ثقافة وفن

اسم أيمن زيدان اجتذب الجمهور إلى المسرح و«اختطاف» جعلته يعيد الكرة

| نهلة كامل- «ت: طارق السعدوني»

قالت لي شابة تجلس أمامي: هذه هي المرة الثالثة التي أحضر فيها قبل العرض، أيمن زيدان لا يمثل في المسرحية لكنها تشبهه، كان ذلك قبل عرض مسرحية «اختطاف» من إخراج الفنان المبدع أيمن زيدان. على مسرح الحمراء. اسم أيمن زيدان استطاع أن يجذب المتفرج أولاً لكن الفرجة المسرحية الذكية والمتقنة هي التي جعلته يعيد الكرة ثانياً وثالثاً، فكان ذلك الازدحام اللافت الذي ذكرنا بسنوات مسرح الحمراء الذهبية.

لماذا الكوميديا السياسية؟
ولا يخفى على المتابعين أن وزارة الثقافة، ممثلة بمديرية المسارح، تأخذ على عاتقها إعادة تفعيل دور المسرح في الحياة الثقافية السورية، هذه المهمة الصعبة التي تحتاج إلى رجال ثقافة ومسرح يبتكرون صيغاً ورؤى ذكية وخلاقة تتناسب مع جديد الجمهور والواقع المعيش، هنا نستطيع القول: إن الفنان الكبير أيمن زيدان يقدم في مسرحية «اختطاف» إحدى هذه الصيغ التي تخوض بنجاح تلك المهمة، وهي تختار الكوميديا السياسية.
وسأعود إلى عفوية الشابة التي أكدت اجتذاب العرض للمتفرج مع أننا عادة لا نبني فوق الآراء الفردية الخاصة، لكن ما أوقفني هو قولها إن العرض يشبه أيمن زيدان الذي وجدته يستند إلى حس سليم. فكيف وماذا يعني هذا؟!
يتمتع الكبير أيمن زيدان بمواصفات خاصة بين المثقفين والممثلين والمخرجين، وهي أنه يتحرك فوق أرض ثقافية شاسعة، لكنه يتمثلها بدأب خلاق، كلها في آن ويبني فوقها فنه الأصيل الخاص الذي لا يشبه أحداً سواه، هذا السحر الذي لم يكن إلا أيمن زيدان في الدراما والسينما والمسرح، كان لافتاً في فن الكوميديا الذي اختاره زيدان في مسرحية «اختطاف» الآن كحل درامي طالما ابتكره وأتقنه.
وهكذا جاءت المسرحية التي عكست مواصفات عديدة في التأليف والإعداد والإخراج وتقاطعت أفكارها وأساليب تقديمها في صيغة أيمن زيدان المسرحية المبتكرة لتحقيق عرض مسرحي يجمع الدهشة إلى الرشاقة والانسياب الكوميدي المتصاعد حتى يبلغ الذروة وكأنها العفوية ذاتها، وهنا يكمن الإبداع، ربما دائماً، لدى أيمن زيدان المخرج كما الفنان في تجارب أخرى…

الصدمة الهزلية
حقق اختيار أيمن زيدان لنص مترجم تحت عنوان «أوراق التوت…» للمؤلف المسرحي الإيطالي داريوفو «الحائز جائزة نوبل عام 1997» أهدافاً إبداعية متعددة أولها تحديد الكوميديا السياسية للعرض.
فالكاتب يتعدى التأليف إلى احتلال موقع رجل المسرح الشعبي الذي يقيم علاقة صادمة مع ذهن المتفرج وذائقته الفنية. مستفيداً من التراث الشعبي للكوميديا الإيطالية «كوميديا دي لارتي»، التي تقتحم عالم الظواهر والمظاهر السياسية الرأسمالية المتوحشة والمزيفة بقصد فضح حقيقتها العنيفة والمتشابكة مع الإرهاب داخل بيئتها وخارجها، المؤلف ابن التراث الشعبي الذي يفضل استخدام الكاريكاتيرية والهزلية والغرابة في إبداع المسرح السياسي الكوميدي، ويقدم نصاً ينظر بعينين واحدة على رشاقة الخشبة، والأخرى على تحقيق حراك يهاجم السطحية داخل ذهن المتفرج. وهنا يكمل نص «اختطاف» من إعداد أيمن زيدان ومحمود الجعفوري ذلك الطموح في أسلوب الكوميديا، التي هي أصعب الفنون، مستفيداً من مسرح داريوفو القابل للتناسخ لأنه يعطي هامشاً واسعاً للتجديد وتحقيق العرض الأرشق والأعمق في الزمان والمكان المناسبين، وهكذا كان عرض اختطاف مجدداً في جعل المكان مسرح الحمراء- دمشق، والزمان الأوقات العصيبة التي نعيشها حيث تشكل ظاهرتا الاختطاف والإرهاب المظهر السطحي فقط لحقيقة سياسية مرتبطة بالعمق بسيطرة الاحتكارات الرأسمالية على النظام الدولي.
يستفيد عرض اختطاف من قضية اختطاف منظمة الألوية الحمراء لرئيس الوزراء الإيطالي السابق ألدومورو عام 1978. حيث لم تفلح رسائله، وهو لدى الخاطفين، لمبادلته بثلاث رهائن لدى الدولة الإيطالية فكان أن أعدمته الألوية رداً على تعنت الدولة وفشل الفاتيكان والأمم المتحدة بتحقيق المبادلة… ويكشف عرض «اختطاف» مفارقة رضوخ السلطة لمطالب رجل أعمال إيطالي ادعى أنه مختطف للمطالبة بإطلاق سراح 36 سجيناً لدى الدولة وحصل على مطالبه من دون إبطاء.
وربما يجب ألا نطيل في عرض أحداث «اختطاف»، ليس لأن قراءتها كامنة في مراقبة هذا التكامل الفني المبدع برشاقة على الخشبة، بل في الإشارة إلى جعل بيئتها قريبة من حياة المتفرج، وعادية شخوصها. والأخذ بيد الأحداث إلى أبعادها الحقيقية في مستويات السياسة ودوائرها حتى مكان اتخاذ القرار الذي يتحكم، بالنهاية، في مصائر الشعوب.
إذاً الانطلاق من العادية والعفوية والهزلية إلى الحقائق الجدية والغرائبية من دون الخروج عن الأسلوب الكوميدي هو اختيار أيمن زيدان في «اختطاف» وهو يطلق اللعبة المسرحية الهزلية حتى الهاوية لكنه يجيد التحكم بانفلاش المظهر الهزلي بأي لحظة، وهو يعيده إلى إطار الكوميديا السياسية.
والجدير بالذكر أن الهزلية في «اختطاف»، كما هي في أفضل حالاتها، ليست تهمة بل إحدى أهم الركائز المسرحية، والكوميديا السياسية على وجه الخصوص، لأنها أفضل أسلوب لإطلاق السخرية الشعبية إلى درجة تحطيم الهيبة، وكسر إطار العظمة والقدسية المزيفة عن الشخصيات والمؤسسات والأنظمة، وإظهارها فاسدة متقيحة عارية أمام عين المتفرج الشعبي.
وحيث تبدأ الأحداث في «اختطاف» بسيطة متعالية النبرة ومتسعة الدوائر، يقف خمسة ممثلين على خشبة المسرح ليقدموا عرضاً يتحدث عن حادثة سير تقع لرجل الأعمال الكبير «آجيلي» تهشم وجهه، حيث ينقذه العامل البسيط «أنطونيو» ويلبسه سترته وفيها أوراقه الثبوتية.. حبكة المسرحية كانت في إعادة تشكيل وجه «آجيلي» على شكل ملامح أنطونيو، ومن هنا تبدأ المفارقات الكوميدية والسياسية حين تظهر كل من زوجة أنطونيو روزا وعشيقته لوتشيا بحثاً عنه بعدما أصبح آجيلي. وفي دوامة المستشفى والتحقيق، ورجال الأمن، يقرر آجيلي انتهاز الفرصة وإعلان أنه مختطف، أي يختطف نفسه. طالباً الإفراج عن 26 سجيناً لدى الدولة لإطلاق سراحه، حيث تتكشف حقائق المجتمع الرأسمالي الذي يرضخ لإرادة رجل الأعمال الكبير، بينما كان ضحّى برئيس الوزراء من قبل ولم يطلق سراح 3 أسرى، خاتماً الدوامة بإيقاف المحقق وتعذيبه لأنه كان على وشك إعلان الحقيقة.
وإذا كان علينا وجوب قراءة العرض في تكامله الفني على الخشبة، وجب علينا التأكيد على أن خمسة ممثلين جرى تدريبهم وإعدادهم جيداً لاستيعاب اللعبة بكل أبعادها المطلوبة في مفهوم المسرح السياسي الكوميدي… خمسة شبان لا يهدؤون ملؤوا أبعاد «الميزانسين» المسرحي خرجوا من الخشبة إلى الصالة وبالعكس، قاموا بدور الممثل والراوي وهم يرتدون أقنعة يؤدون أسلوب التغريب البريختي، حيث أصبحت الشخصية الخاصة عامة، والعادية غريبة والغرابة حقيقة، يؤهلهم أداؤهم الجسدي القوي والرشيق واستيعابهم لمفهوم الحركة الهزلية. كانوا أساس الأسلوب اللاهث للدهشة الخارجة عن الترويض الفردي المنفلت إلى أن تطوقه دائرة السياسة، خمسة ممثلين شباناً يستحقون التنويه بأسمائهم هم: لوريس قزق الزوجة، نجاح مختار العشيقة، لجين إسماعيل وهو يؤدي دوري أنطونيو وآجيلي، توليب حمودة الطبيبة، وانطوان شهيد المحقق، وخوشناق ظاظا الذي أدى دوري الممرض والشرطي.
ممثلون أجادوا في تصوير تفاصيل المسرح السياسي الكوميدي، والتفاصيل حظيت بأولوية لدى أيمن زيدان التي اختارها من كل بستان زهرة، واستطاعوا أن يتوحدوا في أجواء العرض كمقطوعة موسيقية متواصلة التوالد من رحم الكوميديا لمدة ساعة وربع حيث كسر المتفرج الحاجز بينه وبين الخشبة لأنه استجاب متفاعلاً مع أسلوب العرض الكوميدي حتى الختام.

الإخراج بطل العرض
يقترب عرض اختطاف من عقل المتفرج السوري باحترام وحذر كصيغة لاجتذاب الجمهور إلى الصالة، فلا يلوي عنق العرض للتقاطع مع الزمان والمكان السوريين ولا يجري إسقاطات مباشرة على واقع المتفرج، بل يترك المقارنات والمفاهيم حرة أمامه، ويهتم بإقامة فرجة مسرحية كوميدية بعيداً عن الوعظ القاتل في عالم المسرح السياسي، تتقاطع حقائقها بتحقيق إرادة الرأسمالية بانتصار آجيلي على دوائر مجتمعة أفراداً ورجال أمن ومؤسسات.
ويعرف أيمن زيدان الذي يتكامل في أسلوبه الفني وفهمه السياسي ماذا يريد من العرض الذي جعله أقرب في تفاصيله إلى الشعبية والعفوية، لكن الحقيقة المقابلة هي أن زيدان المخرج كان يتحرك فوق معايير مدروسة، نابعة من ذهنية مسرحية واضحة، حيث يمنع العرض من السقوط في هاوية استجلاء الابتسامة، وهو سيمنحه في الوقت ذاته خشبة تتحرك في أبعاد فيرانسين مادي وذهني، وتقنية مسرحية لا يمكن أن تشعر بأي لحظة أنها مقحمة على العرض أو متظاهرة بالفوقية على عفوية المتفرج التي ابتهجت لمشاركتها في الفهم المتبادل، بضحكها أو ابتسامتها حتى النهاية.
والحقيقة الكامنة وراء الخشبة هي أن أسلوب الإخراج كان بطل مسرحية (اختطاف) حيث أدرك أيمن زيدان أن صيغة العرض المثلى هي أن يترك الأحداث تتوالى في عفويتها وحتميتها، فلم يضع حواجز من المواقف السياسية المقحمة ولا الشخصيات العامة أو الخاصة المعترضة، بل ترك المفاهيم للجريان في عفوية مسارها جارفة معها حقائقها إلى خضم المياه العميقة.

احتفاء ببريخت وداريوفو
أما النجاح في عرض اختطاف فقد كان في مقاربة العفوية بأسلوب إخراج مدروس اعتمد على مدارس مسرحية كبيرة لخلق صيغة استطعنا القول إنها خلطة أيمن زيدان ذات المعايير الدقيقة لتقديم مسرح سياسي كوميدي، ومشهد هزلي يستطيع خلع أوراق التوت عن الحقيقة السياسية ورقة ورقة حتى الفضيحة العامة.
والجدير ذكره هنا، أن صيغة أيمن زيدان الإخراجية الناجحة والمثقفة كانت في أنه احتفى بتقديم المدارس المسرحية التي بنى عليها، ولم يخف الأساليب المتقاطعة في صيغته، بل كلاعب يبرز أوراقه كلها ومخرج يكرم عمالقة المسرح: قدم أسلوب بريخت واضحاً بكل حفاوة، وأخلص للكوميديا الإيطالية «كوميديا دي لارتي» وهي بيئة المؤلف داريوفو ومصدر تكريس أسلوبه كرجل مسرح شعبي، وكان لافتاً، إذاً، أن تتحرك هذه الأساليب والاتجاهات المكرمة على خشبة المسرح، كأبطال ساندوا زيدان وحضروا لإبراز حقائق اختطاف وانتشلوها من العادي المحلي إلى الكوني وبالعكس، هذه الصيغة حققت بجدارة رؤية أيمن زيدان لتفعيل المسرح وإقامة علاقة قادرة على جذب المتفرج مرات إلى الصالة.
مسرحية «اختطاف» من تأليف رجل مسرح شعبي كداريوفو، تؤهل مخرجها الناجح أن يتقدم إلى موقع رجل المسرح الشعبي في بيئته، وأيمن زيدان استطاع دوماً ترجمة شعبيته بأساليب كثيرة «اختطاف» إحداها.
ويجب أن أختم هنا أنني شاهدت الشابة تستمتع بأحداث «اختطاف»: تضحك من قلبها، وتظهر حماسة لاستيعابها المستويات الحاسمة والذكية في المسرحية ولم أستبعد أن تعيد مشاهدة العرض للمرة الرابعة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن