قضايا وآراء

شرق أوسط جديد من جديد

| عبد المنعم علي عيسى

إذا أردنا أن نفهم ما يجري في الشرق والشمال السوريين منذ نحو الشهرين أو يزيد، فلابد لنا من استحضار مناخات شهري أيلول وتشرين الأول المنصرمين عندما قام طيران التحالف الأميركي بقصف عشرات الجسور التي تربط مدينة دير الزور بمحيطها، كان ذلك الفعل إشارة أميركية لم تخطئ داعش في قراءتها ولربما كانت هذه الأخيرة تتفوق في قراءتها للأحداث وتداعياتها على الكثير من دول المنطقة، والإشارة هي أقرب لأن تكون أمراً أميركياً إيمائياً أرادت واشنطن من خلاله أن تقول لداعش: إن الاتجاهات الثلاثة هي اتجاهات محرمة على حين إن الاتجاه للغرب، أي باتجاه البادية السورية، هو الاتجاه الوحيد المسموح، وتجاوباً مع تلك الإيماءة نفذ داعش هجومه على تدمر في محاولة للسيطرة عليها للمرة الثانية في كانون الأول 2016 قبل أن يستطيع الجيش السوري دحره منها للمرة الثانية في آذار 2017.
المشهد الحاصل في الشرق السوري امتدادا باتجاه البادية شديد الارتباط بالأحداث المار ذكرها، فمن الواضح أن واشنطن ستدفع بكل ما تستطيع لكي لا يتلاقى الجيش السوري مع الجيش العراقي وحليفه «الحشد الشعبي» في منطقة التنف البالغة الحساسية في هذه الآونة انطلاقاً من احتدام الصراع حولها، على حين إن حلفاءها المرابطين فيها هم من أهم الحلفاء الذين تعتمد عليهم وعلى رأسهم ميليشيا «مغاوير الثورة» التي تأسست في تشرين الثاني 2015 من مجموعة من المنشقين عن الجيش السوري جمعتهم CIA ومن ثم قدمت إليهم المزيد من الدعم حتى بات المقدم المنشق مهند الطلاع القائد الحالي لتلك القوات، هو رجل أميركا في الشرق السوري.
بدأت منذ أسابيع تسري أنباء متعددة المصادر وهي تشير إلى زيادة الدعم الأميركي للعديد من الميليشيات المسلحة العاملة في الشرق مثل «أسود الشرقية» و«قوات أحمد العبدو» في محاولة لتوسيع حزام الأمان المحيط بـ«مغاوير الثورة» التي تسيطر على معبر التنف، وما سبق كان قد مكن الفصيلين السابقي الذكر من إطلاق معركة «بركان البادية» 23 أيار المنصرم، ومن ثم إطلاق معركة «الأرض لنا» فجر 31 أيار الماضي، التي قيل إنها تهدف إلى شق الطريق البادئ من البادية السورية وصولاً إلى دير الزور وامتداداً نحو الحدود السورية العراقية.
ما تريده واشنطن هو إجراء عملية تبادل في المواقع بين داعش وميليشيا «جيش سورية الجديد» وفي هذا السياق سيتم توجيه الأولى، أي داعش، نحو تدمر كمحطة رئيسية بعد خسارة كل من الموصل والرقة، وفي الآن ذاته ستعمل على إتمام سيطرة الأخير أي «جيش سورية الجديد»، على الجغرافيا التي سيخليها داعش وخصوصاً منها دير الزور امتداداً إلى التنف.
تهدف العملية السابقة الذكر إلى إعفاء واشنطن من الحرج الذي تلقاه راهناً والناجم عن اعتمادها لداعش كسد بري كفيل بقطع سكة القطار المنطلق من طهران تجاه الجنوب اللبناني في منتصفها، فالدعم الأميركي لداعش، على الرغم من أن واشنطن لا تريد هزيمتها أو إضعافها أقله الآن، لا يمكن الاستمرار فيه طويلاً وخصوصاً إذا ما تنامى التوافق الأميركي الروسي وصولاً إلى إنتاج تسوية سياسية للأزمة السورية، على حين إن دعمها لتلك الفصائل لا يضعها في مناخات الحالة السابقة، ثم إن وجود حليف ميداني من الممكن إعلانه على الملأ ودعمه بشكل مطلق، من شأنه أن يشكل رقماً ثابتاً في معادلات السيطرة الميدانية التي يمكن أن تحضر على طاولة المفاوضات، وبمعنى آخر من شأنه أن «يثقل» الوزن الأميركي الذي خف كما يبدو في الآونة الأخيرة حتى بنظر واشنطن نفسها، الأمر الذي يفسر غياب الدور الأميركي عن «جنيف 5» و«جنيف 6» والراجح هو أن واشنطن لن تعود إلى مسلسل جنيف حتى ولو وصلت حلقاته إلى العشرين إلا بعيد تغيير التوازنات القائمة على الارض، أما إرسال داعش إلى البادية فذاك يمكن اعتباره نقطة تلاقي في المصالح الأميركية والداعشية فهو أميركياً، يشكل حالة وسط بين الاستراتيجية القديمة المعتمدة من التنظيم التي تقوم على إتمام عمليات السيطرة على الجغرافيا ومن ثم التمكين فيها والدفاع عنها، وتلك «الإستراتيجيا» هي التي ظهرت ملامحها بوضوح ما بعد السيطرة على الموصل العراقية في حزيران 2014 وعلى الرقة السورية في آب 2014، والإستراتيجية الجديدة التي يمكن القول إنها اعتمدت من التنظيم وهي التي تقول بالنزول إلى الأنفاق تحت الأرض بعد الانهيارات التي أصابت مواقع السيطرة حتى الباقي منها (الرقة)، فهي تعتبر ساقطة عسكرياً ولربما كانت تلك الانهيارات قد دفعت بالتنظيم إلى قيامه بمحاولات إيجاد بدائل جغرافية يمكن أن يلجأ إليها، وهو ما ظهر في تشرين الثاني 2015 عندما أعلن التنظيم عن إقامة إمارة سرت على الأراضي الليبية، إلا أن تلك البدائل وعلى الرغم من بعدها أو هامشيتها لم تسلم من القصف الجوي الذي تكثف مؤخراً بدخول سلاح الجو المصري على الخط بدءاً من أوائل أيار المنصرم بالتزامن مع إعلان القاهرة، لأن العمق الإستراتيجي الذي تستمد منه أحداث سيناء قوتها إنما يعود إلى تلك الواحات التي تمتلئ بها الجغرافيا الليبية، ناهيك عن أن خلو الجغرافيا الجديدة من المدن المكتظة بالسكان هو أمر لا يثير ضجة إعلامية أو يراكم احتقانات من شأنها أن تكون ضاغطة على الشارعين الأميركي والأوروبي.
ولذا فإن الحراك العسكري الذي يشهده الشرق السوري حالياً على الرغم من حجمه الكبير، فإنه يعتبر محاولة لتمرير الوقت ريثما تصبح أفكار إعلان الرياض الصادر في 22 أيار الماضي، واقعاً على الأرض، فقد احتوى هذا الأخير على بند يلتزم الموقعون عليه من خلاله بتشكيل قوة عسكرية قوامها 37 ألف جندي لمقاتلة داعش، ومن المقدر لتلك القوة أن تكون جاهزة في العام 2018، وعليه فإن مهمة «مغاوير الثورة»، ومعها «أسود الشرقية» و«قوات أحمد العبدو» على الرغم من التباين الواضح بين الأولى من جهة والثانية والثالثة من جهة أخرى، إلا أن «اللاصق» الأميركي كان كفيلاً لاجتماع تلك الميليشيات تحت راية واحدة مهمتها تثبيت خرائط السيطرة في الشرق السوري، على الرغم من أن ذلك الرهان يبدو خاسراً مهما وصلت قنوات الدعم الأميركية فقوام تلك الميليشيا لا يزيد على 2500 مقاتل ، منهم 300 عنصر لـ«مغاوير الثورة» والباقي مناصفة بين «أسود الشرقية» و«قوات أحمد العبدو»، وهي عملياً لن تكون قادرة على تحمل هجومين في آن واحد إذا ما قام بهما الحشد الشعبي من الشرق والجيش السوري من الغرب، الأمر الذي يضعها بين فكي كماشة من الصعب الخلاص منها.
على الرغم مما ينتاب هذه النظرية الأميركية، المار ذكرها، من متاعب تجعل منها أمراً هو أقرب إلى التمني منه إلى الواقع، إلا أنها تبدو خياراً أميركياً لا بديل منه في هذه الآونة الأخيرة، وفي المعوقات يمكن تعداد الكثير منها وأبرزها صعوبة المشاركة المصرية في تلك القوة على الرغم مما يشاع بأن الأمر هو قيد الدراسة وعلى الرغم أيضاً من أنها مطلب أميركي ملح، إلا أن القاهرة تبدو أسيرة أمرين في هذا المجال أولهما: حالة المزاج الشعبي المصري الرافض لسيناريوهات كهذه، وهذه الحالة هي التي شكلت مانعاً كبيراً أمام قرار مصري مفترض كان يقضي بالمشاركة في تشكيل قوة سبق أن أعلنت عنها الرياض تحت اسم التحالف الإسلامي لمحاربة داعش في كانون الأول 2015 ولربما كانت هذه الحالة الأخيرة نقطة فراق كبرى بين الرياض والقاهرة، وثانيهما: التصعيد الأمني الحاصل في سيناء وفي محيطها ومن المقدر لهذا الأمر أن يتصاعد بدرجة تتناسب مع التصعيد الحاصل بين قطر ودول الخليج في أعقاب البيان القطري الشهير المنسوب إلى تميم بن حمد في 24 أيار الماضي، ولذا فإن الإلحاح الأميركي لتطبيق هذا السيناريو الافتراضي من الصعب أن يصبح واقعاً ميدانياً ولو تدخلت واشنطن بشكل مباشر على نحو ما فعلته يوم 18 أيار الماضي عندما قام سلاح الجو الأميركي باستهداف قافلة للجيش السوري بالقرب من معبر التنف، إلا أن ما يجري على الأرض يمثل النقيض لهذا السيناريو، وكذا للآمال الأميركية، ففي 29 أيار الماضي أعلنت قوات الحشد الشعبي العراقي عن وصولها إلى الحدود السورية العراقية من الجهة الشرقية لها، وهو ما يشكل عملياً تهديداً كبيراً للبلدان الداعمة لداعش ولمخططاتها في الآن ذاته انطلاقاً من أن ذلك الوصول سيؤدي تلقائياً إلى إلغاء جميع الطرق الرئيسية التي تستخدم عادة لإيصال الدعم إلى داعش.
لربما يبدو مهماً هنا الإشارة إلى العديد من التصريحات التي يطلقها قادة كبار في الحشد الشعبي العراقي، والتي تهدد بتجاوز الحدود باتجاه الداخل السوري، وتلك تصريحات خطرة إذا ما كانت تتعدى الحالة المعنوية والعمل على رفعها داخل تلك القوات، فأمر من هذا النوع من المؤكد أنه سيكون خطأ استراتيجياً فادحاً وسلبياته تفوق بأضعاف الإيجابيات التي يمكن أن تنجم عنه، ولربما أبرزها هو أن عبوراً من هذا النوع سيشكل ذريعة كبرى لتركية للإعلان عن «درع الفرات 2» بحجة أن الأحداث باتت تأخذ طابعاً طائفياً، بل من الممكن أيضاً أن يؤدي ذلك الأمر إلى تلاقي المصالح الأميركية التركية في سورية من جديد بعيد افتراقها منذ زمن غير قصير.
اليوم تكاد سمة المرحلة الراهنة تتجلى بغياب الميليشيات المسلحة الكبرى التي شغلت الإعلام والأضواء مثل جبهة النصرة و«جيش الإسلام» أو «حركة أحرار الشام» لتحل محلها فصائل أخرى باتت نجوميتها ساطعة في مؤشر له العديد من الدلالات، وهو يمثل تحولاً كبيراً في طبيعة وأهداف الصراع القائم في سورية منذ ما يزيد على ست سنوات، ومن الجائز أن نخلص إلى نتيجة مهمة هي أن التطورات الحاصلة في دير الزور ومحيطها والمآلات التي يمكن أن تصل إليها، ستحدد مصير الشرق السوري برمته، بل ستحدد معه الثقل والمشروع الأميركي في المنطقة الذي عاد في الآونة الأخيرة إلى نغمته القديمة التي سبق أن أطلقتها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندليزا رايس في تموز من العام 2006 التي جاءت في أعقاب القصف الهيروشيمي الإسرائيلي للجنوب وللضاحية اللبنانيين وفيها أعلنت رايس عن أن ما يجري لا يعدو أن يكون آلام مخاض كبير إلا أنها لازمة لولادة شرق أوسط جديد، في مؤشر على وجود رؤية أميركية مفادها أن التغييرات الحاصلة في المنطقة لا بد لها من أن تعبر عن نفسها بكينونة سياسية محددة تكون قادرة على الأخذ بأيدي الوليد الجديد الذي مات على الأرجح في رحم أمه العام 2006 عنما عجزت القابلة الإسرائيلية عن إنقاذه في العملية القيصرية التي استمرت ثلاثة وثلاثين يوماً متواصلة.
الإعلان الأميركي عن عودة المشروع من جديد، كان قد جاء هذه المرة على لسان سفير الإمارات العربية المتحدة في واشنطن يوسف العتيبة الذي قال في أعقاب اندلاع الأزمة الخليجية القطرية: «ما نقاتل لأجله هو أن تكون الإمارات هي الوعد بشرق أوسط جديد».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن