ثقافة وفن

في الإرهاب الفرنسي .. تفاصيل استشهاد سعيد قهوجي قائد حامية البرلمان 1945

| شمس الدين العجلاني

تمر ذكرى التاسع والعشرين من أيار، ذكرى الاعتداء على المجلس النيابي السوري كل عام، من دون أن نسلط الضوء على إرهاب فرنسا، إنما نعيد صوراً وكلمات سبق الحديث عنها من دون جديد مهم!؟
لقد ارتكب المستعمر الفرنسي ومرتزقته على مدى خمس وعشرين سنة «1920 – 1946» وهي فترة الانتداب الفرنسي على سورية، الجرائم التي يندى لها الجبين بحق الحجر والبشر في بلادنا، من سرقة ونهب لثرواتنا وآثارنا، إلى ارتكاب أفظع جرائم القتل بحق مواطنينا.. جرائم الأمس، ترتكب اليوم، الدول المستعمرة نفسها تعود اليوم بأدوات جديدة لتفتك بأهلنا وبيوتنا.
حين قامت فرنسا في التاسع والعشرين من أيار عام 1945 م بقصف البرلمان السوري بالطائرات والمصفحات وقتلت حامية البرلمان لم تكتف بذلك، بل قامت بحرق جثامين شهداء الحامية بعد أن مثلت بها، والأغرب من ذلك أن فضائية فرانس 24 قامت عام 2012 م ببث صور الجثث المتفحمة لشهداء حامية البرلمان عام 1945 م على أن هذه الصور حصلت في بلادنا خلال الأزمة الحالية في سورية.
قصص وحكايات تحتفظ بها الذاكرة والصحف والمجلات وبطون الكتب.. قصص وحكايات تروى بمزيد من الألم عن إرهاب فرنسا في بلادنا..
و قتل قائد حامية البرلمان السوري المفوض سعيد قهوجي من حكايات وقصص الإرهاب الفرنسي بدمشق.

البداية
تعرضت حامية مجلس النواب السوري يوم 29 أيار عام 1945 لأشد أنواع القتل والفتك على أيدي المحتل الفرنسي ومرتزقته من السنغال، وتم التمثيل بأجساد الشهداء أشنع تمثيل وشوهت وأحرقت الجثث وشوهدت آثار السواطير على أجسامهم بشكل تقشعر له الأبدان.
الشهيد سعيد قهوجي هو قائد حامية مجلس النواب السوري يوم 29 أيار من عام 1945 م عندما قام المستعمر الفرنسي بقصف المجلس وتدمير أجزاء كبيرة منه، وقتل حاميته من الدرك والشرطة.. والشهيد قهوجي تعرض للوحشية الفرنسية فهو من أصدر الأمر لحامية البرلمان بعدم الانصياع لأوامر المستعمر الفرنسي ورفض أداء التحية للعلم الفرنسي، وكان أول من أطلق الرصاص دفاعاً عن مجلس النواب، سعيد قهوجي قاد المعركة الأولى في الدفاع عن البرلمان، ظل يقاوم حتى سقى بدمه الطاهر تراب الوطن، أمره الفرنسيون بصفته ضابطاً يتبع قيادتهم أن يلقي سلاحه ويستسلم. رفض أن يسمع الأمر، هاجمه الفرنسيون بالدبابات، كان مسلحاً بالبنادق، ظل متحصناً بالبرلمان، حتى اخترقت دبابتان باب الحديقة الخلفي، استدار على الصوت، بحث عن جنوده فوجدهم قطعاً من اللحم المتناثر على الأرض، أحس أن أقدامه تسمّرت.. نظر في فوهة مدفع الدبابة، وضغط زناد مسدسه، أصابته قنبلة المدفع في صدره، امتلأ حلقه بالدم، وذهب إلى جنات الخلد.

من الشهيد قهوجي؟
مع الأسف لم أستطع الحصول على معلومات كثيرة عن قهوجي، إنما أغلب الظن، هو من مواليد دمشق عام 1920 م استشهد بعمر 25 سنة، هو من سكان حي الشيخ محيي الدين، تزوج من مهجت عبد الصمد، وهو في التاسعة عشرة من عمره عام 1939 م، ورزق بثلاثة أولاد «سبق وكتبت سابقاً أن زوجة الشهيد هي إمامة وهذا خطأ».
كان قهوجي على علاقة طيبة مع جميع زملائه في العمل كذلك مع النواب في المجلس النيابي وخاصة رئيس المجلس سعد اللـه الجابري.
ترك المفوض سعيد القهوجي حينها ثلاثة أطفال.. بنتان، وصبي، وهم إمامة، أسامة، سلوى، ابنه أسامة مواليد عام 1940 م أي إن عمره الآن سبعة وسبعون عاماً لو كان على قيد الحياة.
وابنته إمامة مواليد عام 1942 م أي إن عمرها الآن خمسة وسبعون عاماً لو كانت على قيد الحياة.
أما ابنته سلوى فهي مواليد عام 1944 م أي إن عمرها الآن ثلاثة وسبعون عاماً لو كانت على قيد الحياة.

طريق الشهادة
في تلك الأيام من شهر أيار من عام 1945 م كانت دمشق على شفير الهاوية، المستعمر الفرنسي يجهز قواته ومرتزقته وينشرهم في أنحاء المدينة مع معداتهم، هذه القوات المستعمرة كانت بين الفينة والأخرى تعتدي على المواطنين.. الجنرال الفرنسي اولفار روجيه قائد حامية دمشق يصدر التعليمات والبلاغات السرية لقواته وعناصره وأسرهم، مجلس النواب في تلك الأيام يتصدى لكل بلاغات الجنرال الفرنسي، دمشق كانت «تغلي» على جمر ونار.
في اليوم التاسع والعشرين من أيار خرج «سعيد القهوجي» فجراً من منزله في حي الشيخ محيي الدين بعد أن تناول فطوره وودع زوجته مهجت عبد الصمد وقبّل أطفاله الثلاثة وحمل سلاحه وهم بالخروج هنا قالت له زوجته أرجوك لا تذهب، أنت في خطر لا تذهب وتتركني وتترك الأولاد، ولكنه صاح بها معاتباً ومضى في طريقه طريق الشهادة… والتحق على رأس عناصر حامية المجلس النيابي.
عندما غادر رئيس المجلس النيابي سعد اللـه الجابري مبنى المجلس قبل بدء العدوان، طلب سعيد قهوجي وقال له، البرلمان أمانة في عنقك أنت ورجال الحامية، وغادر الجابري البرلمان.. وكان قهوجي على قدر الأمانة وأكثر.
بدأ العدوان الفرنسي على دمشق ومجلسها النيابي الساعة السادسة والدقيقة الخمسين بالقصف بالطائرات والمدفعية والدبابات والمصفحات ورشاشات كبيرة وصغيرة.. أعلم الجابري بالأمر، فأصدر أوامره للقهوجي بالرد على قوات المستعمر الفرنسي وعدم تحية علمهم.. وأصدر قهوجي أوامره للحامية بالتصدي للقوات الفرنسية وكان أول من أطلق النار عليهم.. وحصل التدمير للمجلس النيابي واستشهدت أغلبية عناصر حامية البرلمان، ومثلت القوات الغازية بجثامين الشهداء وأحرقتها.

كيف استشهد قهوجي؟
رويت عدة حكايا عن كيفية استشهاد المفوض سعيد قهوجي، ويذكر شاهد عيان شارك في الدفاع عن مجلس النواب واسمه محمود نعيم عناية: «ومررت بجثة الشهيد طيب شربك والشهيد سعيد القهوجي مقلوبين على نافذة وعيونهم وآذانهم وأنوفهم مقطوعة ومقلوعة». وفي شهادة أخرى يقول عناية: «كانوا قد صلبوا جثة مفوض المجلس سعيد قهوجي – في قاعة المجلس».
ويقول الشهيد الحي إبراهيم الشلاح: «توجهوا إلى المفوض السيد سعيد القهوجي فقطعوا يده ورجله وفقؤوا عينه فتوفي في الحال..» ويقول أيضاً الشلاح في شهاده أخرى: «فشاهدت أن واحداً منهم» يقصد من المرتزقة السنغال «تقدم إلى المفوض سعيد القهوجي وأخذ يضربه بساطور على رجله اليسرى ويده ضربات متواليات حتى قطعهما ثم فقأ عينيه بحربته».
أما الشهيد الحي محمد مدور فيقول في شهادته على العدوان الفرنسي: «وحين اشتد القصف الفرنسي على المجلس وشعر القهوجي بنفاد الذخيرة لديه تراجع إلى قبو المجلس مع عدد من أفراد الحامية وهم محمود الجبيلي ومشهور المهايني وإبراهيم الشلاح، بعدئذ اندفع المرتزقة السنغال إلى القبو حيث عثروا على المفوض سعيد القهوجي ورفاقه، فقتلوهم جميعاً وقطّعوهم إرباً إرباً بوساطة السواطير، وسلبوا نقودهم وساعاتهم، وتوجهوا إلى المفوض سعيد القهوجي فقطعوا يده ورجله وفقؤوا عينه فتوفي».
مختار باب الجابية يروي استشهاد قهوجي

يروي مختار باب الجابية في عام 1958 استشهاد المفوض سعيد قهوجي قائد حامية البرلمان فيقول: «ترك ثلاثة أطفال.. لقد ترك بنتين وصبياً.. إن ابنتيه كبرتا الآن.. إنهما لا يذكران وجه والدهما.. ويتابع مختار باب الجابية قائلاً: خرج يومها «سعيد قهوجي»: من الفجر.. ودع زوجته وقبّل أطفاله الثلاثة وحمل سلاحه ومضى كان يعلم أنه يحرس البرلمان… إن سعيد قهوجي قاد المعركة الأولى في الدفاع عن البرلمان.. ظل يقاوم حتى نجا أعضاء المجلس ومكث هو بجنوده.. أمره الفرنسيون بصفته ضابطاً يتبع قيادتهم أن يلقي سلاحه ويستسلم. رفض أن يسمع الأمر.. هاجمه الفرنسيون بالدبابات كان مسلحاً بالبنادق.. ظل متحصناً بالبرلمان.. حتى اخترقت دبابتان باب الحديقة الخلفي.. استدار على الصوت. بحث عن جنوده فوجدهم قطعاً من اللحم المتناثر على الأرض. أحس أن أقدامه تسمّرت.. نظر في فوهة مدفع الدبابة.. وضغط زناد مسدسه. أصابته قنبلة المدفع في صدره. امتلأ حلقه بالدم.. وذهب.
ذهبت زوجته لتبحث عنه.. لم تستطع أن تعثر عليه.. زارها سعد اللـه الجابري رئيس المجلس النيابي.. قال لها إن زوجها مثّل الفرنسيون بجثته، كانوا يقطعون الرؤوس ويعلقونها بعد أن يطمسوا معالم الوجه.
كبرت بناته الآن. إن ابنته في الصف العاشر بالتجهيزي.. وابنه في الصف التاسع ويريد دخول الجيش.. إنه يعلم امتداد والده.. إنه يحلم بليل يحرسه..».

الزوجة تروي الحكاية
تروي مهجت عبد الصمد استشهاد زوجها سعيد قهوجي فتقول: «خرج يوم العدوان من البيت ولم يعد، وقبل أن يخرج قلت له لا تذهب فأنت في خطر، لا تذهب وتتركني وتترك الأولاد ولكنه صاح بي: إياك أن تقولي لي هذا ثانية، إن النساء في الشوارع لا تخاف الرصاص وتريدين مني أن أبقى في البيت؟ وحين قالت له والأولاد قال لها «لهم اللـه» وتقول زوجته بعد استشهاده: «يوم قلت له لا تذهب كنت امرأة بسيطة غير متعلمة لا أعرف أهمية الرجال المخلصين بالنسبة لوطنهم».
يوم بدأ الضرب أرسلت له الطعام إلى البرلمان كعادتي وحملت ابني أسامه، وكان عمره خمس سنوات، ووقفت أنظر إلى الشام الجريحة. كان الدخان يتصاعد منها.. وكانت سوداء كئيبة، وبدأ قلبي يحدثني بالسوء.. ونظرت إلى الأولاد، وكانوا ثلاثة: الصبي في الخامسة والبنتان واحدة عمرها ثلاث سنوات والثانية عمرها سنة، وتساءلت: ترى هل يعود أبوهم إليهم؟ ولم يعد. ومرت أيام العدوان من دون أن نأخذ خبراً عنه. وعندما توقف الضرب وجدوه مع الجثث الأخرى مرمياَ في المزة بعد أن وضعوا فوقه الكلس، وقد تعرف عليه ابن أخته من بقايا ملابسه.. وأضافت بحرقه: اللـه لا يخلي ولا فرنساوي.. راح وما رجع.. مات وعمره 25 سنه، ولم يدم زواجنا سوى ست سنوات. ولم يسأل عني ولا عن أولاده في سبيل وطنه. قال له رئيس المجلس النيابي سعد اللـه الجابري: سعيد أفندي البرلمان أمانة في عنقك أنت ورجالك. وكان بطلاً شهماً وطنياً مخلصاً في وطينته، وما إن سمع كلمة رئيس المجلس حتى ازدادت حماسته وظل يدافع عن البرلمان والعلم السوري حتى استشهد.
أنا افتخر باستشهاده وأربي أولادي دائماً وأقول لهم يجب أن تكونوا مثل أبيكم.. يجب أن تكونوا نسخه ثانية عن وطنية أبيكم.

أسامة قهوجي
يقول ابن الشهيد قهوجي في لقاء صحفي عام 1958: «كلما عادت ذكرى استشهاد أبي أشعر كأنه استشهد من جديد والدي حارب في سبيل استقلال سورية وأنا سأحارب في سبيل سورية وضد أي استعمار في أي بلد عربي سأنتسب إلى الجيش لأتخرج ضابطا في جيشنا القوي الذي أصبحنا نفتخر به لأنه يعد من أقوى الجيوش بعدته ورجاله المخلصين».

إمامة قهوجي
الطالبة في الصف العاشر ابنه الشهيد تقول في لقاء صحفي عام 1958 م: «إنني أكره الفرنسيين.. إنني أمقتهم، لأنهم يريدون استعباد الشعوب بقوتهم الغاشمة. إنني أفتخر بذكرى استشهاد والدي وإخوانه من الشهداء لأنها ذكرى وطنية عزيزة على المواطنين.. ويكفيني فخراً أن والدي بينهم وعلى أيديهم نلنا استقلالنا».

سلوى قهوجي
البنت الصغرى للشهيد سلوى تقول: «كل ما أتمناه أن يزول الاستعمار الفرنسي عن الجزائر. وأنا تبرعت بكل نقودي في أسبوع الجزائر، لأنني أول من يشعر بشعور إخواننا الجزائريين».

أخيراً
في التاسع والعشرين من أيار من العام 1945م اكتوت دمشق بنيران قصف قوات الانتداب الفرنسي على البرلمان السوري، والمناطق السكنية المحيطة به، إنها مجزرة إرهابية فرنسية بحق سورية، لم يبق من يروي لنا حكاياتها وفصولها بكثير من المرارة والحزن والأسى، بل بدموع من دم، فقد توفي آخر شاهد بتاريخ 24 أيلول عام 2002، وهو الشهيد الحي إبراهيم الياس الشلاح الذي كان شاهداً عليها حيث عاش وشارك بكل تفاصيلها.
لقد كانت إرادة الشعب أقوى من الجريمة، وأمضى من التدمير وأعظم من الفتك والبطش.
وهكذا كان العدوان قاسياً، وظالماً وأكثر من متوحش، وشكل الجرح الذي نزف في 29 أيار عام 1945 م حافزاً كفاحياً جدياً لمزيد من تصعيد المقاومة وخوض معارك التضحية والجود بالنفس وصولاً إلى الحرية وإجلاء المستعمر عن أرض الوطن.
والآن وبعد اثنين وسبعين عاماً على مجزرة البرلمان السوري قوى الشر الاستعمارية نفسها تعاود الاعتداء على سورية، الوجوه نفسها.. الأدوات نفسها.. وإن اختلف الأسلوب، فالإرهاب هو الإرهاب.
يحاولون اليوم النيل من أعرق حضارة شهدتها الدنيا من سورية بلاد الشمس الخالدة، من عروس المدن والمدائن وأجمل صبية تجاوز عمرها سبعة آلاف عام ولم تزل بعمر الورد والفل والياسمين، من دمشق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن