قضايا وآراء

تكاليف الغياب تفوق مرابح الصمت

|عبد المنعم علي عيسى

عندما حط الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في مطار الملك خالد مساء 20 نيسان من العام الماضي، كان بحاجة إلى مدير مراسم لكي يعرف من الذي يستقبله رسميا، فأمير الرياض، فيصل بن بندر، المكلف بالمهمة، لم يكن معروفاً لديه ولا للإعلام، وهو يعتبر من قيادات الصف الثالث المغمورين، على حين عندما حط دونالد ترامب في مطار الرياض في الـ20 من الشهر الجاري، كان الوضع مختلفاً جداً، فقد نفرت نجد والحجاز عن بكرة أبيهما ومعهما عسير أيضاً، فالرياض لشد ما تعول على هذه الزيارة التي استبقتها بتأسيس موقع إلكتروني خاص بها، ولم ينس المشرفون عليها استصدار فتوى تسمح لزوجة ترامب ميلانيا وابنته إيفانكا بأن تطأا قصر اليمامة بلا حجاب، كما دعت الرياض مغني كانتري أميركي لإحياء حفل استثنائي فيها، بعد أن كان هذا الأمر نوعاً من الشرك باللـه، وللأمر اعتباراته بالتأكيد فهو يشي بحجم ضيق الخناق الذي يعانيه العنق السعودي، ما اضطره إلى الاستعانة بخزائن الفقه والإيديولوجية على الرغم من أن أكثر ما يسيء إلى ذينك الأمرين هو استحضارهما إلى أمكنة غير مناسبة.
من المؤكد هنا أن المكانات التي استحضروا إليها كانت من هذه النوعية الأخيرة، فحجم الإيديولوجية المجير، يشي بكم المغانم المرتقبة التي يجب أن ترجح بما لايقاس، كما هي التقديرات، على كفة الخسائر الناجمة عن تلك الاختراقات، على الرغم من محاذيرها أو التداعيات التي يمكن أن تؤدي إليها، وسط مجتمع منغلق يصعب التنبؤ بردات فعله تجاه تعرضه للصدمات من هذا النوع، وهي في أقلها يمكن أن تؤدي إلى تشجيع التطرف أو إلى تعزيز الكراهية للغرب.
في النصف الثاني من اللوحة كانت واشنطن قد استبقت زيارة ترامب للرياض بموقفين اثنين من شأنهما أن يحددا السقوف التي يمكن أن تصل إليها، أولهما: إعلان مساعد وزير الخارجية الأميركي في 17 أيار الجاري بأن العقوبات الأميركية على طهران سوف يتواصل رفعها بموجب الاتفاق النووي الإيراني، ما يعني أن ترامب ليس بوارد إلغاء هذا الأخير، أقله حتى 20 تموز القادم، عندما ستقدم لجنة الخبراء دراستها مرفقة بتوصياتها التي تناسب المصالح الأميركية العليا، والراجح وسط هذه المناخات، أن لا تذهب تلك اللجنة إلى حدود التوصية بإلغاء الاتفاق، أما الخيار البديل فسيكون هو محاصرة طهران التي يمكن القول بأنها قد أفلتت من الفخ الأميركي الذي كان منصوباً لها عبر إعادة انتخاب الرئيس حسن روحاني مرة ثانية في العشرين من الشهر الجاري. وثانيهما: ما نقلته وكالة «رويتر» عن مسؤول أميركي، لم يذكر اسمه، قبل خمسة أيام من الزيارة وجاء فيه أن الرياض ستشتري أسلحة أميركية بـ100 مليار دولار راهناً، على حين أن هذا المبلغ الأخير سوف يصل في خلال السنوات القليلة المقبلة إلى أكثر من 380 مليار دولار، هذا الإعلان يعتبر مفتاحياً في فهم مناخات الزيارة ودواعيها بل والنتائج التي يمكن أن تفضي إليها، وفي هذا السياق فإن من الواضح أن الرياض قد اشترت انعطافة ترامب التي تتضمن حكماً إيداع قانون «جاستا» في الأدراج السفلى من المكتب الذي تجري عليه عمليات تنضيد القرارات، ولربما اختارت الرياض أن تدفع الأموال التي كان يمكن أن تجنيها واشنطن عبر تفعيل هذا القانون الأخير، بطرق أخرى تضمن لها كرامتها أو هيبتها، على الرغم من الثمن الباهظ، والخطير في الموضوع ليس هذا الأمر الأخير، الثمن الباهظ، إذ لطالما اعتادت الرياض وعلى مدى ثمانية عقود انصرمت، على شراء الرضا الأميركي وبفواتير يحددها ساكن البيت الأبيض مهما كانت أرقامها أو انعكاساتها على الاقتصاد السعودي، بما فيها مصدر رزقها الوحيد النفط، وهو ما أكده وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم في حديثه لـ«الفاينانشال تايمز» البريطانية المنشور في الـ20 من نيسان العام الماضي عندما قال: «إن دول الخليج كانت على مدى الثلاثين عاماً الماضية تنفذ السياسات النفطية التي تريدها واشنطن دونما أدنى اعتبار أو مراعاة لمصالح تلك الدول»، إلا أن الخطورة تكمن في أن «المطمورة السعودية اليوم لا تختزن هذه الأرقام الفلكية ولا مقدراً لها أن تختزنها في المراحل القريبة المقبلة، والسؤال الذي يبرز هنا هو: من أين ستدفع الرياض تلك الأموال في ظل تقارير رسمية تؤكد أن عجز الميزانية السعودية لهذا العام يبلغ 53 مليار دولار، يضاف إليها ما يقرب من 14 مليار دولار ناجمة عن إعادة البدلات والتعويضات إلى سلك موظفي الدولة الذي اقر ضمن سلسلة قرارات كان قد أصدرها العاهل السعودي في العشرين من نيسان الماضي؟
الحل السحري هنا يتأتى من تعميم أو توسعة النهج الذي أطلقه محمد بن سلمان وبدأه ببيع خمسة بالمئة من أسهم شركة أرامكو الذي سيوفر مبلغ 25 مليار دولار، على حين أن تمام المبلغ سيقتضي بيع خمسين بالمئة من أسهمها، الأمر الذي سيفعله محمد بن سلمان بالتأكيد في القريب العاجل.
مرة أخرى يتأكد حجم المأزق الذي تعيشه الرياض، الأمر الذي دفعها إلى الذهاب نحو حلول لحظية أو مؤقتة، على الرغم من مخاطرها، إذ إن من شأن السير في هذا النهج المار ذكره، أن يؤدي إلى فقدان السلطة السعودية لأذرعها القادرة عبرها على الإمساك بمفاتيح المؤسسات والشارع السعوديين، ناهيك عن أن تراجع الإمساك الحكومي بالمقدرات الاقتصادية والمالية سوف يؤدي، ولربما سريعاً، إلى زعزعة تلاحم الجغرافية السعودية، والمؤكد هنا أن ذلك الإمساك كان قد لعب في المرحلة الماضية دور اللاصق السحري القادر على جمع المتناقضات التي يعيشها المجتمع والنظام السعوديان.
أما فيما يخص فكرة إنشاء تحالف عربي (سني) خليجي إسرائيلي فالكلمة الفصل فيه ستكون للقاهرة، التي ما انفكت تعيش حالة تململ واضحة على مدى السنتين الأخيرتين جراء الحمولات الثقيلة التي تفرضها العلاقة مع الرياض، والمؤشرات على إمكان إعادة القاهرة لتموضعها الإقليمي من جديد، ما انفكت أيضاً تتالى، وآخرها ما أعلنه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 18 من الشهر الجاري حين قال بأن مصر لن تستعيد عافيتها دون سورية، وهو تصريح هام ينم عن فهم وادراك عميقين لحقائق التاريخ والجغرافية في المنطقة، إلا أن الأمر الاهم هنا لايكمن في الادراك أو التفهم لتلك الحقائق وانما يكمن في وضع هذه الأخيرة موضع التنفيذ، صحيح اننا قد لانكون ملمين بحجم الأزمة الاقتصادية الحقيقي التي تمر بها مصر أو الحلول المتاحة لها، إلا أن ذلك كله لا يعتبر بأي حال من الأحوال، مبرراً كافياً لدوام ارتهان السياسات المصرية لمتطلبات النظام السعودي، والتاريخ يؤكد في الكثير من محطاته، أن الضغوط الاقتصادية عندما كانت تصل إلى مستويات تصبح فيها محددة لكل شيء، فإن قطار تلاشي الكيان يكون قد أطلق صفارته معلنا عن عزمه بالمسير.
هذه لحظة مصيرية ومن المؤكد أن مصر قد أخطأت ببعدها عن دمشق وبغداد، أو أنها اكتفت بمشاهدة ما يجري فيهما ولا يمكن بأي حال من الأحوال تبرير الانكفاء المصري بالقول: إن سورية اليوم تشهد صراعاً دولياً كبيراً، فهذا التبرير على الرغم من صحته ودقته، إلا أن الخروج من ذلك الصراع، يعني الخروج من التاريخ والجغرافية بالنسبة لمصر، وإذا ما كانت الأزمة السورية ستلد من رحمها نظاماً دولياً جديداً، إلا أنها ماضية أيضاً في رسم الأطر المحددة لنظام إقليمي جديد، فيما الغائبون عن هذه المخاضات الحرجة، من المؤكد أنهم سيكونون لاحقا على «دكة» الاحتياط.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن