قضايا وآراء

بداية تفكك تحالفات المؤسسة السياسية الغربية

| قحطان السيوفي 

المشهد العام للتحالفات الغربية في ظل سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه أوروبا، يشير وكأنه تعهد بتفكيك الركائز السياسية الخاصة بنظام التحالف الغربي، فعلى مدى أكثر من ستة عقود، كانت الولايات المتحدة الأميركية الضامنة، والمشجعة للتكامل الأوروبي، وترامب يُريد قلب السياسة رأسا على عقب ويرى في خروج بريطانيا بداية انهيار المشروع الأوروبي.
في مقال نشرته في «الوطن»، بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض تساءلت فيه: هل يُبشر فوز ترامب بخسارة أوروبا لحارسها؟
مهما كان مسار السياسة الأميركية في عهد ترامب، فإن ثمة ضرراً كبيراً لحق بمؤسسة تحالف الأمم الغربي الذي ظهر منذ عام 1945 ويتعذر إصلاحه، عملياً النظام العالمي الذي صممته الولايات المتحدة كان آخذا في التفكك منذ فترة وقد عملت تداعيات الأزمة المالية عام 2008، وخيبة الأمل في التجارة الحرة على عدم توافق الآراء حول الاقتصاد الليبرالي، وترامب مقتنع بترؤس سلطة تعمل على حل نظام التحالفات الأميركي، تاركا أوروبا العجوز ضعيفة عرضة لأخطار متعددة، ويبدو أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل هي آخر قائد يحاول الصمود في أوروبا، وقد عبرت عن الألم لأن ألمانيا تعتبر نفسها الوصية على النظام الدولي ما بعد الحرب، الذي يزدريه ترامب بشدة بعد ترؤسه لمؤتمر الرياض الذي حضره ملوك ورؤساء دول ومشيخات، ونجح ترامب ببيع المزيد من السلاح، وجباية تكاليف حماية الممالك والمشيخات وقد رجع مفتوناً بالهدايا الذهبية التي قدمها له آل سعود ليحط به الرحال في أوروبا في زيارته الأولى التي كان أداؤه فيها هجومياً وآثاره متفجرة.
في خطابه أمام حلف الناتو، أرسل ترامب رسالة واضحة تفيد بأن التزام أميركا للدفاع عن أوروبا لا يمكن اعتباره بعد الآن أمرا مفروغا منه، وبعدها حضر قمة مجموعة الدول الصناعية السبع الأخيرة، وكان كعادته عدوانياً؛ ووصف ألمانيا بأنها «سيئة، سيئة جدا» بحجة أن برلين تحقق فائضاً تجارياً على حساب واشنطن، وردت ميركل على ترامب بحدة، وبدت كأنها تعلن عن موت التحالف الغربي، مُحذرة بقولها: «الأوقات التي نعتمد فيها بشكل كبير على الآخرين انتهت إلى حد ما، نحن الأوروبيين يجب أن نأخذ فعلا مصيرنا بأيدينا، وبالطبع نحن بحاجة إلى علاقات ودية مع الولايات المتحدة ومع المملكة المتحدة ومع البلدان المجاورة الأخرى، بما في ذلك روسيا، لكن علينا القتال من أجل مستقبلنا بأنفسنا».
رئيس «مجلس العلاقات الخارجية» في الولايات المتحدة ريتشارد هاس، كتب تغريدة يقول فيها: «حين تقول ميركل إن أوروبا لا تستطيع الاعتماد على الآخرين وبحاجة إلى التعامل مع المشاكل بنفسها، فهذه بمنزلة لحظة فاصلة، وهو أمر كانت الولايات المتحدة تسعى إلى تجنبه منذ الحرب العالمية الثانية»، ولاشك أن ميركل هددت بتوسيع الصدع الخطير في تحالف المحيط الأطلسي وتحويله إلى خرق دائم، متحدثة فقط عن أمر بدهي حين تشير إلى أن ألمانيا لا يمكن أن تعتمد بعد الآن على حلفائها الأميركيين والبريطانيين، ولعل أهم المؤشرات في خطاب ميركل؛ السماح لأربعة أشهر من رئاسة ترامب بأن تثير الشك في التحالف عبر المحيط الأطلسي الذي استمر 70 عاماً، واستغل ترامب تقصير معظم البلدان الأوروبية في الوفاء بتعهداتها المالية لحلف الناتو، ليؤكد عدم استدامة وضع تمثل فيه الولايات المتحدة ما يقارب 75 بالمئة من الإنفاق على الدفاع في حلف الناتو.
لقد عقدت ميركل الخطأ الذي اقترفه ترامب، كما ذكرت «الفاينانشال تايمز» في 31 أيار الماضي، وهذا يمكن اعتباره تمهيدا لبداية تفكيك التحالف الغربي، ومع ذلك، إذا استمرت حكومة ميركل في مفاوضات «خروج بريطانيا» بروح المواجهة والمطالبة بأن تلتزم بريطانيا بمدفوعات مقدمة هائلة، فإنها تخاطر بإيجاد خصومة دائمة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي ويمكن أن تثير تساؤلات حول التزام بريطانيا تجاه حلف الناتو، ولاسيما أن الولايات المتحدة في حالة تراجع أيضاً عن التحالف الغربي ويبدو كأن ميركل أظهرت، صمما غير معهود نحو أصداء التاريخ، وأحد الأمور المثيرة للإعجاب فعلا عن ألمانيا الحديثة، أن هناك زعيما يمكن أن يقف ويعلن الانفصال عن بريطانيا والولايات المتحدة.
لقد أظهر الرئيس الأميركي مرارا وتكرارا عدم اهتمامه بالقيم الغربية الأساسية، من حرية الصحافة إلى منع التعذيب ودعم الديمقراطيات في جميع أنحاء العالم، وهذا ما أثار المستشارة الألمانية، التي يشير الواقع إلى أنه ليس لديها اهتمام يذكر للقتال من أجل إنقاذ التحالف الغربي.
إن الاتحاد الأوروبي اليوم بين مطرقة سياسة ترامب غير الإيجابية، والأخطار العديدة التي تهدد الاتحاد الأوروبي، كالشعبوية، والإرهاب الذي ساهم بعض أوروبا في صناعته، ونجاح إيمانويل ماكرون في انتخابات الرئاسة الفرنسية قد يكون ارتدادا معاكساً لخروج بريطانيا وفوز ترامب.
ميركل متشائمة، هناك قضية اللاجئين والإرهاب من جهة، ومتاعب ومشكلات تحيط بها، فإلى الشرق حكومتان خائفتان من ألمانيا، بولندا وهنغاريا، وفي الشرق الأبعد روسيا، وغرباً أميركا ترامب، وإلى الشمال بريطانيا، وإلى الجنوب إيطاليا واليونان اللتان تحملان ألمانيا مسؤولية المتاعب الاقتصادية التي تعانيانها.
ترامب يعبر علنا عن احتقاره لميركل في ظل مشهد الاتحاد الأوروبي هذا، ويمكن أن يبادر إلى الدخول في علاقة اقتصادية مع الصين، والشك والتشاؤم اللذين يحيطان باتفاقية الشراكة التجارية والاستثمار عبر المحيط الأطلسي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، سيفتحان المجال لتحالفات اقتصادية جديدة.
ميركل أكدت أننا «نعيش أوقاتاً تسود فيها حال عدم اليقين في العالم، ونرى أن علينا مسؤولية في توسيع شراكتنا في مختلف المجالات ودعم نظام عالمي قائم على القانون، الصين أصبحت شريكاً إستراتيجياً، بالمقابل روسيا ستستمر حذرة بتقوبة علاقاتها واستعادة نفوذها في دول أوروبا الشرقية والوسطى هل يريد الرئيس ترامب تدمير الاتحاد الأوروبي»؟
ترامب الذي خرج من حملته الانتخابية شعبوياً مُشتت الخيارات، ليس لديه حس تاريخي تجاه الحلفاء، والإشارات التي أرسلها تمثل تهديدات تتطلب أن تأخذها أوروبا بعين الاعتبار ولاشك أن مفاجأة وصول ترامب للسلطة، تعرض حلفاء أميركا في الاتحاد الأوروبي، كما قال وزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كيسينجر: «لإحساس مرير بانعدام الثقة واليقين في مستقبل التحالفات عبر الأطلسي بين أوروبا والولايات المتحدة» وهو ما يعتبر مؤشر ضعف للاتحاد الأوروبي.
إننا نرى مع الكثير من المحللين في أوروبا والعالم، أن الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال شارل ديغول كان محقا بقوله: «لا يمكن الوثوق بالأميركيين، ويجب على أوروبا تشكيل مصيرها بنفسها»، وهذا ما تؤكده سياسة ترامب تجاه أوروبا التي تشير إلى أن واشنطن بصدد خسارة حلفائها الأوروبيين وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى إنهاء مفهوم الغرب السياسي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن