ثقافة وفن

سهيل عرفة يطل من قاسيون

| إسماعيل مروة

لم يمر سهيل عرفة مروراً عادياً في حياة سورية الفنية، وفي أغنيات دمشق الباقية دوماً، ولعلّ حالته التي جسّدها في أغنية نهر الشام تمثل حالة الوجد بينه وبين مدينته، والتي صاغ عيسى أيوب كلماتها بذوب إحساسه وروحه.
يا نهر الشام
أنا جاي لعندك
وتحت فيّة زندك
حط راسي ونام
يا نهر الشام
من أرق ما عبّر به عن حب الشام وأمانها، وتتردد في جنبات روح سهيل عرفة نغماً شجياً عذباً مؤثراً يعبر عن الوله وخوف الافتقاد، لتكون الشام حالة من خلود وبقاء، والعاشق المنتمي يريد راحته الأبدية على زند الشام ونهرها… ورحل عيسى أيوب، وها هو شريكه بحالة الشجن سهيل عرفة أبو عادل يغادر أيضاً، وقد أسند رأسه للشام ونهرها.
من قاسيون أطلّ سهيل عرفة وأبدع، وما يزال نشيده يتردد، ولم يعد بحاجة إلى مناسبة للاستماع إليه، صار قاسيون شعاراً ورسولاً وبقاء حتى عند من يخالف الشاعر في الانتماء السياسي والأيديولوجي، فقاسيون ورمزيته، والجملة اللحنية العذبة لسهيل عرفة حولا نشيداً فيه رؤية سياسية، إلى أهزوجة تعني كل من أحب قاسيون ودمشق تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً.
هل يقدر الإنسان أن يتحدث عن رحلة جاوزت ستة عقود من الفن بكلمات؟ الأمر يحتاج إلى باحث ومؤرخ موسيقي ليقدم جهوده مع كلماته والنوتة الموسيقية باعتبار سهيل عرفة وبحق أحد قادة الحركة الموسيقية اللحنية السورية مع أمين خياط وعبد الفتاح سكر وإبراهيم جودت وسواهم من الذين أعطوا الخصوصية السورية في الموسيقا… وهؤلاء الكبار استطاعوا بمواهبهم أن يقدموا ألحانهم شرقاً وغرباً علامة موسيقية سورية نادرة وبكلمات سورية.. أليسوا من جعل فهد بلان وأغنيته علامة غنائية عربية؟ ألم يقدموا أغنياتهم وألحانهم لأصوات من النسق الأول مثل صباح ووديع الصافي، وشادية؟
سهيل عرفة وجيله من الموسيقيين، لم يكونوا ملحنين فقط، أسسوا لنهضة موسيقية سورية، فقد شاركوا النهوض الدرامي السوري، وقبل أن تصبح الموسيقا التصويرية على ما هي عليه من ركيزة فنية ودرامية قام هؤلاء، وفي مقدمتهم سهيل عرفة، بإنجاز موسيقا تصويرية للدراما السورية، ومن يتجاهل دورهم في إنجاز موسيقا غاية في العذوبة والتأثير؟ مع السينما وضع سهيل عرفة أبدع الموسيقا والألحان، وغنت له شادية من التراث السوري الخالد لأبي خليل القباني (ياطيرة طيري)، وقدّم لمسلسلات من كلاسيكيات الدراما السورية أعذب الموسيقا المؤثرة.
ولسهيل عرفة السهم الأعلى في أغنيات وجدان الوطن، من قاسيون أطلّ يا وطني، صباح الخير يا وطناً، عرس التحدي.
وله في حالات الوجدان الإنساني أغنيات باقية وفي رأس القائمة أغنيته (يا دنيا راحوا الغوالي يا دنيا)، ومن كلمات عيسى أيوب الذي أغنى المكتبة الموسيقية بأغنيات لا تُنسى في جوهر الإحساس والانتماء.
ها هو سهيل عرفة يغادرنا اليوم مزينا روحه وصدره وقامته بالموسيقا السورية العذبة التي أعطاها حياته، فاستفاد من التراث، وحوّل رؤيته إلى تراث موسيقي سوري سيبقى زمناً طويلاً، ولم يكن لهذا الأمر أن يكون لولا معرفته وحبه وشغفه وثقافته… منذ عقود تعرفت إلى سهيل عرفة في أروقة إذاعة دمشق، واستمرت اللقاءات في مكتبه بقاسيون أو في بيته في قلب دمشق، وكانت الجلسات متقاربة ومن ثم تباعدت، وقد جمعنا أصدقاء مشتركون، وأذكر أن الصديق الرائع المخرج المبدع علاء الدين كوكش كان الرابط والمنسق لأكثر الجلسات المشتركة، ولعلّ أبدعها تلك التي كان علاء يتصل ليقول: زكريا تامر بالبلد ونجلس معاً، وفي مكتب سهيل عرفة نلتقي لنذهب إلى ضوء القمر سهيل عرفة وعلاء الدين كوكش وزكريا تامر وياسر المالح وأنا.. كان سهيل عرفة لا يحب الهاتف المحمول لذلك يجمعنا جميعاً علاء، وبقي الأمر كذلك، حتى قال سهيل: لقد أجبرتني أمل على الهاتف، لأنها صارت تقلق على صحتي، وتريد متابعتي.
في كل جلسة يخرج أبو عادل من حقيبته كيساً من الموالح لا يزال دافئاً، ويشرح لنا كيف ذهب وأتى به من المحمصة في الشام القديمة، إنه طازج وأطيب وفيه رائحة الشام.
سهيل عرفة كان صديقاً حقيقياً، وعاشقاً للشام وأصدقائه، ويحلو له أن يواعد أصدقاءه عند محل «أبو علي» تحت بيته، لأنه إن نسي أو تأخر يمكن لأبي علي أن يوصل أمانتك أو يؤديها لك… لم يتملك النسيان سهيل عرفة، لا نسيان العجب، وقد وصل إلى مكانة عالية، ولا نسيان المرض، وقد حدثته في مرضه وكان يحتفظ بأدق التفاصيل، وبقي حتى ظهوره الإعلامي الأخير صديقاً محباً ذاكراً لكل تفاصيله، والأهم أنه بقي محباً ومقدراً لأصدقائه.
أما فنياً فيكفي سهيل عرفة أنه غادر أرض الشام حركة لينزرع فيها وهو مؤمن بالخصوصية السورية والموسيقا السورية، وكان يعتب على الفنانين السوريين الذين يختارون لهجات غير السورية، وألحاناً غير السورية، ويدلل على قدرة الموسيقا السورية واللهجة في الوصول إلى مساحات كبيرة عربياً، وهذا ما جعله مكتفياً بخصوصيته مع أنه كان قادراً أن ينتقل إلى آفاق عربية، وقد فعل، لكنه بدل أن يتخلى عن خصوصيته جاء بهم إلى الأغنية السورية والتراثية.
ومن الناحية الأهم، فإنه، وعلى الرغم من كل ما عصف بسورية فإن سهيل عرفة بقي يؤدي نشيده «من قاسيون أطل يا وطني» وينادي على المغترب أن يعود في «يا دنيا» فلم يتنكر لبلد خلقه وأعطاه، وبقي متمسكاً به حتى آخر لحظاته حاملاً تكريم سورية ووسامها على صدره، لا يتنازل عن سوريته وحبها، وعن التجوال من الشاغور إلى البزورية لينتقي بهارات روحه الممتزجة بالدم عنده، فاستحق أن يبقى حوله محبوه والسوريون إلى أن قرر أن يرتاح في رقدة أبدية في حضن محبوبته الشام.
ترى أكان يدري قبل عقود عندما لحّن:
يا نهر الشام
أنا جاي لعندك
وتحت فية زندك
حط راسي ونام
يا نهر الشام؟
هل كان يدري أن نهر الشام ينتظر احتضان إبداعه وموسيقاه ونوتاته؟
هل كان قراره منذ تلك اللحظة أن يكون نهر الشام علامة بقائه وخلوده؟
طار بموسيقاه
أخلص بانتمائه
لوّن الحناجر بموسيقاه
أطرب وأسعد وأبكى
خلّد الموسيقا السورية، وها هو يطوي أوراقه
يستند إلى عوده المبدع ليغمره بعبقرية اللحن
ويردد العود صدى صوته
يا دنيا
راحوا الغوالي يا دنيا

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن