ثقافة وفن

«إلى المسرح»… مشروعُ نقطةٍ في بحر … قره جولي لـ«الوطن»: هذا مشروع بلد ووزارة واحدة لا تحتويه… فالأمر مكلف ولا يُعطى بالمجان

| سوسن صيداوي

من الصفر أو من تحت الصفر، أو بتعبير أدق، من الركام ومن تحت الأنقاض. انطلق بصيص النور، ممسكا بأياد صغيرة تعود لأجساد غضة، ترجف من هول الخوف وتفزع من رعب قرع طبول الحرب وانتشار الدمار الأسود، أيادٍ لأطفال يفترض أن يكون همها هو اللعب والشقاوة مع المرح والغناء واللهو، لكن ما فرضته عليهم الحرب هو همّ سرق من على شفاههم البسمة، واغتصب البراءة من عيونهم، وزرع الخوف والرعب في قلوبهم، لتصبح في النهاية الثقة في مفهومهم للحياة أو مع الآخر، الثقة هي محل نزال وصراع مسلح بالعنف وبالأدوات الحادة وكأننا نعيش في غاب. ولكن، لأن الوطن محبة، والوطن سلام، والوطن للجميع، ونعود إليهم، ولأن هؤلاء الأطفال هم نبض المستقبل، وإذا أردنا مستقبلاً ناجحاً نحتاج إلى طفولة سوية، قام تجمّع أوتار بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ومع اليونيسيف، بتحقيق حلم يؤكد صحة ونجاح فكرة، من خلال إطلاق مشروع «إلى المسرح» على خشبة دار الأسد للثقافة والفنون في دمشق.

أبقى حيث الغناء فالأشرار لا يغنون
بداية الغيث نقطة، والمحاولة حتى لو لاقت الفشل فهي تعزز وتقوي وتجعل المرء مدركا للأمور، وبالطبع مع تكرار المحاولة سينجح، وانطلاقا من هذه الفكرة المعززة بالإرادة القوية والإيمان بالهدف المنشود، ابتدأ عمل تجمع أوتار بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية واليونيسيف، بثلاثة مراكز إيواء في عام 2015، مستهدفين 300 طفل، منطلقين من فكرة «أبقى حيث الغناء فالأشرار لا يغنون»، وبأن الموسيقا قادرة على كل شيء في تجربة على هؤلاء الأطفال، بعدها تمّ تطوير المشروع سنة 2016، حيث شمل ستة عشر مركزا بين مراكز إيواء ومراكز صديقة للطفل ومراكز دور الأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة، وأصبح عدد الأطفال الذين تم استهدافهم 2500 طفل بين دمشق وريفها، بهذه الكلمات حدد الموسيقي وعازف العود جوان قره جولي أهداف المشروع الذي بدأ به تجمع أوتار، مضيفاً: «نحن عملنا على مشروع يحمل اسم «إلى المسرح» وعلى الرغم من أن المشروع معقد وشبه مستحيل، إلا أننا صممنا واتخذنا القرار، ودخلنا على الأطفال في مراكز الإيواء ورأيت العجب، فأنا لم أر أطفالا، بل كان مشروع وحوش، رأيتهم يعيشون في غابة، فالبنت بعمر اثنتي عشرة سنة وهي حامل، ولا أحد يعرف كيف حصل هذا، ولا أفهم كيف هذه الطفلة ستنجب طفلا وتربيه وهي في الأساس طفلة ومازالت تستهويها الدمى والألعاب، وهذه ليست حالة فردية بل هناك أعداد للحالة نفسها، بالطبع هذا أمر مريع، ولهذا قمت بمقابلة السيدة وزيرة الشؤون الاجتماعية، وقلت لها لدينا حل، فالأطفال في مراكز الإيواء نحو ثماني مئة طفل، وسنقوم بإحضار الأطفال إلينا. السيدة الوزيرة استغربت ولكنني شرحت لها وقلت:من خلال تعليمهم الموسيقا. زاد الأمر من استغرابها للفكرة واستهجانها، وخاصة بسبب الواقع المعيشي الذي يعيشه هؤلاء الأطفال. لكنني تابعت في الشرح قائلا:لا يوجد حل آخر، فكيف لهؤلاء الأطفال أن يعيشوا مع أطفالنا الذين يعيشون حياة طبيعية ويمارسون نشاطاتهم في المدارس ويلعبون ويرقصون ويعزفون ويرسمون؟. وكان جوابها: إن مشروعاً كهذا جد خطر. ولكنني قلت لها إننا نحن تجمع أوتار نقبل بالخطورة، ونحن جاهزون للمغامرة وللمجازفة أيضاً. وبالطبع كان الدعم والتمويل من اليونيسيف. انطلقنا إلى المراكز، في البداية الأهل كانوا رافضين للفكرة ولم يأخذوا الموضوع على محمل جد، بل لم يتعاونوا معنا، ولكن بعد فترة قصيرة تغير الحال، وبدأ الأهل يتعاونون جدياً معنا، وخاصة أنهم لمسوا الفرق في أطفالهم، فالموسيقا عملت كعمل السحر فيهم لأنها أثرت في أهوائهم وأفكارهم ومشاعرهم، وبشكل تلقائي أثرت في تصرفاتهم والبعض منهم أصبح مع أهله أكثر تهذيباً وهدوءاً مما سبق».

أوتار: تباً للمستحيل
وضعت الحرب أوزارها وبكل ثقلها على السوريين الكبار والأطفال، ففي النهاية عليهم جميعاً أن يحملوا هموم الحرب السوداء، ولإعادة البسمة والأمل إلى الوجوه وخاصة وجوه الأطفال، تحمّلت مجموعة من الأساتذة المحترفين من فريق أوتار لمدة شهرين، عبء العمل المضني والشاق، عبر التنقل بين مراكز الإيواء المؤقتة للأطفال المتضررين، وتحت ظروف قاهرة تخللها الكثير من المخاطر، وحول ما واجه تجمع أوتار من صعوبات في تحقيق مشروعه تابع قره جولي «في البداية كانت الصعوبات متمثلة بإقناع الكل بأن الموسيقا هي الحل لكل شيء، ومن ثم علينا أن نقنع الأهل بأننا من خلال الموسيقا نستطيع أن نوصل أي فكرة أو تصرف للآخرين، بعدها قام فريقنا التخصصي الفنّي بتعليم الأطفال مبادئ قراءة النوتة الموسيقية، ومجموعة من الأغاني التراثية العربية والمحليّة والوطنيّة، كما تمّ تعليم الأطفال الأحرف الإنكليزيّة، بالإضافة إلى الأرقام وبعض الكلمات، عن طريق أغانٍ كتبت خصيصاً لهذا الهدف، كما تم تعليم الأطفال بعض النصائح الخاصّة بالتصرّف الاجتماعي والممارسات التي تهدف للمحافظة على سلامتهم وأمانهم حيث تحثّهم على عدم العبث بأي جسم غريب يشاهدونه، إضافة إلى أهمية النظافة وآداب الطعام والجلوس في الصف، كما تمّ تعليم الأطفال كيفيّة استخدام بعض الموجودات المنزليّة (عبوات مياه فارغة– كاسات– مطاط- ملاعق– صحون… إلخ) لاستخدامها كآلات إيقاعيّة. وكان في تلك الفترة اسم المشروع «من الإيواء إلى المسرح»، لكننا اكتفينا باسم المشروع «إلى المسرح»، وبالطبع نجح المشروع، وقمنا بتعليم 2400طفل».

ولكن ماذا بعد؟
التجربة نجحت، وأثبت المشروع صحة فكرته ومدى تأثيرها في المجتمع الطفولي المدمّر، ولكن ماذا بعد؟ هل سيكون هناك استمرار له؟ وهل ستكون الجهات المعنية جادة بالتعاون، كي ينطلق المشروع للاهتمام بكل أطفال مراكز الإيواء في المحافظات؟ أجاب جوان قره جولي: «لا يجوز أن نقف هنا، ولكن مشروعاً كهذا وزارة واحدة غير قادرة على احتوائه، ونحن كـ«أوتار» لا نقدر، فالأمر مكلف جدا، وهذا مشروع بلد وهو لا يمكن أن يُعطى بالمجان، فكلنا نعلم بمشاق الحياة وصعوباتها في الوقت الراهن، فالمدرس الذي أرسله كي يعلّم الأطفال، هو بحاجة إلى بنزين ووقت وهو يجازف بحياته من خلال المخاطر التي فرضتها الأزمة كإطلاق الرصاص وغيره من الأمور المرعبة، وفي النهاية لا يمكنني أن أقول للمدرس: هذا عمل طوعي، إذا الأمر مكلف، وكما قلت هذا مشروع بلد، وهو بحاجة إلى شؤون اجتماعية، ثقافة، تربية، أوقاف. وبالفعل كل الوزارات عليها أن تشارك في مشروع كهذا وحتى المنظمات والجمعيات، ولكن للأسف نحن لدينا جمعيات وهي في وسط دمشق، ومرخصة ولم يسمحوا لنا بالدخول كي نهتم بأطفالهم، إذاً مشروع كهذا يحتاج إلى دولة».

إلى المسرح
«إلى المسرح» هكذا اسم المشروع، وكانت الفعالية تحمل الاسم نفسه وهي فنية غنائية وثقافية، أقيمت على خشبة دار الأسد للفنون والثقافة في دمشق، وفيها أعيد الأمل إلى أطفال سورية المتضررين من الحرب بمشاركة 150 طفلاً وطفلة من 16 مركزاً للإيواء المؤقتة في مناطق مختلفة من دمشق وريفها، إضافة إلى مشاركة أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، جمعت الموسيقي وعازف العود جوان قره جولي، والموسيقي أمير قره جولي الذي قام بقيادة الفرقة الموسيقية، وحول الفعالية تحدث قره جولي «بتاريخ 11/12/2016 قدم الأطفال حفلاً على مسرح دار الأوبرا، وأثبتوا أنهم أطفال، وجديرون بالتعلم، وفي الحقيقة كانت النتيجة أكبر بكثير مما نحن كنا نتوقعه، هم 2400 طفل من أصل ثماني مئة طفل تقريبا، ومشروعنا كان نقطة في بحر، ولكن ماذا عن باقي الأطفال فهم بحاجة إلى مشروع ضخم، ويحتاج إلى استمرارية سنتين أو ثلاثاً كي ينجح، ويجب أن يشمل كل المحافظات من أكبر مدينة إلى أصغر قرية. وبالعودة إلى الفعالية، نحن قدمنا الأطفال في هذا المشروع بطريقة شفافة غير مهينة أو جارحة، وبعد الحفل خرج الكل باكيا، ليس شفقة على هؤلاء الأطفال، بل لأننا قدمناهم بوقفة عز وهم مكرَّمون ومتعلمون ليسوا ضعافا أو يستحقون الشفقة، وطبعا الحفل الذي قام به هؤلاء الأطفال يُسجّل في التاريخ لدرجة أنه لا يوجد مكتب لليونيسيف إلا وطلبه».

للمشروع استمرار
هناك عهد وثيق بالمحبة والثقة خُلق بين الأطفال وأساتذتهم، واليوم الأطفال وجدوا أنفسهم وقرروا الاستمرار عازفين ومغنين، إضافة إلى متابعتهم للدراسة لأنهم فهموا حقا مسؤوليتهم تجاه أنفسهم أولا ومن ثم تجاه عائلاتهم ووطنهم سورية، لأنهم هم من سيتعلمون كي يعمروا البلد، وحول المستقبل والاستمرار في المشروع قال قره جولي «في هذه الفترة سنعمل باتجاه آخر، مع الأطفال أنفسهم ومجموعة أخرى ستضاف إليهم، طبعا ما زلت أتكلم عن ريف دمشق، فهؤلاء الأطفال سنعلمهم العزف وسنشكل منهم الأوركسترا الوطنية للموسيقا وسنرفع الملف إلى غينيس بأضخم أوركسترا أطفال، فأضخم أوركسترا في العالم عددها مئتا طفل، على حين نحن ستكون الأوركسترا مؤلفة من 2300 طفل عازف. هذا طموح وحلم، وصحيح أن وضع البلد لا يسمح بمشروع كهذا، إلا أننا لن ندخر جهدا ولا وسيلة كي نتابع مع هؤلاء الأطفال وخاصة بعد أن وضعوا على الطريق الصحيح».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن