اقتصاد

«مداد» مهتمّ بدراسة زيادة الرواتب والأجور كمدخل لتنشيط السوق … مدين علي لـ«الوطن»: مطلوب إعادة هيكلة السوق بحزم أولاً ثم تحسين الرواتب

نشر مركز دمشق للأبحاث والدراسات «مداد» دراسة اقتصادية للأستاذ بكلية الاقتصاد في جامعة دمشق الدكتور مدين علي بعنوان: حول زيادة الرواتب والأجور كمدخل لتنشيط السوق وتحسين مستوى المعيشة «مقاربة أولية» استعرض فيها الباحث مقاربتين يمكن الانطلاق منهما والتأسيس عليهما لاستعادة العلاقة التوازنية بين الدخل والاستهلاك، تتمثل المقاربة الأولى بزيادة الأجور والرواتب، والثانية بإعادة هيكلة السوق، وهي مقاربة متوسطة الأجل.
وفي تصريح لـ«الوطن» بيّن علي أنه في الدراسة انتصر لمصلحة المقاربة الثانية، من خلال خلق منافسة حقيقية في السوق وإقصاء نفوذ القوى الاحتكارية وتجار الأزمات، وهذا يتطلب إجراءات قوية تنفذها الحكومة بشكل حاسم. من دون أن يستبعد مقاربة زيادة الأجور والرواتب نهائياً، بل يجعلها خطوة ثانية على المدى المتوسط، بربطها بالمضي في تنفيذ المقاربة الأولى، منوهاً بأن الأفضل تحسين الدخل الحقيقي للمواطنين من خلال السعي إلى تخفيض الأسعار في السوق، مؤكداً وجود إمكانية لتحقيق ذلك، عبر اعتماد سياسة نقدية تستهدف تحسين سعر الصرف، وقمع الاحتكار، مشيراً إلى أن طرح مخازين المحتكرين في السوق كفيل بتخفيض الأسعار، بنسبة معينة. وخلال حديثه مع «الوطن» لم يتفق الدكتور علي مع مقترح ربط الأجور بالتضخم، بمعنى زيادة الأجور بنسب التضخم ذاتها، على أن يتم إحداث إصلاح نقدي شامل بعد عدة سنوات من ترك سعر الصرف يتحرك بحرية ما دامت الرواتب تزداد، بحيث يتم الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين. ورأى أن هذه السياسة تتطلب توافر مجموعة شروط، هي غير متوافرة في حالتنا السورية، مبيناً أن زيادة الطلب الاستهلاكي عبر الأجور، لا يولد دخولاً حقيقية، بعكس حالة تخفيض الأسعار. وبالعودة إلى دراسة الدكتور علي، فقد بيّن فيها أن المقاربة الأولى يُسرُّ بها كثيراً العاملون والموظفون في القطاع الحكومي، وربما يُسرُّ بها أكثر العاملين في الجهاز البيروقراطي من الوزراء والمديرين الّذين يريدون شراء الوقت، والعمل بمبدأ سياسة القفز، أو الهروب إلى الأمام، وترحيل المشكلات إلى من سيخلف لاحقاً في الموقع، أو الوظيفة. وتتمثل هذه المقاربة، عمليّاً، بقيام الدولة بزيادة الرواتب والأجور، ورفع مستوى التعويضات المالية التي يتقاضاها العاملون، من خلال الإصدار النقدي أو الاقتراض الداخلي، أو من خلال مصادر تمويل استثنائية أخرى (وهي مصادر باتت في جميع الأحوال معدومة). وهذا الإجراء يُعدُّ الأسهل والأبسط من الناحية العملية، لأنه لا يتطلب إجراءات أو تدابير نوعية، لكنه ينطوي بالتأكيد على مخاطر كبيرة في الأجلين القصير والمتوسط، لأن التوجه نحو اعتماد هذه المقاربة، يعني في ظل ضعف مرونة عرض الجهاز الإنتاجي المحلي (المدمّر بنسبة كبيرة منه)، وفي ظل الجغرافيا الاقتصادية المفتوحة على مصراعيها وعدم القدرة على ضبط الحدود، يعني تحول الطلب نحو سلع مستوردة، إما بصورةٍ نظامية أو مهربة، في حال كان الاستيراد مقيداً، أو مقنناً، أو ممنوعاً، وفي جميع الأحوال، سينعكس ذلك ارتفاعاً في حجم الطلب الكلي إلى مستوى يتجاوز حدود القدرات الإنتاجية للسوق الداخلية، التي تفتقر لكلٍّ من (الإنتاجية والاستجابة أو القدرة على التكيف) بالمستوى المطلوب، وهذا ما سيدفع منظومة الأسعار للارتفاع، وبالتالي الانفتاح على حلقة تضخمية جديدة، ما يعني الدوران في حلقة لولبية مفرغة، لن نحتاج لوقتٍ طويل، لنجد أنفسنا وقد عدنا إلى المربع الأول، بفجوة أكثر عمقاً واتساعاً. وينطلق مضمون المقاربة الثانية واقعيّاً من ضرورة تنفيذ سياسات نوعية، تستهدف تغيير خصائص السوق، وإعادة تشكيلها من جديد، وفق قواعد أو مبادئ جديدة روافعها الأساسية: كسر حالة الاحتكار، واختزال عدد الحلقات الوسيطة (وخاصة الطفيلية والمافيوية)، وتأصيل التنافسية كخاصة بنيوية للسوق السورية، وتحفيز العملية الإنتاجية الوطنية، وإعادة توزيع الدخل من خلال أدوات السياسة الاقتصادية وغير الاقتصادية، (غير المترددة، القوية، والفاعلة والصادمة).
إن التوجه نحو تطبيق سياسة اقتصادية، تتضمن في جنباتها مضامين إعادة هيكلة شاملة وخاصة لجهة ما يتعلق بالسوق، وتعزيز مقومات تنمية العرض، وتحفيز الإنتاج المحلي، بموجب خريطة إنتاج تنطلق من أولويات معينة، كلّ ذلك سيؤدي إلى تنشيط السوق الداخلية، ورفع مستوى الاستخدام والتشغيل، وتخفيض البطالة، وتوليد أو خلق مداخيل إضافية توازنية عند مستوى كتلة نقدية أقل (الكتلة القائمة نفسها)، لن يكون لها أي تأثير يُذكر في ارتفاع الأسعار، ولن تكون سبباً له على الإطلاق في جميع الأحوال وفي مختلف الظروف. ويبقى الأهم هو أن تعزيز مقومات تطوير العرض الكلي من خلال الإنتاج المحلي، سيؤدي إلى تراجع حجم الاستيراد، وبالتالي تراجع مستوى حجم القطع الأجنبي المطلوب لتمويل الاستيراد، ما سيسهم بالمحصلة النهائية في تخفيف الضغط على موازين المدفوعات، والقطع الأجنبي، والموازنة العامة للدولة، وهذا سينعكس بصورةٍ إيجابية، لجهة ما يتعلق بالقدرة على توفير الشروط المطلوبة لتمتين مقومات صمود الليرة السورية، كما سيساعد السلطات النقدية والمالية إلى حدٍّ كبير في تحقيق الاستقرار النقدي والمالي، الذي يمكن أن يكون مدخلاً أساسياً للاستقرار الاقتصادي والتوازن الكلي، ويمكن الرهان أو التأسيس عليه لبناء استقرار سياسي واجتماعي مطلوب، متماسك ومتين.
وختم: إن إعادة النظر في الخيار، والانتقال من إطار الالتزام بمضامين المقاربة التي تركز على جانب العرض وتغيير خصائص السوق إلى سيناريو المقاربة التي تركز على تحفيز الطلب المولد للنمو والتشغيل، من خلال زيادة حجم الإنفاق العام، عبر زيادة الرواتب والأجور والتعويضات والنفقات الحكومية الأخرى، يصبح كلُّ ذلك خياراً ممكناً، يجوز اللجوء إليه والاعتماد عليه، إذا ما توافرت شروط معينة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن