ثقافة وفن

بدوي الجبل.. سيف الشعر العربي الحديث.. عاشق الشام.. وفارس القافية … نحن لا نكرم الأدباء إنما نكرم أنفسنا بهؤلاء الأدباء لنقول إنهم كانوا في أرض سورية العظيمة

| سارة سلامة – تصوير: طارق السعدوني

«قف بالشام مسائلاً آثارها.. مرحى لمن أم الشام وزارها», هذا ما قاله بدوي الجبل سنة 1924، في قاعة المجمع العلمي بدمشق، معبراً عن عشقه لهذه المدينة وواصفاً لها بأدق التفاصيل، من طيورها وورودها وبيوتها ورياحينها وسمائها.
و«بدوي الجبل» هو لقب أطلقه عليه يوسف العيسى صاحب جريدة «ألف باء» الدمشقية في العشرينيات من القرن الماضي، الشاعر محمد سليمان الأحمد هو ابن قرية «ديفة» إحدى قرى محافظة اللاذقية، ويعد قامة شعرية كبيرة، متميزاً بلغته التي تحمل الكثير من الحب والأسى والشجن واللوعة، وحسب كثير من النقاد فإن شعره يتقارب بشكل كبير مع شعر المتنبي سواء من حيث ديباجته الصافية أم لغته الرصينة وقوة قوافيه.
وتكريماً لهذه القامة السورية الكبيرة، أقيمت في قاعة الدراما بدار الأسد للثقافة والفنون ندوة بعنوان» بدوي الجبل.. سيف الشعر العربي الحديث »، وتأتي هذه الندوة السادسة التي تنظمها وزارة الثقافة دورياً ضمن ندوة الأربعاء الثقافية الشهرية، وذلك بحضور ومشاركة وزير الثقافة محمد الأحمد راعي الندوة، وحضور المهندسة هدى الحمصي عضو القيادة القطرية، وأعضاء مجلس الشعب، وعدد من أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد، ونخبة من المثقفين والشعراء والأدباء، أدار الندوة الدكتور إسماعيل مروة واشتمل برنامجها على ثلاثة محاور: «الشام في شعر بدوي الجبل»، و«اللغة الشعرية عند بدوي الجبل»، و«أضواء جديدة على شعره».

حضن للعاشقين والمقهورين
وألقى وزير الثقافة محمد الأحمد كلمة في مستهل الندوة قال فيها «عندما سئل الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري من أكبر شاعر في العصر أجاب بدوي الجبل وشاعر آخر، أما الشاعر الكبير نزار قباني فوصفه بالسيف اليماني الوحيد المعلق على جدار الشعر العربي، على حين اعتبره الشاعر اللبناني سعيد عقل أنه أحد قلائد شعراء العربية والدنيا ورأى فيه الأديب الراحل محمد الماغوط آخر جمرة في صقيع الشعر العربي».
وبين الأحمد أن «بدوي الجبل كان يشكل صالوناً أدبياً يزوره كبار الأدباء والشعراء وكانت بلاده وأمته هما حبيبتيه ليغدو مع الزمن حضناً للعاشقين والمقهورين وزاداً للمفكرين وغذاء للعاطفيين»
وقرأ الأحمد مقطوعات من قصائده في رثاء المجاهد إبراهيم هنانو، حيث يقول:
سائلوا زحمة العواصف
لما رجت الأرض أين كنا وكانوا
كتب المجد ما اشتهت غرر المجد
ونحن الكتاب والعنوان
وأشار الأحمد إلى قصيدة كانت محببة لدى شاعرنا الكبير من بين قصائده الكثيرة بعنوان «ﺍﻟﻠﻬﺏ ﺍلقدسي»:
يضيع عني وسيم من كواكبها
فحين أرنو إلى عينيك ألقاه
قلبي وللشقرة المغناج لهفته
ليت الحنين الذي أضناه أفناه
وذكر الأحمد أنه كان محظوظاً لأنه الحفيد الأول لبدوي الجبل ما جعله يخصه بقصيدة خاصة بعنوان «البلبل الغريب»، قيل لاحقاً إنها واحدة من أجمل قصائد الطفولة في الشعر العربي:
وسيما من الأطفال لولاه لم أخف
_على الشيب_ أن أنأى وأن أتغرّبا
تودّ النّجوم الزهر لو أنها دمى
ليختار منها المترفات ويلعبا
يزفّ لنا الأعياد عيدا إذا خطا
وعيدا إذا ناغى وعيدا إذا حبا
ويا ربّ من أجل الطفولة وحدها
أفض بركات السلم شرقا ومغربا

نكرم أنفسنا
أعد الندوة وأدارها الدكتور إسماعيل مروة الذي تحدث عن علاقته بشعر بدوي الجبل التي تمتد لعشرات السنين، ولمس في شعره عشقه للشام ووفاءه للشخصيات الوطنية المبدعة في سورية التي نظم لها أروع القصائد».
وأضاف مروة إننا في هذه الندوات لا نكرم أدباء، إنما نكرم أنفسنا بهؤلاء الأدباء، فالكثيرون يقولون إن هذه الندوة تتحدث عن الأموات وتهمل الأحياء، بل الهدف منها هو استذكار مواقف الأدباء الوطنية لنتعلم منهم لنكبر فيهم، ونكرم أنفسنا من خلالهم لنسترجع في ظل غياب الثقافة القرائية حقيقة»، مبيناً أنه «لم يتم تكريم نزار قباني ولم نكرم بدوي الجبل، ولم نكرم نديم محمد ولم نكرم الآخرين بل نكرم أنفسنا لنقول إن هؤلاء كانوا في أرض سورية العظيمة، فهؤلاء جنت عليهم بلادهم وهم لم يجنوا على أحد، لذلك يقول بدوي الجبل:
دع الشآم فجيش اللـه حارسها
من يقحم الغاب يلق الضيغم الحردا

إلماحة عن الشام
وتناول الدكتور حمود يونس في محوره الذي جاء بعنوان «الشام في شعر بدوي الجبل» مستهلاً بأبيات من إحدى قصائد بدوي الجبل، وقال:
تطوحني الأسفار شرقاً ومغربا
ولكن بالشام قلبي مقيم
وأسمعُ نجواها على غير رؤية
أني على طور الجلال كليم
وما نال من إيماني السمع أنني
أصلّي لها في غربتي وأصوم
وقال يونس إنه «لعلّ هذه الأبيات الثلاثة تلخص لنا العلاقة التي جمعت شاعرنا بدوي الجبل بالشام، فهي ساكنة في أعماق وجدانه دائماً وأبداً، ومقيمة في قلبه في حله وترحاله، وعرف عن بدوي الجبل حبه لوطنه وعشقه لكل ذرة تراب من ترابه، ووفاؤه لأهله ولأبناء وطنه، وصدق انتمائه، ورهافة أحاسيسه ومشاعره»، مضيفاً إنه «قد لا أكون مغالياً إذا قلت إنه لا تكاد تخلو قصيدة من قصائد البدوي من حديث أو إشارة أو إلماحة عن الشام، بتفاصيلها الساحرة».
وأشار يونس بأن حديث بدوي الجبل عن الشام توزع في نمطين اثنين:
«الأول: الحديث عن الشام في قصائد خاصة، وهذا هو النمط الأقل في شعره.
والثاني: الحديث عن الشام في سياق قصائد ليست مخصصة للشام، وهذا هو النمط الأعم والأغلب، مبيناً أن رمزية الشام تنوعت في شعر بدوي الجبل، فهي:
المكان، وهي الأم، وهي الحبيبة، إنها المكان أولاً بأبعاده الهندسية، وملامحه الموضوعية، الذي يجد فيه الشاعر راحته وأنسه وصفاءه، بكل أجزائه وتفاصيله، بوروده وطيوره ورباه»، حيث يقول:
لا تلمه إذا أحب الشآما
ابت الشام مرتعاً ومقاما
ما رأينا الشام إلا رأينا
نزلاً طيباً وأهلاً كراما
بردى والورد في ضفتيه
صيغات لشعره والخزامى

شاعر متمرد
وذكر الشاعر صقر عليشي في محوره الذي جاء بعنوان «الجوانب المنسية في شعر بدوي الجبل»: أنه «يعتبر من الشعراء الكبار إذا لم نقل العرب فقط بل العالميين، ويتميز بخصائص كثيرة عن غيره منها الأسلوب والرقة والسهولة والتنوع في المواضيع والجدة».
وتحدث عن جوانب رآها منسية في قصائده بدءاً من مجموعته الأولى الصادرة عام 1925 تحت اسم «الشفق» التي ظهر فيها كشاعر «متمرد»، يرفض المقولات الجاهزة والأعراف والتقاليد البالية فضلاً عن استخدامه لأوزان وموسيقا مختلفة في القصيدة الواحدة.
وأشار عليشي إلى إن المرحلة الثانية من شعر بدوي الجبل «ابتعد فيها عن قصائد الرثاء والمديح والغزل التي صبغت بداياته» فوضع قصائد عبر فيها عن أفكاره ورؤاه كقصيدته «ما شأن هذا الأشعث الجواب وفلسفة الحقيقة» التي يستعرض فيها شعراء العربية ويمر عليهم مرور الناقد، لافتاً إلى أنه في المرحلة الأخيرة من حياته «هدأ الانفعال الشعري في قصائده».
وأضاف عليشي إن «ما أراه منسياً هو مرحلة فكرية مرّ بها بدوي الجبل سجلها على غرار أبو العلاء المعري وغيره وتسمى المرحلة الفكرية، حيث لا نجد قصائد للرثاء ولا للمديح، بل نجد قصائد إنسانية في الكون والأديان والشرائع، ربما رأى أن الطرح لا يناسب المكان ولا الزمان، مبيناً أنه في «المرحلة الأخيرة مال إلى المهادنة وكتب شعراً في الحنين والشعر الإنساني، هذا بالإضافة لشاعريته الكبيرة وروحه المتمردة وأيضاً يمتلك فطرة كبيرة لتقبل الجديد فمن أصل ثلاثين قصيدة هناك 13 قصيدة كتب فيها وبدل الأوزان وبدل الموسيقا».

بليغ الكلام
ومن جانبه تحدث مدرس النحو والصرف في جامعة دمشق الدكتور محمد عبد اللـه قاسم في محوره الذي اختار له عنوان «اللغة الشعرية عند بدوي الجبل» وقال: «قضية البيان ترجمان القلوب وروض النفوس، وبه استولى يوسف عليه السلام على مصر، فإن العزيز لما رأى فصاحة لسانه وحسن بيانه أعلى مكانه، وأعظم شأنه، وقد قيل: إن البيان قاضٍ يحكم بين الخصوم، وضياء يجلو الظلم، وحاجة الناس إلى مواده كحاجتهم إلى الغذاء والماء».
وأضاف قاسم إن «بدوي الجبل محمد سليمان الأحمد من الذين بسط لهم اللـه في البيان بسطاً، وبحبح له رزقه من موهبة القول الدفاق وبليغ الكلام، ودمث له الدرب، ووطّأ له الأكناف، فجاء شعره مثل الخمر تحدث عجائب في النفس وبدائع في الروح»، مشيراً إلى أنه « تدفقت أقلام الكتبة وشهادات المنصفين تثني على شعر البدوي الثناء الجمّ، وتنص على السحر الذي يغشاه، والفتنة التي يحدثها في قلوب سامعيه».
وذكر قاسم بعض الأمثلة حيث قال فيه أحمد شوقي: «ده شاعر أفهمه»!.
وقال بشارة الخوري: «إن الشعراء في سورية كأصابع الكف الواحدة عدداً وحجماً، وبدوي الجبل إحدى هذه الأصابع، في نفسه شاعران إذا انتصر أحدهما للقديم اعترضه نصير الجديد، فما خرجت القصيدة من نفسه إلا وعليها طابع الشاعرين»، أما عمر أبو ريشة فقال إن لديه: «ديباجة مشرقة، وأسلوباً متيناً، وإحساساً مرهفاً، يقف في الصف الأول من شعراء العالم العربي».
وقال قاسم في بحث مصادر اللغة بشعر البدوي: حيث تشمخ الأشجار، وتفيض السماء بدموعها بسخاء تبعث الطبيعة عطرها وأنغامها في هدوء وطمأنينة في قرية ديفة 1903 حيث ولد محمد الذي سيكتب الأدب العربي في معابد اسمه بحروف من نور، ينحدر الرجل من أصلاب الغساسنة الذي نصّ على انتسابه إليهم:
وغسان العلا قومي ولكن إلى آدابك الغرّ انتسابي
وقال:
مليحة الدلّ من غسان لا بليت
شمائل الصّيد من أقيال غسّان
وأفاد قاسم إن بدوي الجبل كان يرى بأن الشعر لا تعريف له، وكل تعريف للشعر جرأة على تميزه وتفرده، والشعر عنده ضرب من النبوّة، وإنه خيال ونغم وضوء وصور، ولكنه فوق ذلك شيءٌ أشمل وأدق، إنه هدية اللـه إلى الروح، وحين يشبهه بالنبوّة- والنبوّة إلهام وغيب- يكاد يشعر أن تعبيره عن هذا الشيء في الشعر يعتوره النقص، ويتجانف عنه الإطباق».
حيث قال البدوي:
أنا أبكي لكل قيد فأبكي
لقريضي تغله الأوزان

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن