ثقافة وفن

التراث الثقافي غير المادي المتوارث يتفق مع البيئة والتاريخ … طلال معلا: ينمي الإحساس بالهوية والشعور باستمراريتها ويعزز من احترام التنوع الثقافي

| سوسن صيداوي

تعبير عن نفسية الشعب، مفتاح شخصيته، ذاكرة الشعوب وهويتها، كلها مفاهيم تنصب في إطار واحد إلا وهو التراث الثقافي غير المادي، والذي يتجلى في جميع المظاهر غير المادية وغير الملموسة لمختلف تشّكلات وتنويعات التراث الإنساني المرتبط بشكل مباشر بهوية مبدعيه، ممثلا التطور الذهني والتاريخي والاجتماعي للأفراد والجماعات والمجتمعات البشرية المعنية به، لأنه المعبّر عن أصالتها ووجودها وتمايزها على مستوى المجتمعات الإنسانية، فعلاقته في النهاية جلية بالحقوق، وهذا الأمر دفع المجتمع الدولي والمنظمات الدولية لمراجعة سبل التعريف به، وبأساليب الحفاظ عليه، وصونه بكل أشكاله انطلاقا من بنية تشريعية قانونية تمثلت في صياغة اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي عام 2003 في منظمة اليونسكو، هذه الاتفاقية التي عرّفت التراث غير المادي وحددت ملامحه وتقسيماته وأبرزت عناصره الرئيسية مستندة إلى فهم فلسفي متكامل لبعض جوانبه، انطلاقا من بعض النماذج ذات الصبغة القانونية التي تستهدف التراث الثقافي العالمي كاتفاقية 1972. وللحديث أكثر حول التراث الثقافي غير المادي بمفهومه وماهيته، وأهميته، وكيفية حمايته، أقيمت محاضرة بعنوان»التراث الثقافي غير المادي.. تراث الشعوب الحي» التي قدم فيها خبير التراث غير المادي لدى اليونيسكو طلال معلا بحثه حولها، إضافة إلى مداخلة كل من الأساتذة:د. عمار محمد النهار، الباحث محمد فياض الفياض، د. إسماعيل مروة.
ماهية التراث الثقافي غير المادي

ارتبط مفهوم التراث الثقافي غير المادي بتطور تعريف الثقافة، ففي عام1982تم الاتفاق في إعلان مكسيكو بشأن السياسات الثقافية على تعريف الثقافة باعتبارها «جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعا بعينه أو فئة اجتماعية، وتشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة والحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم المدنية والتقاليد والمعتقدات»، فالثقافة على هذا الأساس تمثل القدرة على التأثير والتعبير وتعبر عن مصلحة الجماعة، فتعبر عن أحوالهم وتحدد هويتهم وترسم مستقبلهم، وعلى هذا الأساس يتم فهم التراث الثقافي للشعوب بشقيه المادي وغير المادي على حد سواء، وحول ماهية التراث الثقافي غير المادي يضيف خبير التراث غير المادي في اليونيسكو طلال معلا قائلاً: «يقصد بعبارة التراث الثقافي غير المادي ما ذهبت اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي عام2003 إلى تعريفه بأنه:الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات-و ما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية-التي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحياناً الأفراد، جزءا من تراثهم الثقافي، وهذا التراث المتوارث جيلا عن جيل، تبدعه الجماعات والمجموعات من جديد بصورة مستمرة بما يتفق مع بيئتها وتفاعلاتها مع الطبيعة ومع تاريخها، وهو ينمي لديها الإحساس بهويتها والشعور باستمراريتها، ويعزز من ثم احترام التنوع الثقافي والقدرة الابداعية البشرية. ولا يؤخذ في الحسبان لأغراض هذه الاتفاقية سوى التراث الثقافي غير المادي الذي يتفق مع الصكوك الدولية القائمة المتعلقة بحقوق الإنسان، ومع مقتضيات الاحترام المتبادل بين الجماعات والمجموعات والأفراد والتنمية المستدامة»، متابعاً في الحديث «وفي ضوئه يتجلى التراث الثقافي غير المادي بصفة خاصة في المجالات التالية:التقاليد وأشكال التعبير الشفهي بما في ذلك اللغة، فنون وتقاليد أداء العروض، الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات، المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون، المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليلدية».

أهمية التراث الثقافي غير المادي
أشار خبير اليونيسكو معلا، إلى دواعي أهمية التراث الثقافي غير المادي، الثقافية والحضارية والاقتصادية والاجتماعية والوطنية، وإلى التي تتعلق بمخاطر العولمة وتحدياتها وكذلك إلى الأمور التربوية والتعليمية، متابعاً: «فعبره يتم التركيز على الدور الحضاري للشعوب والمحافظة على مكونات الثقافة غير المادية، الشعبية الفولكلورية والشفاهية من الاندثار، بل إن هذا الحفاظ إنما يحقق التواصل المعرفي والوجداني بين الأفراد والجماعات ويطور إحساسهم بالمسؤولية المشتركة إزاء تراث بلدانهم وإغناء تنوعهم الثقافي وكل ما يجعلهم يسعون لصون تراثهم غير المادي وإدارته ورصده وحصره بغية الإسهام في التنمية المستدامة ومن أجل زرع قيم جديدة للأطفال واليافعين وكل ما يساعد في إدراك الجذور والهوية الثقافية الاجتماعية. إن توعية الشباب بأهمية التراث الثقافي غير المادي، يصب في خدمة التنمية وفي تأمين فرص عمل للشباب وكل ما يربطهم بمناطق وجودهم، إنه يسهم في خدمة مالكيه وممارسيه ومبدعيه لتحقيق التنمية المستدامة، إضافة إلى أنه يشكل عاملا مهما في الحفاظ على التنوع الثقافي في مواجهة العولمة المتزايدة».

الحماية القانونية وسيلة
تحدث معلا عن الحماية القانونية لهذا التراث، مشيراً إلى أن هذه الحماية ليست غاية بل هي وسيلة من وسائل الصون التي من دونها يكون الصون دون جدوى، متابعاً «خبراء الويبو واليونيسكو عملوا لإنجاز نموذج لحماية التعابير الثقافية التقليدية المعترف بها قبل وجود الاتفاقية، وتتضمن مكافحة الاستغلال غير المشروع للتعابير الثقافية التقليدية، وسائر الأعمال المضرة بهذا التعبير الثقافي، ففي عام 1984فشلت الويبو بإنجاز اتفاقية دولية في هذا المضمار. وفي عام 1997طرحت الويبو في المنتدى العالمي لليونسكو حماية الفلكلور. وفيما بين عامي 1998-1999 قامت الويبو ببعثات تحقيق لحماية التعابير الثقافية التقليدية. ثم في عام 2013 تم إنجاز مشروع مواد قانونية حول حماية التعابير الثقافية التقليدية ورفع للجمعية العامة لمنظمة الويبو. وقد تم البحث عن علاقة بين الملكية الفكرية والتعابير الثقافية التقليدية وكل ماله صلة بالتراث الثقافي غير المادي».

التراث الثقافي غير المادي السوري
في عام 2006 وإثر توقيع الجمهورية العربية السورية اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي، أضحت ملزمة بتنفيذ بنود هذه الاتفاقية والاضطلاع بمسؤوليات الصون وفق التفاصيل المذكورة وبما يتفق مع الخطط والشخصية والسيادة الوطنية واحترام تراث الجماعات والمجموعات والأفراد المعنيين والتوعية محليا ووطنيا ودوليا بأهمية التراث الثقافي غير المادي وبأهميته في خلق التقدير المتبادل. إضافة إلى تحفيز المؤسسات المحلية والتعاون الدولي والمساعدة الدولية. مضيفاً الخبير معلا: «حالياً تقوم الأمانة السورية للتنمية كمنظمة غير حكومية بالتعاون مع الجهات الأخرى بإدارة التراث الثقافي غير المادي وحصر عناصره وإعداد القائمة الوطنية للتراث الثقافي غير المادي، باعتبارها جهة استشارية لدى منظمة اليونيسكو وطرفا في لجنة تقييم القائمة التمثيلية للتاريخ الثقافي غير المادي للبشرية للعامين2015-2016و قد حازت الأمانة السورية للتنمية باعتبارها منظمة غير حكومية رتبة محكم دولي في هيئة التقييم عن تمثيل المجموعة العربية الانتخابية الجغرافية المنبثقة للمرة الأولى عن الدورة التاسعة للجنة الدولية الحكومية لصون التراث اللامادي للإنسانية التي عقدت بتاريخ24-28تشرين الثاني الماضي في المقر الدائم لليونيسكو في باريس. ومارست الأمانة السورية للتنمية بناء عليه حقها في العضوية لمدة سنتين ضمن مجموعة مؤلفة من ستة خبراء محكمين دوليين:اليابان والبرتغال وفنزويلا وبوركينا فاسو والمغرب وصربيا، وخمس منظمات غير حكومية مفوضة برتبة محكم دولي هولندا وايرلندا والبرازيل والصين وأوغندا».

في التنمية المستدامة
تحت عنوان: «الحفاظ على التراث الثقافي غير المادي بالتنمية المستدامة «كان للدكتور عمار محمد النهار/جامعة دمشق-قسم التاريخ، مداخلة أشار خلالها إلى أهمية الحفاظ على مصادر التراث الثقافي غير المادي، باعتبارها جزءاً مهماً من ذاكرة الأفراد والأمم لما تحتويه من قيم ثقافية، إضافة إلى أهميتها من ناحية التطوير الاقتصادي لما تتضمنه من قيم اقتصادية واجتماعية، مستعرضا جملة من النصائح والركائز والاقتراحات في هذا الخصوص، منها نذكر ما جاء من اقتراحات من أجل التنمية المستدامة في مجال الحرف التقليدية السورية كمثال يمكن تعميمه على النماذج الأخرى وأهمها: إقامة معاهد خاصة لكل حرفة، الإكثار من صناعة أدواتها؛ كالأنوال مثلاً بالنسبة للبروكار، شراء إنتاج المعارض الدورية والدائمة للتعريف والبيع، إصدار مجلات دورية تخص الفنون التقليدية، إقامة الندوات المستمرة في المراكز الثقافية، وكذلك المهرجانات والمسابقات، إنشاء متحف محلي لتثمين التراث والحفاظ عليه، وإنشاء مشروع القرية التراثية الذي من شأنه دعم الحرف الشعبية وتطويرها وإنقاذ الحرف المهددة بالزوال.

في بناء الهوية الوطنية
من جانبه الباحث محمد فياض الفياض/محاضر في جامعة دمشق-كلية التربية، في مداخلته التي جاءت تحت عنوان: «التراث الثقافي ذاكرة حية في بناء الهوية الوطنية» انطلق من ركائز أساسية لفهم التراث الثقافي من أهمها:
– توضيح فكرة التراث الثقافي كذاكرة للفرد وللمجتمع، ما يجعل من الحفاظ عليه حاجة اجتماعية من حاجات الإنسان وليست موجة قادمة إلينا في إطار العولمة ومفرزاتها.
– مخاطبة أفراد المجتمع وليس فقط أصحاب التخصص، لأن لهم الدور الأكبر في الحفاظ على تراثهم وصونه.
– وضع إستراتيجية واضحة للحفاظ على التراث الثقافي(المعالم الثقافية التاريخية)من خلال الرؤية الثقافية والفكرية المعاصرة.
– وضع الأسس الممكنة لإيجاد قاعدة فكرية لإنشاء مؤسسات ذاتية التكوين تُعنى بقضايا البحث العلمي في مجال التراث الثقافي.
– العمل على وضع مرجع جامعي بين يدي الطلاب والباحثين يسد النقص في مجال علم التراث الثقافي بشقيه المادي وغير المادي.

ذاكرة وهوية وعقل يتحرك
من جهته ذكر د. إسماعيل مروة/جامعة دمشق- كلية الأداب، تجارب الدول العربية حول التراث الثقافي غير المادي موضوع الورشة، مستعرضا التجربة المصرية وبأن هناك أكثر من معهد وقسم يدرّس هذا التراث، من ذلك ما تقوم به جامعة عين شمس، مشيراً إلى أن هناك مجموعة من الأكاديميين الكبار الذين أخلصوا له، ولهم مكانتهم منهم الدكتورة نبيلة إبراهيم التي تركت دراسات معتمدة في كل الوطن العربي، معتبرا كي تثمر الجهود المبذولة في هذه الورشة لابد من توظيف ما هو آت:
إبراز الهوية القومية الوطنية اعتمادا على التراث اللامادي.
إبراز القيمة الاقتصادية لهذا التراث.
إظهار الدور الاجتماعي الفعّأل للتراث غير المادي.
إظهار الصلات الإيجابية ما بين التراث غير المادي والأدب المكتوب بالفصيحة.

الصعيد الرسمي
الحاجة إلى قرار سياسي يحول إدارة التراث غير المادي إلى شخصية مستقلة اعتبارية.
تعزيز التخصص في الدراسة، ليتم تخريج أكاديميين قادرين على وضع الخطط وفهمها وتحويلها إلى مشروع مؤسسي متكامل.
التعاون مع الإعلام لتقديم برامج مدروسة ومشوقة، مكتوبة، مقروءة، مرئية، عبر وسائل الاتصال، تجعل الفهم العام يقبل التراث غير المادي.
التأكيد بأن التراث لا يشكل عودة، بل هو دعوة للتجدد والمعرفة كما يؤكد عبد المجيد جرادات في بحث قدمه في دمشق منذ أكثر من عقد: «الموروث الشعبي أحد قنوات المعرفة التي يتم اكتسابها من خلال التفاعل الإيجابي، والميل التلقائي للاقتداء بالذين يسجلون مواقف مؤثرة عن طريق البناء الفكري سعيا لتعميق الإحساس نحو مضاعفة الإنجازات الحضارية، وتلك هي مقومات السير في ركب التطور والتجدد».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن