ثقافة وفن

سهيل عرفة في آخر حواراته مع «الوطن» .. «يا دنيا راحوا الغوالي» حالة إنسانية عالية و«الله يحميكي يا حلب» لم تر النور

| سوسن صيداوي

من زمن العمالقة زمن الأصالة زمن الأبيض والأسود، زمن التأسيس والسعي الجاد لاعتناق رسالة، زمن حراس جودة الفن وعراقته، لأشخاص يتهادون بقدس الموسيقا باعتبارها في معتقدهم روح اللـه في البشرية. فالأمور بالنسبة لهم لم تكن يوماً عبثية، والمصادفات لا تأتي هكذا، فكل شيء في هذا الوجود له سببه الدافع لأمور أساسية في الحياة، ربما في داخلنا نحن مدركون لها أو بالمعنى الأدق نحن مؤمنون بها، أو ربما كنا من مجموع الأشخاص الذين يدركون غاية تلك الأسباب ولكن بعد حدوث نتائجها بزمن، لنبقى حول من هم مؤمنون بأقدارهم، ومؤمنون برسالتهم في هذا الوجود، من اختيروا كي يكونوا عمالقة في زمن جميل، كي يكونوا صنّاع الأصالة والإرث الحقيقي الذي لا يمكن لأيام متراكمة بغبار زمانها المتسارع أن تطفئ وهجها مهما حصل. هو اختار أن يكون منهم وسعى بكل قوته وجهده متمسكا بشعلة إيمانه أن يكون وأصبح، الملحن الموسيقار سهيل عرفة، حارس الأغنية السورية. منذ طفولته تبارك بتراتيل وأناشيد المبتهلين في المسجد الأموي، ولطالما قال إن الموسيقا نبيلة لأنها من روح الله، ورغم كل الظروف التي حاولت صدّ وإعاقة عشقه للموسيقا كان يختلس سماع الراديو بغياب والده الذي كان سببا في تحطيم عوده عدة مرات، وهذا أمر طبيعي في ظل عائلة من طبقة محافظة. لكن الأقدار تشاء أن تصبح مهنته ومكسب لقمة عيشه مهنة تصليح المذياع، لتكون بعدها المسيرة التي مهدّت له كي يصبح مغنياً لفترة قصيرة ليكون بعدها من أهم ملحني الأغنية السورية ومطلقيها نحو العربية أولا ومن ثم العالمية عبر أغان عاطفية ووطنية وأغان للأطفال.

محطات حياتية

في عام 1934 ولد سهيل عرفة في حي الشاغور الدمشقي وسط عائلة متوسطة الحال، في ذلك الوقت كان المذياع في بداية انتشاره، كان صبيا صغيراً ومتنفسه الوحيد الذهاب برفقة أبيه إلى «الموالد» والاحتفالات الدينية. وفي تلك الأوقات كان من الضروري أن يتعلّم الطفل مهنة في الصيف، وأن يلحق بشيخ كار لإحدى المهن التي كانت دارجة، ومن حسن حظ الطفل سهيل، ورغم أنهم من عائلة جد محافظة، إلا أن الطرق كانت كلّها مؤدية لتحقيق حلمه والبداية في اختيار مهنة تصليح الراديو في شارع السنجقدار في دمشق، لأنها كانت قريبة إلى هوايته، وتوالت الأيام حتى أصبح يتردد على إذاعة دمشق آنذاك مع مهندس يدعى خالد الغزة. فبعد أن قام بإصلاح مذياع عبد العزيز الخياط، الذي قدّمه في سهرة كعازف للعود ومغنٍ، وطبعا نال إعجاب الحاضرين أمثال نجيب السراج ورفيق شكري وعدنان قريش ومحمد عبد الكريم، بدأ المشوار بأغنية «نورا نورا» لفريد الأطرش وغناها في الإذاعة من خلال مشاركته في برنامج ألوان، ثم قدم أول لحن للفنان فهد بلان في أغنية «بطل الأحرار»، استمر الموسيقار في إصراره رغم مقاطعة إخوته له، ليؤلف عدة ألحان في الإذاعة. في بداياته كمغنٍ في الإذاعة تعرف إلى مطربين ومطربات لبنانيين مثل نجاح سلام التي سمعت ألحانه وغنتها كأغنية (ورمانة بحبو يا قلبي)، وأثناء زيارة رئيس دائرة الموسيقا في الإذاعة اللبنانية لدمشق الملحن حليم الرومي، استمع إلى ألحانه فأعجبته فخصص له ركناً في إذاعة لبنان، بعدها تعرف إلى الفنان نصري شمس الدين ومحمد زين والمطربة هيام يونس وليلى مطر وسمير يزبك ومروان محفوظ وأميرة وعدد كبير من المطربين الذين شاركوا عرفة في محطات من مسيرته الفنية، ومن خلال حليم الرومي اجتمع سهيل مع صباح وتعاون معها في أغنية «من الشام لبيروت» التي كانت بطاقة عبور إلى تعاون آخر كان سببا في شهرة واسعة في الأوساط العربية عبر أغنية «ع البساطة» في فيلم «أهلا بالحب» (1968). ومن بعدها توالت النجاحات من خلال سلسلة من الألحان لفنانين سوريين وعرب مثل: أشهر القدود الحلبية «يا مال الشام» لصباح فخري ورائعة أبو خليل القباني، «يا طيرة طيري يا حمامة» التي لحّنها لشادية، «وسكابا يا دموع العين» لشريفة فاضل و«يا غزالاً عنّي أبعدوك» لنجاة الصغيرة. لكن حضور الشام في قلب الراحل كان قوياً وله جل عمقه وأثره البالغ والحاضر في الأغاني الوطنية والبداية كانت مع أغنية «من قاسيون أطلّ يا وطني» لدلال الشمالي. المحطات والعطاءات كانت بكرم صاحبها حتى وصلت إلى أكثر من ألف وخمسمئة عمل تنوعت بين الأعمال الوطنية والعاطفية والشعبية والطربية، وأغاني الطفولة، والموسيقا التصويرية سواء من أفلام سينمائية أم مسلسلات سورية كان لها جانب كبير من عطاءات سهيل عرفة الحاضر بين العمالقة، والشاهد على زمن الفن الجميل الأصيل فعاطفته للموسيقا وغيرته عليها مكنته من وضعها في كل المجالات سواء أكان مؤسساً أم متعاوناً مع كل من هو حاضر، مسيرته الحافلة، منذ نهاية الخمسينيات، والتي يشهد عليها ما يبقى في الذكرى وفي القلب من أغان لا يمكن للذاكرة التجرؤ على نسيانها، لأن فيها الحب والعاطفة والبساطة وحضور الشعبية الراقي الممزوج بالتراث الجميل، وستبقى في وجدان الجماهير العربية وسترددها مهما طال الزمن منها: (يا دنيا) و(بلدي الشام) لوديع الصافي والأغنية الأخيرة شاركته فيها فاتن حناوي و(يامال الشام) و(ميلي ما مال الهوى) لصباح فخري و(عالبساطة) و(بياع التفاح) و(أخذ قلبي سكارسة) لصباح و(يا طيرة طيري يا حمامة) لشادية و(بالأمس كانت) لفهد بلان، و(رمانا بحبو يا قلبي)، و(والله لنصب تلفون) لنجاح سلام، و(قدك المياس) لطروب، و(يعطيك العافية يا بو العوافي) لسمير يزبك، و(من قاسيون أطل يا وطني) لدلال الشمالي، و(ودي المراكب عالمينا) لمروان محفوظ، و(صباح الخير يا وطناً) لأمل عرفة وفهد يكن. عطاءات مكنته بجدارة من التعيين في وزارة الإعلام السورية عام 1974 بمرسوم جمهوري أصدره الرئيس حافظ الأسد، وبأن يكون عضواً في جمعية الملحنين والمؤلفين في باريس وفي عدد من الهيئات والجمعيات الفنية، بالإضافة لحصوله على وسام الاستحقاق من الرئيس بشار الأسد أواخر عام 2007، إضافة إلى العديد من الجوائز والتقديرات والشهادات.

وديع الصافي
لحن عرفة لوديع الصافي الكثير من الأغاني الشهيرة والمحببة وأهم هذه الأغاني: يا دنيا، لا ترحلوا، يا زمان، مشتاق زور الحي.. وكانت آخر أغنية لحّنها له بعنوان: (حنونة يا بلادي) من كلماته وألحانه. اعتبر عرفة أن صوت الفنان الكبير وديع الصافي كان حلماً لأي ملحن يضمن له دخول التاريخ، وهذا ما حصل معه عندما غنى له الصافي «يا دنيا» وغيرها، مشيراً إلى أن الأغنية كتبت أصلاً لسعدون الجابر إلا أن الصافي عندما سمعها أصر على غنائها، مضيفاً إن وديع كان حساساً وراقياً في التعامل مع اللحن، التعامل مع الكبار يريح كثيراً.

مع الشحرورة
عبّر عرفة عن فخره بتلحين مجموعة من أجمل أغنيات صباح مثل «عالبساطة» و«آخذ قلبي سكارسة» و«يا رب تشتي عرسان» وغيرها الكثير، معتبراً أن صباح هي أميرة الأغنية بكل ألوانها، كما قال: إن أغنية «ياطيرة طيري ياحمامة» التي غنتها له شادية في أحد أفلامها كان كتبها لصباح قبل أن يلتقيها كما أن أغنية «عالبساطة» لم يكن الفنان الراحل فريد شوقي الذي شارك صباح بطولة الفيلم الذي غنت فيه الأغنية راضياً عنها، فتم تسجيلها من دون علمه وأطلقت من دمشق ليتصل به فريد شوقي حينها ويقول له صنعت من «البساطة» شيئاً مهماً جداً. متابعاً أن صباح أولاً أميرة الأناقة وأميرة الأغنية بكل معاييرها، وصباح لا يمكن أن تراها إلا مبتسمة، وأنا أذكر موعدي الأول معها، والذي نسَّقه تحسين قوادري، وعندما دخلنا إلى منزلها، فوجئت بأن عندها ضيوفاً: سعيد فريحة، جورج إبراهيم الخوري، بليغ حمدي، وردة، عاصي الرحباني وفيروز وممثل نجم من إيران. حينذاك، وذوقاً منّي، أخذت فنجان قهوتي وخرجت إلى الشرفة. بعد قليل لحقت بي صباح ومعها صحن فيه شوكتان قائلة: سنتعشّى معاً، فقلت لها: وضيوفك؟ أجابت: ضيوفي يأتون ويرحلون، أما أنت فستلحّن لي».

السينما تغني
اعتبر الموسيقار سهيل عرفة أن الأغاني الخالدة إنما خلدتها الأفلام لأن السينما هي أوفى مكان للفن والأدب وهي التي تخلد الأعمال، قائلا «لحنت موسيقا تصويرية لستة وأربعين فيلما على رأسها فيلم «الفهد» وهو من تأليف حيدر حيدر وإخراج نبيل المالح، وحققت الرقم الصعب في الشارع العربي بنخبه الكبيرة، ونلت جوائز عالمية على أفلام وثائقية مثل شهادة الأطفال الفلسطينيين، قُدمت لنا باسم الاتحاد السوفييتي بتلك الفترة، كما نلنا جوائز ذهبية على فيلم (نحن بخير) وفزنا على سبعين دولة».
كما قام بتأليف الموسيقا لعدد كبير من الأفلام السينمائية مثل المغامرة لسعد اللـه ونوس والمصيدة، والسيد التقدمي، وقتل عن طريق التسلسل، والجولان، وسورية النظرة الثانية، ومطلوب رجل واحد، وشهادة الأطفال، والزيارة وغيرها.

مسرح وتلفزيون
قام الملحن سهيل عرفة في الستينيات بإنتاج ألحان عديدة لمسرحيات مثل (أيام سلمون، السعد، أنت ألي قلت، ليلى ما بتتعوض).. أما في مجال التلفزيون فقد قدم الموسيقا التصويرية لكل من المسلسلات التالية: (أيام شامية، أبو كامل، المكافأة، الدولاب، حتى الرجل الأخير، الحب والشتاء، في سبيل الحرية، سيرة بني هلال، عبد الرحمان الكواكبي)؛ إضافة إلى عدد كبير من الألحان الأخرى على صعيد الاسكتشات.

كتاب «النغم والكلمة»
على الرغم من أن الملحن عرفة لم يرتد المدارس أو الجامعات وحتى المعاهد الأكاديمية إلا أن الحياة أغنته بثقافتها وعلومها وأثرت مداركه وأحاسيسه بكل ما هو جميل وبسيط وفي الوقت نفسه قريب من الجموع من كل الفئات والمستويات، وطبعا الأمر واضح من أعماله المناسبة حتى لكل الظروف الحياتية، وتكريما لقامته قامت وزارة الثقافة بإصدار كتاب «النغم والكلمة» في حياة الموسيقار سهيل عرفة. في البداية كان الكتاب عبارة عن مجموعة أوراق ومخطوطات وأناشيد موجودة بحوزة الموسيقار سهيل عرفة قدمها للراحل ياسر المالح ليقوم بصياغتها بأسلوبه الجميل المحبب، لكن المرض ألم به، وكان عرفة يقول دائماً لصديقه د. علي القيّم «دعه يسرع»، فيجيب المالح «عضة كوساية وبيخلص» ويبدو أن المالح رحل وعضة الكوساية لم تكمل بعد، فقامت زوجته «أمل خضركي» بإكمال توثيق الكتاب، ووقع الاختيار على د. علي القيّم لكتابة المقدمة لكونه متابعاً لمسيرته وعطاءاته.

حوار «الوطن» مع الراحل
عندما كان الموسيقار سهيل عرفة يصارع المرض في مشفى الطلياني قمنا بزيارته وتم نشر الحوار التالي في صحيفتنا على جزأين متتاليين في تاريخ الرابع والخامس من شهر أيلول لعام 2016 وإليكم بعضا مما جاء فيه.
هل تعتبر أن السوريين ضد الأغنية السورية؟
بالطبع… وللأسف الشديد السوريون أساؤوا للأغنية السورية، لماذا لا أعرف السبب، وأنا أستغرب هل من أحد لا يحب هويته؟ فالأغنية والموسيقا هي هويتنا، فمثلا اليوم الموسيقا التصويرية ذهبت هويتها، لأن الكل يقومون بأخذ مقاطع موسيقية من عدة ثقافات ويقومون بدمجها، وفي الوقت الحالي لا يوجد من يدعم الموسيقا التصويرية إلا أقلية والأقلية لا تكفي، فما أقصده على وجه التحديد أن الأغنية السورية اليوم أصيبت بفيروس يقوم بتشويهها وبتشويه كل ما يرتبط بها من كلام أو لحن، فهناك انحدار لفظي منتشر في أغنيتنا بشكل مرعب فعلى سبيل المثال وكي أوضح، هناك العديد من الأغاني التي كلامها مثل هذا الكلام «يا ويل علي يا ويلي…متل الورق طيرتيني»، ما هذا الكلام؟هذا الكلام يجب ألا يخرج من فم رجل لديه قضية أو مبدأ وهو عليه واجب الدفاع عن وطنه وتحمّل واجب القضية الفلسطينية، وكيف يقول كلاماً كهذا؟وكم من فرق بينه وبين الجندي السوري الذي يعاني برد الشتاء القارص أو حر الصيف القاسي والشوق الكبير إلى أهله ورغم كل ما يواجهه من تحديات تراه واقفا شامخا معانقا بندقيته كي يحرر سورية وطنه.

لا يمكن أن يكون المرء سفيراً للأغنية إلا إذا كانت أغانيه مؤثرة في الجمهور إلى أبعد مدى؟
هذا صحيح… فالأغنية القريبة من الجمهور هي التي تبقى مهما طال الزمن وهي التي تؤثر فيه وعليه في الوقت ذاته، وهنا أريد أن أذكر أن الرئيس حافظ الأسد كان يحترم الأغنية السورية جداً ويقدرها ويهتم بها معتبراً إياها سلاحا مؤثرا في الناس، وكذلك الحال بالنسبة إلى الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان يهتم أيضاً بالأغنية ويراها أقوى من خطابه الذي كان يعمل عليه بالساعات، واليوم للأسف الشديد ما تعانيه الأغنية السورية هو مؤامرة، ويؤسفني أن أقول: إنها مؤامرة.

في زمنكم زمن العمالقة كنتم معطاءين جداً ولم تفكروا بالمقابل المادي، كان همكم ومسعاكم هو إثبات الذات وتحدي الصعاب لتحقيق الحلم…هل يمكننا القول إن أحد أسباب تراجع الأغنية السورية هو السعي وراء الربح المادي؟
لا…. ليس السعي وراء الأموال والمادة فقط، بل الخطأ يقع على أصحاب القرار من مديري المؤسسات الإعلامية، وأيضاً على الفنان نفسه الذي يقوم بدوره باختيارات تعبر عن هشاشة ثقافته الموسيقية، وطبعا الماضي يطوى وأرشيف الأغاني يمكنني القول: إن فوقه الغبار من قلة الاستعمال، وللأسف حتى لو تذكروا وضع أغنية ليس هناك من تعريف لمناسبتها أو من ألفها ولحنها وهذا كلّه يؤثر في ثقافة الأجيال القادمة الموسيقية، أقول هذا من عتبي وألمي، فللأسف حراس الأغنية السورية كلّهم ذهبوا وكلهم كانوا يدافعون عن الأغنية السورية وكنا نحمل رايتها، واليوم أنا آخر حراس الأغنية السورية ولا أستطيع وحدي أن أدافع عنها في ظل ما تواجهه من تحديات تسويقية وانحدارات أخلاقية فنية ولغوية.

اليوم هناك العديد من التجارب بإعادة توزيع الأغاني الطربية والتراثية القديمة بطريقة حديثة مع إدخال آلات موسيقية إليها ولو كانت غربية وذلك من أجل استقطاب الشبان… هل هذا أمر خاطئ؟
لا.. بل هذا سؤال مهم، يمكنني هنا أن أذكر سيد درويش لأنه كان دائماً يسعى إلى تطوير الأغنية وإدخال الآلات الغربية وتأثر به عبد الوهاب كثيراً وتعرض الأخير للهجوم والانتقاد من الأشخاص الوصوليين، وأيضاً بليغ حمدي دخل إلى التراث وعمل «أسمراني اللون» وغنتها شادية وأيضاً عمل أغنية «قولوا لعين الشمس ما تحماشي» ما أظهر شادية بطريقة جديدة واستمر الهجوم والانتقاد، وبالنسبة لي بوقتها كنت في موقع بين سورية ولبنان ومن خلاله كنت قادرا أن أقدم أغاني تراثية فغنى صباح فخري أغنية «ميلي ما مال الهوى» وأغنية «يا مال الشام» في فيلم الصعاليك بطولة دريد لحام ونهاد قلعي ومريم فخر الدين وكان صباح فخري ضيفا، ثم قدمنا أغنية «يا طيرة طيري يا حمامة» وغنتها شادية وهوجمنا بشدة، ولكن في النهاية تبين أننا محقون، وأعود هنا إلى سؤالك أنه هل يجوز إعادة توزيع الأغنية… فأقول لك.. نعم يجوز ولكن على من يقوم بأمر كهذا أن يكون ملماً بالموسيقا وتراثها وأصالتها حتى لا يغير من جوهرها أو يسيء إليها وأن يكون الملحن موهوباً ومثقفاً أدبياً ومدركاً للمعنى فهذه أمور مطلوبة من المغني وإن قلّد الأغنية أو أراد إعادة توزيعها، ولا يجوز أن يكون هناك حتى خطأ في مخارج الحروف كما حصل في أغنية «سورية يا حبيبتي» عندما تم تسجيلها من جديد وبأصوات شابة جديدة، فالمغني لم تكن مخارج حروفه واضحة بحجة أنه كان يطرب، كما أن هناك وقاحة منتشرة بشكل واضح بين من يسعون للغناء بأنهم يريدون أن يغنوا للعمالقة فكيف هذا والمغنية الشابة أو المغني لا يملكان أدنى المقومات الموسيقية والصوتية المتميزة، والتي بالطبع تميز صوت العمالقة الذين يريدون الاحتذاء بهم، أو تتمتع بالمقامات الموسيقية المناسبة، يعني أنها تغتال من الذكريات والأصالة والثقافة، وهنا أنصح كل من يقع بهذا المطب إذا كانوا يطمحون للغناء أن يقوموا بغناء ما يناسب أصواتهم وألا يعلّوا السقف لأنهم سيشوهون الأغاني وإلى الفشل.

كملحن… أنت لست من الملحنين الذين ينتظرون وحي اللحن؟
لا أنتظر وحي اللحن أبدا، فأينما كنت أو توجهت دائماً فإن معي آلة التسجيل ولو كنت أقود السيارة، وعندما تأتي على بالي الجملة الموسيقية أسجلها، وفي اليوم التالي لا أسمعها أبدا وإذا لم أتذكرها من تلقاء نفسي كنت أعتبر الجملة المسجلة غير جيدة، فأنا أغامر بهذا الموضوع وأجد أن اللحن العميق يبقى بالذاكرة ولا حاجة لاستذكاره.

إلى أي مدى تعنيك الكلمة التي تقوم بتلحينها؟
الكلمة واللحن مرتبط أحدهما بالآخر ارتباطاً وثيقاً وفي مرات عديدة نجد أن اللحن جميل والكلام لا يناسبه والعكس صحيح وهذا الأمر في النهاية يؤدي إلى إخفاق الأغنية، إذاً الموسيقا لغة نبيلة ومن الضروري أن يُكتب بها كلام يتوافق مع نبلها، وبالنسبة لي أنا شخصياً ولا مرة كان في أغنياتي كلام سخيف أو مؤذ، لأنني أتمتع بتذوق الكلمة.

باعتبارك تتذوق الكلمة هل كنت تتدخل بالتأليف؟
نعم كنت أتدخل بالكلمة أثناء تأليف الأغنية، ولكن إلى حد ما، مثلا أحضر لي عيسى أيوب كلمات أغنية «فاجأني هواك»، وكنت وجدت أن الكلام غير معقول ولا يمكننا تلحينه لأنه لا يناسب عاداتنا وتقاليدنا المحافظة والمعنى سيسيء إليها، لهذا قلت له ستكون الأغنية على الشكل التالي «فاجأني هواك.. حيرني هواك»، وأيضاً حصل هذا الأمر في كلام هذه الأغنية «يا حوا راح يلي راح.. غني ع كيفك.. وضلي طعمينا التفاح.. وما بدنا ندخل ع الجنة»، فهذا الكلام أيضاً يمس بعض المعتقدات ويؤثر بطريقة سلبية فيها لذلك قمت بتغييرها، وأصبحت الأغنية على الشكل التالي «من يوم أكلنا التفاح.. ضعنا وخسرنا الجنة»، أنا لا أحب التطور الذي فيه إساءة للجمهور بأي لفظ أو معنى، ولكن هذا ما نعانيه في الوقت الحالي من الملحنين الذين ليس لديهم قدر من الثقافة وكل ما يعنيهم هو الحصول على المال بغض النظر عما سيسببونه من تأثيرات سلبية خطرة في المجتمع الذي يسمع أغانيهم.

هل يفتقر اليوم من في الساحة الفنية إلى هاجس الفن وشغفه المقرون بالالتزام؟
نحن كنا نعمل بجد وعطاء كبيرين وكنا ننسى الوقت أثناء جلسات التأليف والتلحين واليوم لا أرى أو ألمس هذا الهاجس وهذا الشغف، مرة طلع معي كلام لأغنية فهاتفت عمر حلبي وقلت له اليوم تأتي وبالفعل جاء وبقينا حتى أذان الظهر وكنا ظننا أنه أذان الفجر، إذ سرقنا الوقت ولم نشعر به، وهذه هي الطريقة التي كنا نعمل بها كموسيقيين ومطربين، وكلهم كانوا يأتون إلى الإذاعة كي نسجل الأغاني، وكان الأمر صعباً جدّاً، فالخطأ غير مسموح به، وعند حصوله كنا نعيد الأغنية من بدايتها، حالتنا كانت حالة من الاستنفار الحقيقي وليس هذا فقط بل كان الكل ينتظر في الاستديو كي يسمع أداءه، في حين اليوم الحال اختلف والكل ماض نحو الاستسهال واللامبالاة وهذا من الأسباب والوجع الذي تعانيه الأغنية بالعموم.

الأغاني الشعبية مادامت ناتجة عن البساطة وهمومها فهي لا تموت مهما تبدلت الظروف والأحوال؟
هذا ما اعتبره من عجائب الزمن، فأغنية «ع البساطة» لصباح لما ظهرت مُنعت من الإذاعة وبُثت على التلفزيون السوري رغم أن المبنى واحد، وفي وقتها لم يعجب الكلام مدير إذاعة دمشق رغم أن الجمهور أحب الأغنية، وحتى الرئيس حافظ الأسد كان اتصل بصباح وهنأها على الأغنية، رغم أنها كانت ممنوعة من البث في إذاعة دمشق كما ذكرت، إلا أنه أمر ببثها، إذاً تحكمنا المزاجية والأمثلة كثيرة عن الأغنية الشعبية التي لا تموت، ويمكنني أن أستحضر بالمناسبة مثلا عن سورية، فأنا لم أقدم لها إلا أغنية أو اثنتين، ولكن للشام قدمت الكثير من الأغاني، لأن بلاد الشام هي مهبط الديانات والشام هي كل الحياة وهي بلدي وعنواني، وإلى اليوم كل هذه الأغاني ما زالت مطروقة وتردد إلى يومنا هذا.

كيف ترى الشحرورة صباح؟
صباح هي مؤسسة بحد ذاتها وهي تعمل الذي تريده، فهي تتفاوض مع الذي تريده وتتكلم بنفسها سواء مع المنتج أو الملحن وبطل الفيلم ولكنها لا تفاوض ماديا.

شهادتك في صباح فخري
كان زميلاً لي في خدمة العلم رغم أنه أكبر مني سنا، وفي حياتي كلّها لم أسمعه هاجم أحدا أو أساء إلى أحد، أخلاقه عالية إضافة إلى صوته وقامته ونجاحاته والأوسمة، وما حصل عليه من تقديرات وجوائز في الغناء والأداء، كلّها مع شخصه بكل ما قدمه في حياته الفنية، أظنها كلها لن تموت أبدا.

شهادتك في رفيق سبيعي
رفيق سبيعي شخصية شعبية مرموقة تمثل شعب الحارة والقبضاي الأصيل، أرى أبا صياح في أعظم أدواره في مسلسل أيام شامية لأنها بالفعل لا تختلف أبدا عن أبو صياح رفيق سبيعي، وعندما عملت معه كنت درست التراث الدمشقي لأنني أردت أن أجعله يغني كما يحكي تماما، وأكبر مثال عملت له نحو 32 أغنية أسس بها عمله المسرحي، وأتذكر أننا كنا عملنا أغنية أنا وعيسى أيوب، كان كتبها شادي بن عيسى، وقلت له إذا لم يحبها وديع الصافي يجب أن يغنيها علم مثل وديع ويجب أن يكون رفيق سبيعي، وبالفعل كانت الأغنية من نصيب أبي صياح، لكنني وضعت لوديع الصافي كلاما آخر على لحن مشابه وكنت أنا من كتبها لأنها من ألحاني وهي أغنية «حنونة يا بلادي.. علي على ولادي.. وشو ركعنا وصلينا.. لحتى ترضي علينا.. حنونة يا بلادي»، هذه الأغنية هي آخر أغنية من ألحاني غنّاها وديع الصافي.

ماذا عن فهد بلان؟
صوت خاص وسفير فوق العادة لأي ملحن، كان مجتهداً وصادقاً جداً، له بصمته الخاصة التي يغني بها والتي تميزه عن غيره، وعبد الفتاح سكر هو صاحب الفضل بأن يكون لبلان تميز خاص بالأغنية، ورغم أنني وفهد بلان كنا أصدقاء إلا أنني لم أرغب في الالتزام مع أحد، فأنا أحب أن أتنقل كالعصفور.

أمل عرفة؟
فنانة شاملة…ولو ما كانت ابنتي لكنت سبقت اسمها بكلمة أستاذة.

أولادك وأحفادك ماذا تقول لهم؟
لا أقول لهم، لأنني أرى بعيون فدوى وسمر وأمل وعادل وجه وعيون زوجتي رحمها لله.

لا تزعلي يا شام هذه الأغنية التي هي من ألحانك وغناها أبو صياح ماذا تعني لك؟
كلامها هزني جداً وأبكاني والشاعر سامر غزال أحضر لنا كلاما جديداً لأغنية الحارة كله عاطفة وحب، وهناك أغنية جديدة لأمل وأغنية عن أحداث حلب وطلع ببالي مذهب وأخبرت الشاعر سامر غزال عنه، والمطلع يقول «الله يحميكي يا حلب.. ويزيدك قوة يا حلب.. على أعاديكي إنتي الفدى.. وكل الفدى وأم الفدى.. والنصر على يلي اعتدى جاي غضب»، وسيغنيها أبو صياح على التحديد.
أنت آخر حارس للأغنية السورية…كلمة أخيرة لحراس الأغنية الحالية…
إنهم ليسوا حراساً بل هم أجراس الأغنية، لو كانوا حراساً لكانوا اقتدوا بالزمن الجميل وللأسف الشديد ليس لديهم أي أصالة في فنهم، فالفن يحترم والموسيقا هي من روح الله، وعلى الرغم من ذلك علينا التمسك بالأمل مادام هناك من هو مجتهد ولديه مسؤولية والتزام تجاه فنه وموسيقاه ستبقى الأغنية بخير.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن