، وهكذا تتحول الكلمة من فعل فردي عاجز إلى قوة حقيقية يزداد تأثيرها في المجتمع بازدياد عدد المتأثرين فيها من أبنائه، وقد سبق لسلفنا الصالح أن توقف عند المسؤولية الكبرى التي تقع على عاتق الكاتب صاحب الرأي، فقد جاء في المثل: «إذا زَلَّ العَالِم زل بزَلَّتِهِ عَالَم».
أواخر الأسبوع الماضي استمعت مصادفة لحوار مع الكاتب الروائي السوري خالد خليفة، ضمن برنامج «عالم الكتب» الذي تبثه هيئة الإذاعة البريطانية، ويمتاز خليفة بأنه أحد أكثر أبناء جيله مواظبة واجتهاداً، فقد وصلت روايته «مديح الكراهية» إلى القائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية عام 2008، وفازت روايته «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» بجائزة نجيب محفوظ للأدب، كما وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، وهو يجدد أدواته الروائية من عمل لآخر، الأمر الذي يتبدى في روايته الأخيرة «الموت عمل شاق».
لا أذيع سراً إذا قلت إنني أختلف كثيراً مع خليفة، لا في رؤاه السياسية وطروحاته الفكرية وحسب، بل في نظرته لطبيعة الفن ومهمته أيضاً، لكن بقاءه في دمشق يجعلني أحترمه، وأرى فيه شريكاً في الوطن، أكثر ممن هربوا، رغم اتفاقي معهم في رؤاهم السياسية وطروحاتهم الفكرية، وقد علل خليفة بقاءه في سورية بقوله: «لم أكن يوماً جباناً أو متواطئاً، كما لم أكن متهوراً أو ساعياً لصفة مناضل، أنا أخاف خارج البلاد أكثر من داخلها، ولا أعرف تسويغاً وتفسيراً لشعوري هذا».
أحسب أن الفن وجهة نظر، لذا من الطبيعي أن تختلف النظرة إليه من فنان لآخر، ولهذا لن أناقش الآراء الفنية التي تفضل بها خالد خليفة في لقائه، بل سأكتفي بالوقوف عند رأيه في مسؤولية ما جرى ويجري على الأرض السورية، فقد قام خليفة بتبرئة المجتمع وكل الأطراف الأخرى من المسؤولية وقام بتحميل المسؤولية كاملة على «العسكر».
ولأن «ظَاهِرَ العتاب خير من باطن الحقد»، أقول للزميل خليفة: إن رأيه هذا كان صالحاً للاستعمال قبل حرب الخليج الثانية، فقد كان المثقفون آنذاك يلقون بكل المسؤوليات على عاتق «العسكر» غافلين أو متغافلين عن حصتهم وحصة قوى المجتمع الأخرى من المسؤولية، والحقيقة أن معظم المثقفين آنذاك لم يكونوا ناقمين على النظام حرصاً منهم على الخير العام، بل كانوا ناقمين على العسكر لأنهم لم يعطوهم الحصة التي يعتقدون أنهم جديرون بها من الكعكة، ودليل ذلك أن بعضهم غيروا أفكارهم عندما وجدوا من يدفع لهم!
ولأن معلمنا النفري يقول: «العلم المستقر هو الجهل المستقر»، أقترح على الزميل خالد خليفة أن يقوم بتحديث آرائه السياسية بحيث تنسجم مع ما جرى ويجري! فالهوى هو شريك العمى كما يقال. ومن الجنون أن نحمل المسؤولية لمن يضحون بدمائهم في سبيل وحدة سورية والسوريين ونبرئ الفاشيين الظلاميين الذين أفواههم تُسَبِّحْ وأيديهم تُذَبِّح!
يقول الشاعر: سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرسٌ تحتك أم حمار
وقد انجلى الغبار منذ مدة لكن كثيرين لا يزالون يصرّون على رؤية حمارهم فرساً!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن