ثقافة وفن

لم يبق للأعمال البيئية ما تقوم بسرقته من أفكار ممجوجة!…باب الحارة مفاجأة السلّ وحارة اليهود والعشق!

 إسماعيل مروة : 

من أيام شامية «إلى آخر مشهد يتم العمل عليه في البيئة الشامية، مروراً بأعمال البيئة الحلبية واللاذقية وما شابه، سادت موجة الارتزاق على حساب التراث، وسادت موجة تسطيح الأصيل، كانت الأعمال الأولى لإعلاء بعض القيم، وقدمت الكثير من الجمال والحب للبيئة والإنسان، ولما كان صنبور المال غير قادر على التوقف، تحولت الأقلام والإبداعات إلى أعمال مهمشة، تثير بعنتريات تقترب من الدونكوشيات، فمن باب الحارة إلى الأم والجد والأصيل، فلم يبق قريب لم تصنع له مادة، ولم تبق صنعة لم يصنع لها عمل خاص.. وجدت الأعمال صدى تجارياً بحتاً فاستمرت واستمرأ أصحابها نهاياتهم وهم يعدّون أموالهم، وأقصد نهاياتهم الإبداعية.
أزعم أن الخشخاش و«العبابيد» أهم أعمال بسام الملا، وما قدمه نحاس عن المقاومة أهم من «طوق البنات» و«ليلى مراد» على ما فيه أهم من طوق البنات لزهير رجب، وأن «الغربال» أسوأ ما قدم مروان بركات الشاب المبدع، وإن دور مفيد الوحش المراهق أهم من أي عمل لسعد مينة، وأن الشاب المتنور في الطبيبة أهم مما قدمه رشيد عساف في البيئة، والقائمة تطول إلى بسام كوسا وأيمن زيدان وسواهم الكثير، فهل تشكل خيبات هذا العام فرصة للمراجعة؟!
افتعال أحداث مخترعة، ألوان باهتة، حكايات لا وجود لها، ونجوم بهت لونها وخفت البريق، ولم يُجدْ جهد النجوم الكبار في الخروج من أتون البيئة الافتراضية، هذه الآراء المهذبة، وآراء أخرى تواردت إلى الذهن وأنا أتابع أعمال البيئة الشامية التي أنتجت هذا العام، فمن «باب الحارة» إلى «حارة الأصيل» إلى «الغربال 2» و«طوق البنات 2» دارت أحداث البيئة التي فقدت حتى متابعيها الذين يستهدفهم الإنتاج، ولولا أوقات الذروة في العرض ما وقف عندها أحد أتابعها، لكنه كان يتعثر بها بين محطة وأخرى..

 

جاء دور اليهود

في باب الحارة في الأجزاء السابقة اخترعت شخصية أم جوزف، وكانت شخصية افتراضية خرافية في بنائها الروائي الهش، واستطاعت القديرة مُنى واصف أن تحولها إلى شخصية من لحم ودم، وأن تفرض التعامل معها ومتابعتها على الرغم من الهشاشة، ولكن الطاقم الذي تولى الجزء الأخير ارتأى أن تموت أم جوزف حتى لا يزعل اليهود، واخترعوا أسرة الطبيب اليهودي، الذي يحمل من الود والأخلاق ما لا يمكن تخيله، ويقع العكيد بالحب والوله مع ابنة الطبيب، يتوه معتز، يهمل شؤونه وحارته، ويصبح مسبباً لا يستطيع الحياة دون محبوبته كندا حنا التي تؤدي الدور ببراعة لم تنج الحبكة من مطب اللامعقول، وهنا ينبري الكاتب لتفريغ كتب الفقه حول الزواج بين مسلم وغير مسلمة، وتبدأ الفتاوى على لسان الشيخ عبد العليم الذي رافق طلاق الأم سعاد، ولا يزال يؤدي فتاواه!! ويغيب العوايني، لتصبح فريال خالية تنتظر أبو النار! ويظهر ابن لأبي النار، ولم نعلم أنه كان متزوجاً! والأمر لم يكن مخفياً عن أهل الحارة، بل عن المشاهد! والطيوبة أم بشير تتحول إلى نمرود، والعاشق الولهان بشير الذي أحب حتى اهترأ يصبح قادراً على صفع حبه والنيل منه، وزوجته تصبح متمردة وترد في وجه أم بشير ليحدث طلاق شبيه بطلاق أمها.
عيب كل هذا الاستخفاف بالمشاهد وذاكرته، وبالحارة الشامية وعاداتها وتقاليدها وشخصياتها، ولو كانت الحارة الشامية كذلك لانهارت منذ أمد بعيد، وإن استطاع المبدع بسام الملا في الأجزاء الأولى أن ينجو بالعمل من خلال إيقاعه وعنايته بالتفاصيل الكاملة إلا أن إشرافه وإسناد الإخراج إلى مخرج آخر أخرج الأمر عن إطار المعقول، ولم تستطع الأجزاء أن تنجو مع دخول ميسون أبو أسعد الرقيقة، وجهاد سعد الخبير، وبطلة الصبايا كندا حنا، والممثلة البارعة عهد ديب التي أشفقنا على دموعها وهي تستجدي معتزها..
أعتني بالتفاصيل بواقع المهنة، وضرورة المتابعة، وربما تابعت هرباً مما أراه في أعمال أخرى سأقف عندها، وإن احتفظ باب الحارة ببعض الأنين، فلسوء إنجاز الأعمال الأخرى التي تحمل اسم البيئة الشامية.. ويحسن بنا أن نقف موقفاً نقدياً قبل أن نغذ السير في إنجاز أجزاء أخرى كما يروج، اتركوا باب الحارة مغلقاً أو مفتوحاً، وفي القلب شيء من الود تجاهه، ولا تستثمروا العبق التراثي حتى الاستهلاك! وأنا لست ممن يحملون باب الحارة مشكلاتنا التنموية والمصيرية، فهو لا يتعدى أن يكون فرجة، ولكن هذه الفرجة فقدت الإدهاش، والمال يمكن أن يأتي بطرائق أخرى، لإنتاجات تقف على قدميها.

لم يبق فوق الغربال شيء
لم يتمكن مروان بركات الذي قدّم أعمالاً مؤثرة بدخوله الغربال مع حشد النجوم الكبار أن يفعل شيئاً، ورأينا مكائد أبو جابر تعاد صياغتها بطريقة أخرى، لتظهر شخصيات لم يكن قد تم التمهيد لها في الجزء الأول، ويحاول الجميع النفخ في الرماد لإنجاز عمل يدور بين أبو عرب وأبو جابر لكن دون جدوى، فما سقط من الغربال لم يعد من الممكن له أن يعود إليه، والسعي إلى استثمار نجاح الجزء الأول النسبي جعل إخفاق الثاني يؤثر على اسم الأول، فماذا يريد أن يقول سوى النفخ في الصدر، وإصدار التهم الأخلاقية: يا رب سامحني، والأداء الذي بذل الممثلون جهدهم فيه لم يصل إلى مستوى إبداعهم، هذه ليست أمل عرفة، وهذا ليس بسام كوسا، وهذا ليس عباس النوري، وشخصيته ا لكبيرة نادين لا تختلف عن شخصيتها في الدبور، ولو استطاع القائمون على العمل إخراج خالد تاجا من قبره لفعلوا.. ومكائد زوجة الأب ليليا الأطرش المكشوفة هي هي، ونزار أبو حجر يصحو يوماً ليغيب عن الوعي في كثير من الأحيان، وحل الجنون والداية كان مفضوحاً وفجاً.. الغربال كان بثقوب واسعة أسقطت الجميع، ولم يستطع أحد أن يبقى في مكانه، حتى النجوم الكبار الذين نحترم مواقفهم وآراءهم وتنظيراتهم وقعوا في البحث عن العائد المالي، في الوقت الذي يتحدث كل واحد منهم عن المبادئ والفن والرسالة!!
ولو نظرنا فسنجد هؤلاء النجوم في أعمال عديدة، وهذا يعني أنهم ليسوا بحاجة لمثل هذه الأعمال المتهالكة، إلا إذا كانت الشركة المنتجة، وللملاحظة فأغلب الأعمال من إنتاج شركتين اثنتين، أقول إلا إذا كانت الشركة المنتجة تفرض على النجوم سلة من الأعمال كما تفرضها على القنوات العارضة!!
طبعاً الشركات المنتجة حرة في تقديم ما تشاء، وفي كسب العائد المالي المذهل أو المتواضع، ولكن ليس من حقها أن ترفع عقيرتها وتضربنا منيّة فيما تقدمه، وبأنها تعمل من أجلنا! الحديث طويل وذو شجون ويحتاج وقفات أطول، ونقاشات أغنى، ولكن عندما يتسع الوقت، وها هي الشركات تخرج من غرفة إنعاش لتدخل في أخرى، ولكن المنعشات التي تنقذها ليست من النوعية الجيدة، ولا أقصد هنا تقديم أعمال ذات أبعاد ملتزمة أو ما شابه من شعارات، فلتقدم ما يحترم عقل المتلقي على أقل تقدير، وليدعوا الحارة الشامية تنتظر الفرج!

طوق البنات بلا حبات
طوق البنات حكاية وحده، الفرنساوي حسب تعبير الكاتب في مواجهة جيش كامل يتمثل بأبي طالب، ابن القنوات الذي تقوم المظاهرات من أجله، ويتحدى كل الظروف، ويقيم حوارات مع الضباط الفرنسيين ولا «لافروف»، ويتحدث بلغة لا تناسب ثقافته وزعامته الشعبية، كل الشام تعرفه، وفي السجن الكل يلهج باسمه، وابنته مريم هي التي تؤدي دوراً مهماً بالإفراج عنه!! ويعجب بها الضابط الفرنساوي القاسي، ويقرر أن يبقى لأجلها بالبلد، ويتنازل عن مكانته العسكرية، ويعلن إسلامه ويتزوج مريمته التي هي كل شيء!! ويبدو أن خيال المؤلف والصديق محمد زهير رجب وصل المدى، فصار هذا الضابط وطنياً أكثر من الوطنيين، بل الشيخ الذي يقصده لإعلان إسلامه لا يقبل منه دون مراجعة الخوري الذي يوافق مباشرة من مبدأ الوحدة الوطنية! ويعيش الكل في سعادة دون أن تخمش الفتاتان اللتان تقودان الحركة المسلحة ضد الفرنساوي! أقسم بأن هذا كان من العيب الوصول إليه، ولكن يبدو أن العمل بجزئه الأول صوّر 38 حلقة، ومن أجل التسويق تم الاحتفاظ بثماني حلقات للجزء الثاني، ولما لم يكن مهيار فيه ولا ديمة، ولا من أدى دور طلال جاءت الحلقة التاسعة وبعد أن حلحلت جميع الخيوط لتشكل مفاجأة، تنتهي أحداث، والضابط الفرنساوي لم يحفظ العشرة، وطلق مريم وصار في الجزائر، وأخته في فرنسا، وطلال غاب ولا أحد يعرف عنه شيئاً، وحدهما أبو طالب وأبو الفضل العباس بطلان مطلقان لا أحد يقاومهما، وجاءت شخصية الآغا وأخيه وزوجته والفلاح وابنته لتبدأ حكايات جديدة لا علاقة لها بالبنات وطوقهن، ويعاد ليالي الصالحية بطريقة أخرى، ويصبح طالب مكان هاشم، يستهدف لكنه ينجو، والخنجر في مخدته، ولكنه كان في زيارة أخته، والحرائق تقتحم المكان والضرب والتكسير، ولكن يحمد لصناع العمل الحديث عن المحافظة وكأنهم دخلوا في صميم التقسيم الإداري الحديث! وبقيت حوارات أبو طالب تنظيرية سياسية، وتحولت النسوة من جلسات نسائية للثرثرة إلى زوجات متنفذين ومسؤولين، والذي أخبر مريم بطلاقها من الفرنسي يصبح زوجاً لها، وهو له قيمة لذلك سخرها المؤلف والمخرج لخط درامي في مواجهة الآغا، الذي يفعل ما يريد، وتكتفي أمارات رزق بنظرة عين حاقدة وتعبير ابن الحرام، ولك أيها المتابع أن تحبس أنفاسك وتنتظر لتعرف في آخر رمضان من هو ابن الحرام، الذي قد يصبح ابن حلال في الجزء الثالث!!
أي صناعة للدراما هذه؟ وأي بيئة تتحدث عنها هذه الأعمال البريئة من الشام وما جرى فيها وما يجري، كل ما في الأمر بيت شامي وزعيم وعكيد ومؤامرة، أناس خيرون وآخرون طيبون، والمتفرج يفض النزاع بينهما.. أما البطولة والرجولية لأبي الفضل العباس، فهذا أمر آخر، ابتداء من خرافية النبل وتنقلاته، وصولاً إلى اختيار الممثل الذي لم يسعفه تلاعبه بصوته، ناهيك عن السجون ولقطاتها وأغنياتها في الجزء الأول، وما أدراك ما المواويل!! وصولاً إلى ما ظهر من نافر القول والتمثيل في الجزء الثاني، ولم يستطع وجود نجم بوزن رشيد عساف أن ينقذ العمل، بل إن العمل سرق منه هذه النجومية، ولكن هل انتبه الصديق إياد نحاس إلى أن الحوار يتكرر أكثر من مرة وفي اللقطة ذاتها؟!
أما ظهور قضية السحر فهو أمر محير، تلجأ أمارات رزق إلى الساحرة التي ما إن تقوم بفعل السحر حتى يؤدي الغرض! أليس هذا استخفافاً إلا إذا كان السحر منبعثاً من عيني أمارات! وبالمقابل هناك شيخة إيجابية! هل هذا معقول أيها السادة؟! إذا كان هناك مثل هذا السحر فعلى الدولة أن تستعين به لتنهي الأزمة، وتفعل فعلها في أعداء البلد!
أما حديث الزعامات عن الأزمة ودور السلطة في رعاية أمور الناس فذاك أمر أكثر من ساذج وله مقام آخر.

حارة الأصيل ولا أثر
تعرض إحدى القنوات العربية العمل البيئي (حارة الأصيل) لمروان قاووق ومحمد معروف، ويبدو أن تغيير المخرج لغايات منها التجديد في الرؤية، ولكن المخرج بقي في إطار الأعمال القاووقية التي تم إنتاجها، فنحن أمام الدبور وسواه في صورة أخرى، بل إن بعض الأسماء بقيت كما هي، ولم يحشد المخرج عدداً من النجوم لحمل هذه الحكاية كما المعتاد، وكأنه يقرأ أن العائد الاقتصادي قد لا يكون موازياً للمدفوع، ومشاهدة هذا العمل تظهر القص واللصق والنسخ من أعمال أخرى، لا ينكرها المؤلف، وقد أشار إلى ذلك في عدد من لقاءاته فهو يكتب ليعيش، لذلك يقدم أحياناً أكثر من عمل.. فالحارة حارة، والمكائد، والاتهامات، وناهد حلبي مكان نادين، والصبايا كثر يتحركن في الفضاء، والحكواتي والقبضاي..
أطرف ما في الأمر أنني كنت أناقش صديقاً عزيزاً عن الدراما، وعندما بدأنا الحديث عن الدراما البيئية قال لي حكماً نقدياً مهماً، هذه الأعمال هي كوميديا بيئية، أجل إنها كوميديا، وأنا إذ أتحدث عنها، لا أرى أن لها أثراً كما يتوهم كثيرون، خاصة من يحاول أن يضع أسباب الأزمة الحالية عليها، بل أدق ناقوس الخطر أمام هذه الأعمال التي يجب أن تتوقف مباشرة ولو طلبت حتى لا تستثمر حتى النفس الأخير من حياتها! ولصناعها أسوة حسنة بالفانتازيا التي بدأت بالجوارح، وانتهت منهية معها عدداً من النجوم والكتاب والمخرجين، أولئك الذين لم يحسنوا التعامل مع الفانتازيا كفاكهة طيبة تحضر أحياناً، وليست بديلاً من الطعام، فجرى الاستنساخ لها حتى ضاعت وضاع صناعها الذين لم يستطيعوا الخروج من الفانتازيا والمبالغة، وهذا ما جرى مع هاني السعدي كاتبها الأشهر الذي غلبت عليه سمة الفانتازيا في (سفر الحجارة) فكان معزوفة وداعية لسيناريست نحترمه وكان من الممكن أن يبقى في «دائرة النار»، و«أبو البنات» وغيرهما من الأعمال التي تهم الناس!
البيئة الشامية ستلفظ صناع دراماها، فالشام باقية والجميع مرتزقة متعيشون على حسابها، وهذا شأن كل المدائن والبيئات، ألا يرى أحدنا أن ابتعاد بسام الملا عن تبني إخراج باب الحارة يأتي في إطار إدراكه لإفلاس المشروع واستنفاد الغايات؟!
على صناع البيئة أن يتوقفوا عن الثرثرة والإساءة، وأن يتحولوا عن استنساخ وسرقة الرائج، وألا يظهر أي عمل بيئي إلا إذا كان يحمل مقولة وأحداثاً وتوثيقاً، وما شابه ذلك مما يحمل الدراما ويجعلها قادرة على الوقوف، خاصة في ظل أزمة نعيشها أثبتت بما لا يقبل الشك أننا خونة لأرضنا وبيئتنا، فلا الزعيم هو زعيم، ولا العكيد يحمل سمة العكيد، ولا ابن البلد يعرف معنى هذه البنوة! أثبتت الأزمة أن الأحاديث عن الحارة والانتماء مجرد كلام فارغ، ووسيلة للعيش من أصحابها، فتوقفوا عن المتاجرة والعيش على حساب الأرض والبيئة، فهي أكثر ذكاء وبقاء وخلوداً وستلفظ كل الذين يتنطعون بأخلاق ومواصفات ليست لديهم وليست أصيلة في أرواحهم!
فليتوقف باب الحارة، وطوق البنات انفرط عقده والغربال لم يبق فوقه شيء، والحارة ليست فيها أي أصالة، والحكاية مكرورة وليس فيها ما يدهش حتى سلبياً، وأظن أن بيئتنا تحتاج منا اليوم إلى زراعة ما يمكن أن يغنيها من حضارة وتمدن ومدنية، ولسنا بحاجة لأي عمل يعود بنا إلى الانتماءات القبلية والطائفية والعشائرية وإلى الحارات، فلم تعد الحارة مغلقة كما يريدونها، بل العالم كله حارة مفتوحة على كل مؤثر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن