ثقافة وفن

كيف يؤلِّفون الكتب؟

| د. رحيم هادي الشمخي

حزمت (مرغريت ميد)- وهي باحثة إيرلندية في علم الإنسان (الأنتربولوجيا)-حقائبها، وطارت إلى غابات الأمازون، وما إن هبطت بها الطائرة حتى اتجهت مدفوعةً بحب الكشف والاكتشاف، إلى جوف الغابات الأمازونية يرافقها خمسة من الرجال العراة، أما الهدف من هذه الرحلة الخطرة وغير المأمونة فهو أن هذه الباحثة أصرّت على تأليف كتاب عن قبيلة (الأرابيش) البدائية التي تسكن في أعمق نقطة في غابات الأمازون والتي لم يلفحها هواء الحضارة أو المدنية الحديثة، وقد نجت هذه السيدة بأعجوبة بعد أن لدغتها أفعى وهي في طريقها إلى مضارب القبيلة، عاشت (ميد) سبع سنوات كاملة في مساكن القبيلة فأكلت من طعامها وشاركت في أفراحها وأحزانها، ومارست عاداتها وتقاليدها، وساهمت في نشاطاتها حيث كانت ترافق الرجال والنساء في رحلات الصيد البرية والنهرية، والأهم من ذلك أنها كونت فكرة واقعية عن الحياة البدائية.
والخلاصة أنها ألّفت في هذه الفترة الطويلة كتاباً عن هذه القبيلة تحوّل إلى مرجع لا غنى عنه لكل من يريد أن يعرف أو يطلع عن هذه الأقوام البدائية في غابات الأمازون.
عالم آخر يدعى (روبرت ماكريزون) تسلّق أعلى قمة في الجبال المنتصبة في كشمير الهند، لقد تجشّم هذا الرجل مصاعب لا تعد، وركب مخاطر لا تُحصى، من أجل أن يلتقي بشعب (الهونزا)، الذي يعيش منذ مئات السنين منعزلاً فوق تلك الهضاب، لقد أمضى (ماكريزون) وسط هذا الشعب عشر سنوات بتمامها من عام 1904 إلى عام 1914، تعرّف خلالها إلى عاداته وطقوسه، والأهم من ذلك أنه عرف (سر الحياة الجديدة) التي يتمتع بها أفراد هذا الشعب، إن قليلين جداً يموتون في عمر الثمانين أو التسعين، بل إن الأغلبية الساحقة من الرجال والنساء يموتون في عمر المئة، وإن ربع الشيوخ في هذا الشعب هم من المعمرين الذين تتراوح أعمارهم بين 115 و130 عاماً، والأخطر من هذا أن شعب (الهونزا) لا يعرف الطب ولا الأطباء وأن الشخص الهونزي يحتفظ بأسنانه حتى الموت، وغيرها من العجائب والغرائب التي اكتشفها (ماكريزون).
وماكريزون هذا شأنه شأن (ميد)، خرج بعد عشر سنوات بحصادٍ لا يقدّر بثمن وهو كتاب مهم يتحدّث فيه عن أساليب التغذية الصحيّة، أما عنوان الكتاب فهو (دراسة الأمراض التي تسببها التغذية الخاطئة والناقصة) ورغم مرور قرابة التسعين عاماً على صدور هذا الكتاب فهو لا يزال مرجعاً لا غنى عنه لكل العلماء والباحثين في مجال الصحة والتغذية.
وهنا نريد أن نقول شيئاً له معنى وهو: هكذا في الغرب يؤلفون الكتب، فتأليف كتاب يعني أن يقطع المؤلف من عمره عشرة أعوام أو عشرين عاماً، باحثاً ومدققاً ومفتشاً عن الحقيقة، ومهما كانت هذه الحقيقة صعبة وعسيرة، ففي نهاية المطاف يخرج بقطاف معرفي يخدم البشرية جمعاء، هكذا يؤلفون الكتب في علم السياسة والفلك وعلم الاجتماع والاقتصاد والأدب والفن، فيا ليتنا نحن العرب نتعلم كيف نتعاطى مع قضايا العلم والمعرفة والثقافة، فالتأليف العربي، ما عدا القليل منه يفتقد إلى تلك الميزة، ميزة الصبر والجَلد والحفر في الأعماق من أجل استخراج الدرر والجواهر المعرفية، فنحن نبيّض الكتب ولا نؤلفها، وبعد فنحن نتمنى على مؤلفينا وكتابنا أن يحترموا قراءهم فلا (يبيّضون لنا كتباً لا تسمن ولا تغني من جوع) ولا تقدم حداً ادنى من المعرفة، بل حرام الورق والحبر والطباعة التي صرفت عليها، كما نتمنى على نقادنا أن يذهبوا إلى طبيب نفسي ليعالجوا هذه (الفوبيا) أو هاجس الخوف من المؤامرة التي تتحكم بكتاباتهم وتصنع وجهة نظرهم.
ولنبحث عن الجانب المشرق في تأليف الكتب العربية العلمية والإنسانية لكي نلحق بركب العالم المتقدم في مجال التأليف والنشر مثلما كان آباؤنا وأجدادنا العرب الأوائل يطوفون حول العالم ليؤلفوا الكتب عن العالم المتقدم ونشاطاته المذهلة، وابتكروا صيغاً جديدة في التأليف علموا العالم هذه الأبجدية التاريخية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن