قضايا وآراء

تدخل تركي موجبات أم موانع؟

عبد المنعم علي عيسى : 

في إدارة أي صراع سياسي أو عسكري- وهما وجهان لعملة واحدة- يضع صانع القرار السياسي نصب عينيه اعتبارات عديدة انطلاقاً من رؤياه للظروف المحيطة بذلك الصراع، وفي ظل تسارع الأحداث والأحاديث- التي تشير إلى إمكان قيام أنقرة بمغامرة عسكرية في سورية سنحاول هنا أن نعرض لتلك الاعتبارات التي تكون محط اهتمام صانع القرار، ومدى مواءمتها للحالة التركية وبالتالي استخلاص حدوث تلك المغامرة أم إنها استعراض له غايات أخرى.

الاعتبارات
أن يكون هناك تحديد- والتعميم هنا خطر كبير- للمشكلة القائمة التي تستدعي القيام بعمل عسكري، على أن يتضمن ذلك التجديد التعريف بأصول وجذور المشكلة أو الأزمة التي يواجهها صانع القرار.
هناك اليوم حديث عن التحرك الكردي في الشمال السوري الذي وصفه أردوغان (14/6/2015) بأنه (بات يمثل تهديداً للأمن القومي التركي) وهو تحديد مائع فقد كان التعاطي التركي مع العقدة الكردية فيه الكثير من المد والجزر، فكان يقال (مثلاً): إن قيام كيان سياسي كردي هو خط أحمر لأنقرة وبعد قليل نرى أردوغان ذاهباً إلى أقوى العلاقات مع أربيل وبعيداً عن بغداد ببضع منافع اقتصادية فقط، ولربما كان هذا السلوك الأخير هو في صلب الحسابات التركية التي ترى أن ما هو ممنوع تركياً بالأمس واليوم قد يصبح في الغد مسموحاً إن لم يكن مرغوباً.
وهناك الخط الأحمر الثاني الذي رسمه مجلس الأمن القومي التركي الأخير 29/6/2015 المتمثل بقيام هجوم للجيش السوري على معاقل المعارضة في إدلب وحصول موجات نزوح كبيرة.
الأمر الذي يمثل نكته سمجة فأنقرة ومنذ بدايات الأزمة هي التي دفعت باتجاه حدوث تلك الموجات بل سعت إلى الترويج لها، وهي على الرغم من بلوغها حد المليوني نازح بحسب أنقرة فإن ذلك لم يشكل يوماً شرارة للقيام بتدخل عسكري.
أن يكون هناك حساب لا يدركه الخطأ لجميع الأطراف المشاركة في هذا الصراع بشكل مباشر أم غير مباشر، وما دواعي اهتمامهم بهذا الصراع؟ وما مطالبهم منه؟ ثم ما قدراتهم على التدخل فيه؟
تقف واشنطن اليوم أكثر من أي وقت مضى رافضة لقيام منطقة عازلة على الأراضي السورية، وإذا ما كانت جادة فعلاً في إقامة شريط كردي في الشمال السوري فهي ستعمد بالتأكيد إلى ردع أردوغان عن القيام بأي مغامرة وفي حال رفض الأخير الإذعان للردع الأميركي فإن الأثمان ستكون باهظة فهي تملك ما يكفيها من المؤثرات على التوازنات الداخلية التركية لكي تريد الحصول على ما تريد.
كما يقف الحليفان (الروسي والإيراني) لدمشق بقوة ضد عمل عسكري تركي مفترض ضدها وهما يملكان من القدرات للتدخل في ذلك الصراع حتى وإن لم يكن بشكل مباشر ما يحتم حسابها تحت مندرج التأثير فيه بدرجة ترقى إلى هذا الشكل الأخير وهما لن يقفا مكتوفي الأيدي إزاء ظاهرة قد يؤدي نجاحها إلى إمكان تكرارها في مناطق أخرى.
أن تكون هناك قراءة لا تشوبها المغالطات للمناخ العالمي المحيط بذلك العمل فهذا الأخير (المناخ العالمي) شديد التأثير بصراع من هذا النوع بل قد يحسم نتيجته حتى قبل أن تبدأ المعارك العسكرية.
لا يميل المزاج العالمي الحالي بما فيه الأميركي والأوروبي إلى القبول بالذرائع التي تسوقها أنقرة بدءاً من المخاوف التركية جراء قيام كيان سياسي كردي في الشمال السوري فعلى بعد أمتار فقط من الحدود التركية أعلن في 29 حزيران 2014 عن قيام دولة (داعش) ولم تقم أنقرة بأي تحرك يشي بأن أمنها قد تهدد، وصولاً إلى موجات النزوح السابقة واللاحقة الممكنة فإن هذا المزاج لا يرى في الأعمال العسكرية إلا وسيلة لتفاقمها وليس لحلها وإذا كان من أزمة ازدادات تفاقماً فإن الحل (بحسب النظرة الغربية اليوم) يكون عبر الطلب إلى المانحين بزيادة الدعم المقدم أو أي شيء من هذا القبيل.
إن أي تحرك تركي عسكري سوف يبرز أنقرة اليوم كطرف ليس داعماً لداعش فحسب بل ومدافع عنه أيضاً ولم يزل عالقاً في الذاكرة الغربية إلى اليوم موقف أنقرة الرافض للدخول في التحالف الذي تزعمته واشنطن لمحاربة داعش أيلول 2014.
أن يكون هناك هدف واضح محدد ومعلن يتم على أساسه تعبئة الشارع والجيش إلى الدرجة التي يصبح فيها ذاك الهدف حقاً مشروعاً تهون في سبيله التضحيات.
الهدف الحقيقي للمغامرة التركية ليس معلناً، وليس هناك في تركيا اليوم من يصدق دعاوى أردوغان وتحذيراته من مخاطر تفكك الجغرافيا التركية، ومن المهم هنا أن نذكر بأن العديد من قوى وأحزاب الشارع التركي كانت قد حذرت أردوغان مراراً بضرورة الابتعاد عن العبث المذهبي والاثني في الجارتين سورية والعراق.
هذا الهدف الحقيقي لقيام مغامرة تركية مفترضة اليوم هو الحؤول دون سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على كامل الجغرافية الواقعة بين عين العرب وعفرين ومن ضمنها جغرافيا صغيرة تسيطر عليها المجموعات المسلحة المدعومة تركياً كجبهة النصرة وجيش الفتح ما يهدد بانقطاع الدعم التركي المقدم لتلك الجماعات التي يؤهلها أردوغان اليوم تستطيع فيه السيطرة على حلب وهنا تكمن سدرة المنتهى في المخطط التركي في 5/7/2015 قال أحمد داؤود أوغلو: (لا نريد إغلاق الممر الواصل بين تركيا وحلب) وهو أهم تصريح صادر خلال المرحلة الماضية ويبين أن الذريعة التي تنتظرها أنقرة لبدء عمل عسكري هي انقطاع ذلك الطريق، إلا أنه يحمل من الوهن (قد يكون المقصود) ما يضع القوة العسكرية التركية رهناً لعصابة صغيرة قد تقوم بفعل ذلك (قطع الطريق) وهو أيضاً (الهدف الحقيقي للمغامرة) توجيه ضربة عسكرية كبيرة للنظام في دمشق عبر دعم عسكري مباشر (بعد أن تكون القوات التركية قد دخلت) للسيطرة على حلب الأمر الذي قد يحدث (بحسب الرؤية التركية) تغييراً نوعياً في الميدان أو قد يؤدي إلى انهيارات تنتقل بفعل العدوى.

أن يكون هناك حساب للوسائل الكفيلة
بصيانة الوحدة الوطنية للبلاد
لم تكن تركيا منقسمة في يوم من الأيام كما هي اليوم فقد أحدثت الانتخابات الأخيرة 7/6/2015 انقساماً عمودياً أضيف إلى آخر أفقي مزمن، ثم إن تلك الانتخابات قد أفرزت واقعاً جديداً عبر صعود حزب الشعوب الديمقراطية الذي بات يسيطر سياسياً على الولايات التركية المحاذية لإرمينيا وإيران وسورية والعراق وهو أمر في غاية الخطورة إذا لم يحسن التعامل معه وقد يهدد فعلاً التراب التركي، أما القيام بعمل عسكري في سورية في هذه الظروف فإنه سوف يدفع إلى تحول ذلك الصراع السياسي مع الأكراد إلى صراع عسكري بل وسيبلغ مدى لم يبلغه سابقاً حتى في الذروة التي بلغها في الثمانينيات من القرن الماضي.أن يكون هناك حساب لقدرات الصف الثاني الداعم للجيش وبمعنى آخر للحالة الاقتصادية الراهنة.
أيضاً لم يسبق لتركيا أن كانت في وضع اقتصادي مترد مثلما هي اليوم فالدين العام بلغ 400 مليار دولار وبات من الصعب تسديد فوائده وليس أقساطه وقد يؤدي أي عمل عسكري فاشل إلى نسف «الأردوغانية» من جذورها لتبقى ذكرى لفورة اقتصادية كانت زائفة أو مقنعة بدأت مشاكلها بالظهور فور دخولها مرحلة الاستحقاقات الفعلية.

أن يكون هناك اختبار للكفاءات التي ستقوم بتلك العملية
عندما جرى الحديث في منتصف أيار 2015 عن إمكان حدوث تدخل عسكري تركي قام الجنرال نجدت أوزيل رئيس هيئة الأركان التركية بطلب إجازة صحية مدتها أسبوعان وهو أمر له دلالاته السياسية، والجنرال أوزيل اليوم يعلن بوضوح رفضه القيام بمغامرة عسكرية في سورية غير مضمونة النتائج لتشابك الأحداث، وما تعيين وزير الدفاع التركي الجديد (وجدي غونول 3/7/2015) إلا محاولة لتعديل ميزان القوى القائم داخل المؤسسة العسكرية، ولم تكن خبرته التي يحملها (شغل منصب وزير الدفاع بين 2002-2011) هي المعيار الأساس لذلك التعيين وإنما تعارضه التام مع نجدت أوزيل في الكثير من المواقف.
بما تقدم فإن أي عمل عسكري تركي يندرج في إطار المغامرة التي لن تحقق النتائج المرجوة منها والسؤال البديهي هنا هو: لماذا يذهب أردوغان- إذا ما كانت المعطيات هكذا- إلى ما يذهب إليه؟ ألا يدرك ذلك؟
ويدفع أردوغان باتجاه تلك المغامرة هو أنه يرى أن الأيام القصيرة المتبقية التي تفصله عن الحكومة الائتلافية هي الفرصة الأخيرة لتحقيق شيء ما عجز على مدار السنوات الأربع الماضية من ترجمته واقعاً على الأرض، ثم إنه يرى أن أي عمل عسكري مفترض سوف يكون بمنزلة الرافعة له (ولحزبه) ولرصيده الشعبي في أية انتخابات مبكرة مقبلة يسعى بيديه وقدميه إلى إجرائها وهو سيسعى إلى إفشال داؤود أوغلو في تشكيل حكومته الائتلافية وإن لم يكن من تشكيلها بدَّ فسوف يسعى إلى وضع الألغام فيها لكي يفجرها ساعة يشاء، وهو الأمر الذي يرى فيه الفرصة للحصول على الأغلبية من جديد والعودة التي تمكنه من استعادة حلمه الضائع.
باختصار: الموجبات أو الدوافع التركية للقيام بعمل عسكري ضد سورية هي صفر في حين أن الموجبات الشخصية لأردوغان للقيام بذلك هي 100%.
عندما تلجأ القيادات أو الزعامات في الدول إلى تغليب الخاص على العام فإن من شأن ذلك أن يؤدي إلى دخول مجتمعاتها في متاهات يصعب التكهن بالمآلات التي يمكن أن تصلها وقد يصل فيها الأمر إلى وضع الكيان (أي كيان) برمته كريشة في مهب الريح.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن