قضايا وآراء

هندسة الأجيال

| رفعت البدوي 

القمة الأميركية السعودية الأولى التي جمعت الملك عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية والرئيس الأميركي فرينكلين روزفلت في العام 1945، أدت إلى إبرام اتفاق بين الطرفين تم التوقيع عليه باحتفال كبير على ظهر السفينة الحربية «كوينسي» الراسية فوق مياه البحيرات المرة.
هذا الاتفاق أرسى قواعد التفاهم الذي توصل إليه روزفلت والملك عبد العزيز، وأسس الاستقرار في الخليج العربي الغني بالنفط بعد أن كان الخليج منطقة مضطربة ولكنها حيوية، بيد أن مقايضة النفط بالأمن في الخليج نجحت على مدى أكثر من 70 سنة وعاشت معاهدة «كوينسي» كما سميت على الرغم من ضياع فلسطين واحتلالها من العدو الإسرائيلي وطرد أهلها إلى دول الجوار، ورغم نشوب أكثر من ثلاثة حروب عربية إسرائيلية وما رافق تلك الحروب من نكسات وانهزام للإنسان العربي ووهن في الموقف عند العرب لكن من دون أن تتأثر اتفاقية «كوينسي» على الرغم من استمرار النزاعات بين العرب والعدو الإسرائيلي المدعوم من أميركا.
صحيح أن حركات القومية العربية في المنطقة بقيادة الرئيس الراحل المصري جمال عبد الناصر والرئيس الراحل حافظ الأسد حاولت إعادة صياغة الموقف العربي المستقل المبني على أساس العمل العربي المشترك النابع من ضرورة التمسك بالهوية العربية والحفاظ على مصالح وثروات شعوب المنطقة العربية إضافة إلى وضع برنامج اقتصادي يعتمد على تنمية القدرات العلمية والاقتصادية الذاتية بالتزامن مع دعم حركات المقاومة الرديفة للجيوش العربية في مواجهة العدو الإسرائيلي، إلا أن مفاعيل اتفاقية «كوينسي» بين الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت شكلت على الدوام عاملاً سلبياً ولم تزل تقف عائقاً بوجه تحقيق وحدة الصف العربي ما شكل إحباطاً في روح الأجيال التي باتت مقتنعة أن لا سبيل لبلوغ ما يؤدي إلى تحقيق وحدة الموقف العربي.
أمام هذه الصورة يمكننا القول: إن عملية إعادة هندسة الأجيال قد نجحت في إقناع أجيالنا العربية بمفهوم استحالة توحيد الجهود العربية وإن مقاومة العدو الإسرائيلي بات ضرباً من المغامرة غير المحسوبة.
ولكن رغم محاولات غسل أدمغة الأجيال العربية واقتناع تلك الأجيال بعبثية التمسك بالهوية العربية والحفاظ على الثروات والدفاع عن الأوطان وتقديم فكرة القتال تحت راية الدفاع عن المذاهب بدلا من الدفاع عن الأوطان، أدى إلى تشرذم مفهوم الانتماء وضاعت البوصلة عن فلسطين ما أسهم في إراحة العدو الإسرائيلي وإبقائه بعيداً عن أي تهديد، على حين يزداد العدو الإسرائيلي صلفاً وظلماً وقهراً بحق الشعب الفلسطيني، وفي لعب الدور الرئيسي في ضرب وإضعاف الجيوش العربية خصوصاً المواجهة للعدو الإسرائيلي، إضافة لزعزعة الأمن والاستقرار الأمني والاقتصادي في بلادنا العربية عبر دعم وتدريب تنظيمات إرهابية، تأتمر بأوامر أميركية إسرائيلية، ممولة من دول خليجية نفطية، رافعة شعارات دينية ومذهبية متخذة من الدين الحنيف غطاء مزوراً بهدف تدمير وتخريب واستنزاف وتطويع كل الدول التي حافظت على الهوية العربية، رافضة الإملاءات الأميركية كما هو وضع وحال معظم الدول العربية.
إن ما شهده العالم في العاصمة السعودية الرياض من اجتماع أكثر من 55 دولة عربية وإسلامية مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي مارس في الاجتماع دور الإمبراطور، إضافة للبيان الذي صدر عقب الاجتماع الذي تجاهل أي ذكر لقضية فلسطين وللحق الفلسطيني ما اعتبر بمنزلة إصدار صك البراءة للعدو الإسرائيلي عن جرائمه واحتلاله لوطن عربي اسمه فلسطين، إضافة إلى اعتراف وتسليم عربي وإسلامي بدولة إسرائيل، كأمر واقع واجب التعامل والتطبيع معه ونسيان القضية الفلسطينية برمتها، وارتفاع الأصوات التي نادت بقيام تحالف عربي إسلامي إسرائيلي في مواجهة أي دولة أو حركة مقاومة، حتى إن البعض من العرب نجح في جعل السلطة الفلسطينية حارساً أميناً بخدمة تأمين الأمن للعدو الإسرائيلي وقمع كل محاولات الانتفاضة والمقاومة ضد الاحتلال في فلسطين المحتلة.
إن قمم الرياض هي امتداد لاتفاقية «كوينسي» 1945 بين الملك عبد العزيز وبين روزفلت مع فارق بسيط هو إعادة هندسة عقول أجيال 55 دولة عربية وإسلامية وإفهام تلك الأجيال أن الأميركي هو الضامن للأمن في بلاد الإسلام والعرب، إضافة إلى ضرورة دفع ثرواتنا الإسلامية كجزية لضمان الأمن في بلادنا الآتي من الخارج.
إن أنظمة خليجية ودول أخرى تسبح في فلكها، تسعى إلى هندسة الأجيال القادمة على أسس التخلي عن التنسيق العربي وطمس القضية الفلسطينية واستجلاب الأمن من الخارج الأميركي، بينما أثبت تاريخ الأمم أن ما من ضامن لأمن الوطن إلا جيش وأبناء الوطن، وأن الضامن الخارجي للأمن لا بد أن ينقلب على المضمون عند افتراق المصالح ونضوب النفط.
أما الأجيال العربية القادمة في كل من سورية واليمن والعراق وفلسطين ولبنان، فستشهد وتفتخر بما دوّنه التاريخ عبر صفحات المجد فيه أسماء جيل تمت هندسته على أسس التضحية حتى الاستشهاد دفاعاً عن الأرض والوطن والهوية والثروة العربية، جيل تربى على رفض الإذعان لأي إملاءات خارجية وعلى البقاء أميناً محافظاً على الوطن والعزة والكرامة والوحدة الوطنية، على الانتماء الحقيقي للهوية العربية، وعلى مقاومة أعداء الأمة مهما كانت التضحيات، وأن هذا الجيل سيبقى مؤهلاً لتوريث مفهوم هندسة الأجيال.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن