ثقافة وفن

للفنان التشكيلي السوري الرائد التزامه بالقضايا العربية والقومية … لطالما جمعت اللوحات قوة تعبيرية واضحة على الرغم من الالتزام في الأسلوب

| سوسن صيداوي

التضحية بأهم ما يكنزه المرء لنفسه وهو الحياة أمر جلّ عظيم، وكيف إذا بُذلت في سبيل الوطن الغالي، وكيف إذا أصبح الدم رخيصاً مقابل حماية قدس تراب أرضنا السمراء من دنس وشرور كل دخيل ومستعمر، هذا العطاء يلمس قلب كل فنان ويحرك أشجانه وعاطفته، وخاصة الفنان التشكيلي الذي يحتضن ريشته بين أصابعه، مازجاً بكل عاطفة وحنو، مع أفكاره وخيالاته، ألوانه كي تنطلق وتعبر عن إيمانه ومسؤوليته تجاه وطن كبير بكل ما فيه وبكل ما يعود له. لهذا في النضال القومي ومعركة العزة العربية لم يكن الفنان التشكيلي، العربي على العموم والسوري على الخصوص، مغيّباً، فلقد وقف جنباً إلى جنب مع حماة الديار وفي الخندق نفسه مع البندقية لتحقيق العزة والتمسك بالكرامة العربية.

التزام الفن التشكيلي

الأحداث المصيرية التي تتالت على البلاد العربية والتي أخذت شكل اعتداءات واستعمار وثورات ضد الاحتلال، كلّها كانت محركاً للفن التشكيلي، وبالنسبة للفن التشكيلي السوري ارتبطت مفاهيم الشهادة به من خلال المناسبات القومية والوطنية السورية ومن أهمها: الثورة السورية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي، نكبة فلسطين عام 1948، العدوان الثلاثي على مصر العربية 1956، وثورة الجزائر العربية، ونكسة حزيران، والثورة الفلسطينية، وحرب تشرين التحريرية. وعليه جاء يوم السادس من أيار يوماً للشهادة وللشهيد، مؤكداً ضرورة الالتزام ‏بقضايا الوطن القومية والسياسية. وحول التزام الفن التشكيلي بالشهادة تحدث الفنان التشكيلي الفلسطيني إبراهيم مؤمنة: «تُفرد للشهيد في الفن التشكيلي مساحات مهمة في أغلب أعمال الفنانين الفلسطينيين منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية. في منتصف القرن الماضي كان للفن التشكيلي دور كبير في إبراز دور الفدائي وتقديس الشهادة، وكان للفنان السوري الكبير الريادة أولاً في هذا المجال من خلال مجموعة بوسترات تخلّد الشهيد، وكذلك لم تخلُ لوحة من لوحات الفنان الكبير الراحل إسماعيل شموط من إبراز دور الشهادة من أجل تحرير الوطن المغتصب وكذلك الفنان الراحل مصطفى الحلاج، والكثير الكثير من الفنانين الفلسطينيين والسوريين كان لهم دور كبير في تخليد الشهادة والشهداء والأعمال الفنية مليئة بالشواهد».

سعد قاسم يحكي رواد التشكيل والشهادة

اتخذ تصوير موضوع الشهادة من مهنية وشفافية رواد الفنانين التشكيليين السوريين بعداً واضحاً، تجلى من خلال استخدامهم أساليب تسجيلية وتقريرية، كي يوصلوا المعاني السامية للشهادة ونبلها من خلال تصوير مآسي الاستعمار وأساليبه والظلم الواقع على الشعوب. وحول مسيرة الحركة الفنية التشكيلية السورية في تصويرها للشهادة تحدث الفنان التشكيلي السوري سعد القاسم: «قد تكون اللوحات التي صورها سعيد تحسين (1904- 1985) عن أحداث عاصرها، هي أقدم الأعمال الفنية التي تطرقت إلى موضوع الشهادة، وتحديداً لوحة (ميسلون) التي يحتل الشهيد (يوسف العظمة) مركزها، وقد سقط عدد من جنوده شهداء في ذروة احتدام المعركة، وبعد سنوات كثيرة صور (عاصم زكريا) المعركة والشهيد في لوحة شهيرة محفوظة في المتحف الحربي في دمشق. وهناك لوحتان لـ(سعيد تحسين) تتناولان موضوع الشهادة بشكل غير مباشر، الأولى لوحة(المجاعة)التي تصور واحدة من أقسى مراحل الاحتلال العثماني، ويظهر في عمقها مجموعة من الشهداء متدلين من حبال المشانق، ولوحة (الاعتداء على المجلس النيابي)، والتي تكاد تكون الوثيقة البصرية الوحيدة التي توثق هذه الجريمة المروعة التي ارتكبها جيش الانتداب الفرنسي.
قبل عشر سنوات فقط أتيح لنا من خلال معرض استرجاعي أقيم لـ(ميشيل كرشة) في المتحف الوطني في دمشق مشاهدة لوحة ثلاثية صغيرة إلى حد يمكن الاعتقاد بأنها مشروع لوحة أكبر. هذه اللوحة التي تحمل عنوان (يوم لم يكن لدينا جيش) مؤرخة عام 1947 وتصّور الجنرال (غورو) يرفع يده اليسرى بالتحية العسكرية (يده اليمنى مقطوعة) لقبر يحوم فوقه طيف شهيد بجوار إكليل يحمل ألوان العلم الوطني، فيما تمتد وراءه مقابر كثيرة وفي آخرها ملامح دمشق وجامعها الكبير. وخلف الجنرال الذي يشغل الجانب الأيسر من اللوحة اصطف قادته وأفراد سلطته وآليات جيشه وجنوده الذين اقتيدوا قسراً من المستعمرات الإفريقية وبينهم فرسان عرب. أما في الجانب المقابل فنجد حشداً تتقدمه أرامل وأيتام تشير إليهم ملابسهم السوداء، ويطل من فوق الحشد طيف رأس حصان حزين وكأنه يرثي فارسه الشهيد. ومع أن عنوان اللوحة يحمل تعبيراً قوياً، فإنها من دونه لم تكن لتخسر شيئاً من قوتها التعبيرية رغم أن الفنان ظل فيها ملتزماً إلى حد بعيد بأسلوبه الانطباعي. ‏
وقدم (فاتح المدرس) منذ عام 1967 سلسلة لوحات تحت عنوان (الشهيد) في كل منها عدد من الوجوه، يفيض في إحداها عن العشرة، تحكي عن سورية وفلسطين ولبنان الذي تركزت صورته المقاومة في يدين اثنتين مشدودتين، كل منهما على سلاحها، ووجوه قررت الصمود حتى الموت أو النصر، «لبنان- المقاومة» 1968 لوحة أشخاصها أشبه ما يكونون بعمالقة، أطوالهم متفاوتة، رؤوسهم مغطاة بتيجان المولوية، خطاهم وئيدة، يتحركون بثبات، لن يبدلوا خط سيرهم مهما كلف الأمر، أمامهم رأس شهيد وضع على خشبة، وفي أعلى مستوى ثانٍ، دقيق العرض، سماؤه زرقاء صافية، وفيه ما يشبه البيوت، خلفوها وراءهم وإليها يعودون. وطريق النزوح، يقابله طريق العودة، تعلنه وتبشر به لوحة «المسيح يعود إلى الناصرة» 1980، التي هي عودة الفلسطيني ومعه السلام إلى أرض آبائه وأجداده.
وبدوره أنجز (نذير نبعة) عدداً من أهم اللوحات التي تناولت موضوع الشهادة، وكانت البداية مع عدد من اللوحات عن «النابالم»، تلك القنابل الوحشية التي ألقتها «إسرائيل» على الجبهة السورية عام 1967، فجعلت أجسام ضحاياها مساحات متفحمة مفزعة، وحولت الزمن الفاصل بين التصاق المواد القاتلة بأجسامهم، وموتهم، مساحة مرعبة من الألم الذي لا يحتمل. وفي وقت لاحق رسم لوحة ثانية تدين الإجرام الصهيوني بعنوان«مدرسة بحر البقر» إثر الجريمة المروّعة التي ارتكبتها الطائرات الإسرائيلية حين قصفت في الثامن من نيسان 1970، مدرسة أطفال في مصر ما أدى إلى استشهاد ثلاثين طفلاً وجرح خمسين آخرين، وتدمير مبنى المدرسة بأكمله. وفي الفترة ذاتها تقريباً أنجز لوحة بالغة الأهمية تصور فدائياً فلسطينياً يستلقي شهيداً على عتبات (القدس)، وقد بانت من محفظته صورة ابنه الطفل. وفي أواخر السبعينيات أنجز (نذير نبعة) لوحة ثلاثية عملاقة تحمل عنوان (الشهيد)، وتصور بأسلوب رمزي حالم شهيداً يتهاوى ممسكاً بسيفه تحيط به فتاتان تعزفان على الناي لحناً حزيناً.

في التجربة الشخصية

التجربة الشخصية هي أهم برهان على تمسك المرء بمبادئه وبقضاياه التي يلتزمها، والتي يسعى خلالها إلى تقديسها، وعن تجاربه الخاصة المجسدة لالتزامه بالقضية والعروبة والشهادة، تحدث الفنان التشكيلي إبراهيم مؤمنة «بالنسبة لي فمنذ أن تفتح وعيي واحترفت الفن التشكيلي، كانت معظم أعمالي تتجه نحو تخليد الفداء والشهادة، على اعتبار أن أجساد الشهداء ملح للأرض ودماءهم نبيذ أحمر يروي الأرض العطشى لتنبت شوكاً يخز الضمائر الميتة وتحرض النفوس الثائرة المتعطشة للفداء والتحرير، فكانت لوحاتي تخليداً وتقديساً للشهادة والشهداء الذين ضحوا بدمائهم وأرواحهم من أجل الوطن، وفي هذه الأزمة التي تعصف بسوريتنا والهجمة الإرهابية الحاقدة وما قدمته سورية وجيشها العقائدي، وما قدمته القوى الرديفة والمقاومة الفلسطينية من شهداء على أرض سورية، أصبح لزاماً علينا أن يكون صلب اهتمامنا هو تقديس الشهادة والشهداء دفاعاً عن الأرض والعرض. لقد ضحى الشهداء بأغلى ما عندهم. روحهم فداء للوطن، فمن واجب الوفاء لهم أن يكون للفن دور كبير في إبراز بطولاتهم وتضحياتهم، وقد رسمت مجموعة من الأعمال التي تقدس الشهادة والشهداء، منها ما نشر ومنها ما زالت في جعبتي وستظل الريشة المقاومة تقف جنباً إلى جنب مع البندقية المدافعة عن الوطن».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن