ثقافة وفن

على حساب الورثة!

| إسماعيل مروة

عبارة سمعتها مؤخراً من أصدقاء كنا نجلس معاً، فبادر أحدهم بالقول: تفضلوا على حساب الورثة، وعرفت أن هذا الصديق الطريف يجيد الحياة، ويختار السعادة بحياته، ولا يدخر وسعاً في البحث عن لحظة السعادة، ويردفها بعبارته الخاصة التي تأتي ترجمة لطيفة لنبذ البخل على الذات والآخر، وكثير منا، وربما أكون منهم يحرصون على التوفير والاكتناز، سواء كان المبلغ المكتنز كبيراً أو صغيراً، وبعد هذا الحرص يغادر تاركاً ماله للورثة، هؤلاء الورثة الذين قد يجيدون التثمير والزيادة في الذي جاءهم من الراحل، وقد لا يجيدون فتضيع الأموال بطرائق غير مفيدة وغير مجدية، وربما تحول بعضهم إلى معوز، وربما إلى متسول!
فكم من سارق ومستغل ولص، عمل حياته، وأخذ من كل حدب وصوب، ولم يترك جيباً إلا وسرق منه، ولكنه لا يجيد الحياة، ولو أجادها لما أخذ من الآخر وقنع بما لديه، ولكنه لم يفعل، وها هو يرحل عن الدنيا تاركاً كل ما سرقه واستغل، وعمل على لصوصيته من الآخر بين يدي ورثته.
منذ مدة أرسل لي أحد الأصدقاء غير الزاهدين رسائل عدة مستخلصة من النت، واحدة بقبور أغنى الأغنياء العرب، وقد لفته عباءة مهترئة، ومعها عبارات غادر الدنيا ولم يأخذ شيئاً.
وأخرى تفضح لصوصاً وفاسدين أخذوا المليارات، وفيها من العظات ما فيها، وفيها تجريد لهؤلاء اللصوص، وعبارات مستخلصة من القضية!
هذه الحكايا فيها ما فيها من الحكمة، لكن من يتداولها يفعل ذلك، ويحيا حياة أخرى، يريدك أن تكون زاهداً وهو غير ذلك، ويريدك كريماً وهو غير كريم، ويريدك نزيهاً وهو قمة من قمم الفساد، وإن كان فساداً فردياً غير مشتهر بين الناس.
ليس الكرم أن تعيش على هواك، وتمنح الآخرين وتترك أسرتك في عوز وفاقه، ولست حكيماً إن عشت وتركت أولادك بلا مأوى، هذا إن تهيأ لك أن تحقق لهم استقراراً من أي نوع كان.
ولست كريماً ولا مشكوراً إن كنت مستغلاً وسارقاً وفاسداً لتفرش الموائد وتمارس عنجهيتك، مرة سمعت من أحد الظرفاء المتدينين، أنه يضع أمواله بالفائدة، ولا أعترض على وضعها، لكن الطريف المذكور يقول: كل ما يأتيني من الفوائد أعزله لجلساتي وأقراني، ولا أدخله في صلب رأسمالي، هكذا يكون التقى إن اتفقنا على هذه الرؤية والسياسة.
وآخر يعمل من مطلع الفجر إلى منتصف الليل، وثيابه هي هي، وطعامه بخل، وشرابه تقتير، وحديثه تذمر وشكوى، وحين يرتحل يترك الأملاك لأولاد وأصهار، فعاش فقيراً، ومات غنياً، وربما انشغل الورثة بالمال فنسوا الترحم على من جمعها لهم، وربما سخروا منه، ووصفوه بأنه شخص لا يجيد الحياة ولا يعرفها.
عبارة بسيطة وضاحكة التي سمعتها من الصديق، ولكنها تؤكد إحساسه أن الورثة ينتظرون رحيل المورث، وبأنهم لا يريدونه أن يهدر ما يجمعه لهم، وكم من واحد رأى ورثته ألا يؤلموه بعلاج مكلف قبل الرحيل، وتحت حجة الألم والرحمة به يدفعونه إلى موت لا رحمة فيه.
يعيش العاقل حياته كما يشتهي، ويستمتع بتعبه وما حصل في حياته، ولا يترك سبباً من أسباب السعادة، وفي الوقت نفسه يحترم جانبين، الجانب الأول ذكره وسمعته فلا يمارس لصوصيته، والجانب الثاني الورثة، فلا يترك لهم إلا ذكراً حسناً وما يفيض عن السعادة، وليس من حق الوارث أن يحرمك، فلا تجعله رقيباً على حياتك.
عش واستمتع فالحياة تستحق أن نحياها
جئنا إلى الحياة لنمارس حياة لا لنجمع ثروات..
كم من ثروة جمعت، وصارت هباء أمام عيني صاحبها؟
وكم من أبنية شيدت وانهارت أمام عيني مهندسها؟
لم تنتظر حتى تصل إلى الورثة
وكم من مسرف غير حكيم حرم نفسه قبل أن يحرم الورثة؟
المعادلة طريفة، لكنها معقدة، وليس الفرد من يدفع ضريبتها، بل الفرد والمجتمع الصغير، والمجتمع الواسع، والوطن برمته، إلا إذا لم نكن ممن يرى أن المجتمع اجتماع أفراد، وأن أبشع ما جرى ويجري ينبع من الاكتناز للتوريث لا للحياة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن