ثقافة وفن

الدخان الأبيض

| د.نبيل طعمة

سيظهر عاجلاً أم آجلاً، وسيكون الحل مهما حاول القابضون على حركة الزمن من المباعدة بين أبناء الأرض المعمدة بدماء عذرية أبنائها وقدسية ترابها، أو أبدية أسرارها الحاملة سرَّ شجاعة وجودها الذي أجمع عليه العالم، يجعلهم أكثر قوةً رغم الضربات المؤلمة وخذلان المحيط وعرقلتهم الدائمة للبر والبحر والجو مثلث الحياة روح الإنسان بحكم تلاعبات القوى المتعددة منعاً للالتقاء، ومن ثم الانتقال إلى الأمام، فهل المطلوب أن نبقى كذلك، وألا نقوم بفعل صارخ يزلزل هذا المحيط الذي كنا وحدنا جيراناً طيبين له مؤمنين فيه؟ وبسبب حفاظنا على حق الجوار طُعنّا بهذا الشكل، من يحتاج في هذه الحال للمساعدة، وهل نعود إلى الوراء بعد هذا التقدم، أم نذهب إلى الأمام؟
المؤسف أن عوالمنا العربية والإسلامية لا تمتلك موقداً ولا مدخنةً، يخرج منها دخان أبيض يشير إلى السلام أو إلى الأسوأ لمتابعة التخلف والاقتتال، هنا نسأل لماذا؟ ويكون الجواب لأننا لا نمتلك قرارنا، وإذا امتلكه البعض منا يكون مصيره القتال والانقضاض عليه، يسألني الكثيرون عن هذا التشاؤم أو التشاؤل، بحكم أنها معادلة التأخر والسكون، فأقول إنه الحال العربي الذي لم يستطع أن يلملم أشلاءه المتفرقة، أو أن تجتمع إلى مائدته من دون تبعية للآخر، أي آخر غير عربي.
تابعوا معي المشهد، الاتحاد الأوروبي قدر أن يجمع كله في اتحاد، والأوراسي فعل كذلك، والصيني والهندي، الخليجي فعلها للانقضاض على غيره من العرب والمسلمين، أما العالَم المسيحي فينتظر الدخان الأبيض من الفاتيكان، واليهودي يأتيه الأمر من اللوبي الصهيوني، والإيباك المسلم متردد إلى من يذهب، ومن سيعطيه ذاك الضوء الأبيض، كي يسير إليه بدلاً من الانتظار في المكان؟ الأمريكي الأوروبي الروسي الصيني المنقسم بين السوري والإيراني والسعودي والقطري والتركي، من دون الإلمام بأن الأولوية للاهتمام بالإنسان لا بمأكله ولا بمشربه ولا بملبسه، الأهمية للأرض التي يحيا عليها هذا الإنسان الذي تملكه وتمنحه حرية الحركة والكلمة والحياة بكل أشكالها، لأن مطالب الأنا تبقى بسيطة، والصعوبة في مطالب المشترك، وهذا الذي لم يصل إليه العقل العربي المفرّق بفضل تمسكه بثقافة الأنا.
القدير أسكن الإنسان الخير والشر، وأراده أن يستثمر في الخير، فهل فهم الإنسان وأدرك أن استثماره لخيره أفضل بكثير من تلاعبه مع الشر؟ لأن التدمير والإفناء والإزاحة تعني الدخان الأسود الذي لا يظهر إلا من القتل والحرق والإبادة، وبما أن الديانات ولدت في هذا الشرق العربي، إلا أنها لم تدرك مفاهيم وعمق ما وردها، ألا يجب علينا أن ندرك ماهية الاستثمار في الإنسان، وأنه من الأفضل أن نكون مؤمنين على أن نكون متدينين؟ لأن التدين إقصاء، ربما قَدَرُ العرب أن ينتظروا، لأن ثقافتهم قامت من فلسفة الانتظار، وبدلاً من أن يسارعوا لتصنيع موقد يسعفهم بدخانه الأبيض، ينتظرون قدوم المخلص الذي يُصَنَّع لهم، أين؟ لا أحد يدري، لكنه سيظهر، انتظروا فإننا معكم منتظرون، ولكن من ينتظرون؟ القيامة في الروحي التي لم يدركوا جوهرها حتى اللحظة، أم المخلص القادم، الذي غرست فكرته التاريخية من أجل بثِّ روح الأمل والإنصاف لقليلي الحظ، أو الذين أضاعوا الفرص، أو لأولئك المنتهكة حقوقهم في الحياة.
انظروا معي ماذا فعل الانتظار؟ انتظرنا فكانت سايكس بيكو التي نثرت دخانها، فكان التقسيم، انتظروا فظهر وعد بلفور وسلخت فلسطين، وتحت الانتداب الفرنسي سلخ الإسكندرون وسبتة ومليلة، وبعدها احتلالات لأراض عربية، من نتائج تقسيم سايكس بيكو وذاك الوعد المشؤوم والمسلسل مستمر مع المؤتمرات الجديدة والحروب التي أطلق عليها الربيع العربي، وانتظروا مئة عام فكان لافروف كيري، وهاهم الآن ينتظرون لافروف تيلرسون، وحتى اللحظة ينتظرون فلسطين أن تأتي إليهم، برأيكم هل ستأتي؟ وما داموا على هذه الحال ولم يفكروا ببناء موقدهم، فإنهم باقون على استنشاق دخانهم الأسود القادم من الدمار وجثث الأحياء والتخلف، لأن جهنم التي يوعدون أدركت أنهم وقودها القادم من الناس والحجارة، فنراهم وكأنهم يعملون لها.
قدر العرب الخوف من كل شيء، حتى من الله الذي تعلموا أن يخافوه، ولغتهم الشائعة من الله الخوف، يخطئون، فبدلاً من خوفهم من خطئهم يعزونه إلى الله، وينتظرون منه الحل، وأن يرسل لهم الدخان الأبيض، كيف بنا نقوم بكل ذلك من دون تفكر أو تأمل أو تحليل علمي وفلسفي لقضايانا، نرجم الشيطان بالحجارة وجسدناه في حجارة، وهو الساكن في زوايا جسدنا، ننتظر حل قضايانا الكبرى، ولم نتعلم حلَّ أبسط القضايا، مازلنا نبحث عن الفرح وننشده لأننا أمة لم تتعود صناعة الفرح، إنها تبحث عن البؤس الدائم، الأصدقاء لا يحتاجون البحث عن بعضهم لأنهم ينجدون بعضهم أينما كانوا، الأغبياء فقط يبحثون عن الأصدقاء الأقوياء ليخذلوهم لحظة الحاجة الماسة إليهم ولحظة حصول التأمل، نسأل لماذا حمى الكلي قايين قاتل أخيه هايين من صيادي الخطيئة، وأطلقه في الحياة تحت مظلته وتركه ينشر شره، طبعاً لا نريد أن نسكن اليأس في العقول، لكن الواقع يتحدث بما يجب أن نتحرك لأجله، وأن علينا أن ننظر إلى الجوانب المشرقة من الحياة كي لا تنتهي، من سيظهر لنا الدخان الأبيض من مجموعة الخمس الدائمة العضوية؟ ها نحن نقف ضمن الزوابع والعواصف بين البرد والنار والريح، لكننا من دون موقد يخصنا لا دفء ولا دخان أبيض.
ألا يحق لنا أن ندعو بعضنا إلى موقد خاص بنا، نلتئم حوله، يدفئنا ونتمتع بدخانه الأبيض الذي لا يؤذينا، بل يشير إلا أننا تجاوزنا الكثير من الخلاف والصراعات التي أظهرت سخف ما حدث ونتائجه التدميرية التي أصابتنا نحن فقط، فالكل يلهو ويمرح ويسرح ويرقص ويشوي وجوهنا وأجسادنا ومكوناتنا على مشهدنا الدامي.
تعالوا إلى أن ننجز موقداً نشوي عليه آلامنا، نقلبها على جمرنا، نتعلم معها لغة الخلاص مما نحن فيه، وهنا نناقش المثل القائل: «ما حك جلدك مثل ظفرك» الذي لا يخدشنا ولا يجرحنا، لكن لا يمكننا أن نصل إلى كامل جسدنا، نطلب المساعدة فيهبُّ أحد ما صادق لمساعدتنا والمكون الكلي العلي القدير، أراد ألا تصل أيادينا لكامل ظهرنا، وهذه حكمة التعاون والتعاضد واللقاء، ولو أنه فعلها وأضاف قليلاً من الإطالة لأناملنا لما كان التعاون، هي إرادة الصانع فيما صنع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن