ثقافة وفن

العواطف.. والمصداقية

| د. رحيم هادي الشمخي

جاء أحد المساكين إلى عيادة الطبيب إبراهيم ناجي صاحب قصيدة الأطلال الشهيرة يشكو علّة، ولما فحصه الشاعر الرقيق أعطاه نقوداً وطلب منه أن يذهب ويشتري دجاجة ويأكلها؛ لأنه اكتشف أن علة الرجل هي الفقر والجوع، وبعدها بأيام التقى الطبيب الشاعر فسأله عن حاله فقال له الأخير بأنه حين أخذ منه النقود ذهب إلى طبيب آخر كتب له وصفة دوائية جعلته يبرأ من مرضه.
لم يكن إبراهيم ناجي على خطأ أبداً، ولكن العواطف لا يمكن أن تكون لها مصداقية عند الأشخاص الذين لا ينتظرون عواطفنا، كلنا نتعثر ونخسر لسببين: إما لتقدير غير صائب وإما لعواطف عمياء أصابتنا، إن خيبتنا جراء ارتكازنا على القلب يسهل تقلبها في ظل عدم الفهم الحاصل بين الحاجة الآنية والحكمة الأزلية التي تروج لها دواخلنا الطيبة، ولكننا بالمقابل لن يكون بمقدورنا التوازن مع محيطنا حتى لو نلنا التقدير اللازم.
في الأغلب كل الذين يتمتعون بقلب طيب يتعرضون إلى خيبات كبرى تصل إلى الرثاء وحتى الشفقة، فإن يكن المرء بقلب ويتصرف وفق تكوينه العاطفي وليس وفق قوانين الواقع والمنطق والمصلحة، ففي الحياة نحتاج دائماً إلى بيئة مميزة تفصلنا عن العالم الذي يصيبنا بالخيبة، وعادة كل الذين يتمتعون بخصوصية ما يبحثون عن إنصافهم في أماكن بعيدة عن الضوضاء، في البلدان العليا يمكن للمرء أن يجد مصطبته الجميلة لكن في بلداننا السفلية فنحن لا نحصل من جراء تميزنا إلا على العزلة القاتمة تكفنا بالنسيان، حين نتعارض مع المجتمع سواء بقلوبنا أم بنظرتنا إلى الأمور أو حتى بمزاحنا الفني الخاص، فإن كماً هائلاً من الشكوك تثار بشأن هذه الحياة التي عزلتنا، الكل ينظر إلينا بازدراء وشفقة وحتى بلوم، فالمميز يجب ألا يستهتر بحياته ويشذ عن القطيع ويذهب بتصوراته إلى حدود الغموض ويجب أن يعيد النظر سريعاً بتمرده الحياتي ويعود إلى وكسة الصواب لأن هذا يعد تمرداً على العرف والتقليد.
إبراهيم ناجي الطبيب الشاعر تصرف بإنسانية عالية، ولكن الرجل المسكين لم يتقبل هذا منه وذهب إلى طبيب آخر أكثر تعقلاً وأشد واقعية، وقد نال الشفاء بالدواء الذي وصف له وليس بالدجاجة التي أراد الشاعر الطبيب تقديمها له بطيبه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن