سورية

الصراع القطري السعودي من بندر حتى ابن سلمان: تضخيم القاعدة

| عبد الله علي

تكرس التجربة السورية قاعدةً شبه عامة مفادها، أن أي اتفاق أو اختلاف بين الدول الداعمة إنّما يصب في مصلحة التنظيمات الأكثر تطرفاً الوارثة للتنظيمات المسلحة الأخرى التي انتهى دورها وفق معادلة العلاقات بين الدول الداعمة ومقتضيات تحولها إلى صيغة علاقات جديدة تتناسب مع الظروف الإقليمية والدولية المستجدة.
هكذا كان الأمر مع تنظيم داعش على مدار الأعوام الماضية، وها هو يتكرر حالياً مع تنظيم «القاعدة» ممثلاً بـ«هيئة تحرير الشام» التي تهيمن عليها جبهة النصرة سابقاً بقيادة أبي محمد الجولاني، ولاسيما على ضوء الزلزال الخليجي الذي ضرب بين السعودية وقطر باعتبارهما من أبرز الدول الداعمة للمسلحين في سورية.
إذ من الواضح جراء الأحداث التي تشهدها محافظة إدلب أن «القاعدة» ستكون كالعادة هي المستفيد الأكبر من خلافات هذه الدول كما كانت في السابق المستفيد الأكبر جراء التقارب والتوافق بينها.
وخلافاً للصورة التي انتشرت خلال الأيام الماضية عن الأحداث التي جرت في مدينة معرة النعمان، جنوب إدلب، واعتبر الكثيرون أنها تشكل انعكاساً مباشراً لتدهور العلاقة بين السعودية وقطر، فإن تفسير انقضاض «هيئة تحرير الشام» على بعض الفصائل في هذا التوقيت، لم يجد له مسوغاً منطقياً، ووقعت بعض التقارير في صعوبة قراءة ما يجري على حقيقته، وخصوصاً عندما تم التركيز على أن الصراع هو بين «فيلق الشام» وجبهة النصرة.
يتبدى التناقض بجلاء إذا علمنا أن كلاًّ من «فيلق الشام» و«هيئة تحرير الشام» مدعومان من قطر بالذات، فكيف يعقل أن ينعكس الخلاف السعودي القطري على العلاقة بين فصيلين مدعومين قطرياً، إذ يفترض مقتضى الحال أن تعمل قطر على تقوية أدواتها وتمتين التحالف بين الفصائل المدعومة منها، مقابل السعي إلى ضرب أدوات السعودية وتشتيتها وشرذمتها، وليس العكس.
يذكّر الخلاف الحالي بين السعودية وقطر، بخلاف سابق بينهما منتصف عام 2013 وأدى في حينه، إلى إحداث تغييرات كبيرة في مشهد الفصائل المسلحة وعلاقاتها وتحالفاتها، إذ بعد نحو عامين من التنسيق والتعاون بين البلدين بهدف إسقاط نظام الحكم في سورية، في إطار ما يسمى «الربيع العربي»، وجدت السعودية أن الجهود القطرية والتركية في دعم الفصائل المسلحة، تسير وفق أجندة لا تناسب مصالح الرياض في المنطقة، فكان الانفجار الذي عبر عنه رئيس الاستخبارات السعودية بندر بن سلطان في أحد الاجتماعات المشتركة حول تنسيق شحنات السلاح صيف عام 2013، حيث صرخ قائلاً: «إن قطر ليست سوى 300 شخص وقناة تلفزيونية، وهذا لا يشكل بلداً».
مثل هذا التصريح الذي تسربت أنباؤه إلى الصحافة آنذاك، رأس جبل الجليد الذي كان قد بدأ يتشكل بين قطر والسعودية على خلفية تضارب مصالحهما، ولم يكن من قبيل المصادفة أن تعمل جبهة النصرة و«أحرار الشام» على إنهاء فصائل «الجيش الحر» على معبر باب الهوى في نهاية عام 2013 وما نتج عنه من فرار اللواء سليم إدريس وخسارة جميع مقاره ومستودعات أسلحته.
والسر وراء هذا التحول السعودي في تلك الفترة كان يكمن في مخاوف السعودية من صمود الدولة السورية وفشل جميع مخططات إسقاطها على مدار الأعوام 2011 و2013 وخصوصاً أن الرياض بدأت تستشعر خطورة الوحش الذي شاركت مع قطر وبعض الدول الأخرى في تربيته وتغذيته، وتولدت لديها مخاوف حقيقية من تكرار تجربة أفغانستان عندما انقلب تنظيم «القاعدة» عليها بعد فترة طويلة من العسل بينهما، ولاسيما أنها رأت بأم عينيها أن سياسات رئيس استخباراتها بندر بن سلطان في سورية ساهمت بشكل مباشر وغير مباشر في تقوية أبناء القاعدة من جبهة النصرة وتنظيم داعش، فلم يطل الوقت قبل عزل بندر بن سلطان من منصبه في نيسان من عام 2014 بالتزامن مع صدور قرارات ملكية سعودية تصنف كلاً من «النصرة» وداعش و«الاخوان المسلمين» على قائمة الإرهاب الخاصة بالمملكة.
لكن عزل بندر لم يحدث قبل أن تأكدت القيادة السعودية أن جميع جهوده صبت في نهاية المطاف في تقوية جبهة النصرة وداعش على حساب الميليشيات التي حاولت الرياض دعمها في الشهر الأخيرة من ولاية بندر مثل «كتائب الفاروق» و«أحفاد الرسول» على سبيل المثال، وتبين أن جميع الفصائل التي اختارتها المملكة بالتعاون والتنسيق مع استخبارات دولية مثل المخابرات الفرنسية، كان تحتضن بذرة «التطرف بنسخته القطرية» في داخلها، وهو ما أدى إلى انتشار ظاهرتين في تلك الفترة كان لهما دور في تحديد مسار الأحداث هما: مسارعة الفصائل المدعومة من الرياض والغرب إلى مبايعة تنظيم داعش الذي كان قد أخذ يفرض نفسه بقوة منذ مطلع العام 2014، والثاني هو عجز أي فصيل آخر عن الوقوف بوجه داعش ومنعه التمدد أكثر.
وازدادت مخاوف الرياض مع انتباهها إلى أن الدوحة وأنقرة لا تشاركانها المخاوف والهموم نفسها، فهي كانت تعتقد أن الرهان على التنظيمات المتطرفة قد أخفق وينبغي إغلاق هذا الملف عبر إعادة تدوير الفصائل المغضوب عليها دولياً وتشكيلها من جديد تحت مسميات مختلفة من أجل أن تستمر في قتال الجيش السوري.
من أبرز التناقضات التي برزت بين السعودية ومحور قطر تركيا عام 2014، هو الموقف من ملف محافظة دير الزور الذي يشكل حالياً جوهر الصراع السوري بامتداداته الإقليمية والدولية، حيث كانت الرياض راغبة في إبقاء جبهة النصرة في دير الزور لمحاربة تنظيم داعش وضمان السيطرة على المحافظة ذات الأهمية الإستراتيجية، وفي هذا السياق كانت شهادة أحد الأمراء السعوديين في جبهة النصرة وهو سلطان العطوي من أن «الرياض دعمت النصرة بمليون دولار من أجل محاربة داعش في دير الزور»، والعطوي هو ذو صلات مشبوهة مع الاستخبارات السعودية حيث كان قبل مجيئه إلى سورية عضواً فاعلاً في «هيئة الأمر بالمعروف» في منطقة تبوك وكان مقرباً من الأمير فهد بن سلطان بن عبد العزيز كما كان عضواً في النادي الأدبي للمنطقة نفسها.
لكن خطة قطر وتركيا كانت مختلفة، حيث وجد البلدان أنه لا فائدة من استنزاف جبهة النصرة، وهي كانت من أقوى الفصائل المسلحة في سورية، بمعارك دير الزور مع تنظيم داعش، لذلك تم نقلها بقضها وقضيضها إلى ريف إدلب منتصف عام 2014، ولم يكن اختيار إدلب عبثياً إذ كانت الخطة تستلزم نقل النصرة إلى منطقة حدودية مع تركيا لتوفير الدعم وخطوط الإمداد وكذلك العمق الإستراتيجي.
وإثر وفاة الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز وتربع شقيقه الملك سلمان على عرش الرياض خلفاً له، شهدت السياسة السعودية انقلاباً جذرياً ولاسيما مع إطلاق «عاصفة الحزم» في اليمن والتهديد بنقل التجربة إلى بلدان أخرى على رأسها سورية، وبالتزامن مع ذلك وتحديداً في آذار من عام 2015 حصل تقارب جديد بين قطر والسعودية وتركيا كان من نتائجه على صعيد الأزمة السورية تشكيل «جيش الفتح» من عدة ميليشيات أهمها جبهة النصرة و«أحرار الشام» و«فيلق الشام»، وقد قام «جيش الفتح» بالسيطرة على كامل محافظة إدلب قبل أن يتفكك على وقع الخلافات التي ضربت بين الميليشيات المكونة له والتي بالتأكيد لها امتدادات تصل إلى عواصم الدعم الخليجي.
ومرة أخرى تعرضت الرياض لإخفاق جديد على يد ولي ولي العهد محمد بن سلمان الذي يقود الجهود العسكرية للمملكة في الخارج، حيث كانت الرياض تراهن على إمكان احتواء جبهة النصرة واستخدامها في إسقاط النظام السوري برغم تصنيفها رسمياً على قوائم الإرهاب السعودية منذ آذار العام 2013، لكن ما حصل هو أن جبهة النصرة هي التي سارعت إلى التهام الميليشيات المدعومة سعودياً وغربياً وأهمها «جبهة ثوار سورية» و«حركة حزم» وأكثر من عشرة ميليشيات أخرى.
واللافت أن قيام النصرة بالتهام أو تفكيك أو إبادة الميليشيات المدعومة من الرياض أو الغرب أو واشنطن، لم يكن يحظى بأي رد فعل من هذه الدول التي كانت تكتفي بالفرجة على ميليشياتها وهي تنهار على حين مستودعات الأسلحة المكدسة بأنواع الأسلحة المتطورة ولا سيما صواريخ «تاو» تنتقل بلمح البصر إلى مستودعات جبهة النصرة المصنفة على قائمة الإرهاب الدولي. بالمقارنة مع موقف واشنطن حالياً من تقدم الجيش السوري في مناطق تسيطر عليها ميليشيا مدعومة من البنتاغون هي «مغاوير الثورة» وقيام الطائرات الأميركية بقصف القوات السورية وحلفائها أربع مرات متتالية لحماية هذه الميليشيا، فإن الكثير من علامات الاستفهام ترتسم حول حقيقة ما كان يجري بين النصرة وبعض الميليشيات المدعومة غربياً، ولماذا لم تدافع واشنطن عن «ثوار سورية» أو «حزم» ضد جبهة النصرة كما تفعل في دفاعها عن «مغاوير الثورة» ضد الجيش السوري؟ ولماذا تركت مستودعات «التاو» تنتقل إلى النصرة دون أن تحرك أياً من طائراتها لمنع ذلك؟
كانت محصلة هذه السياسة السعودية والغربية هي تضخّم جبهة النصرة وتحولها إلى «هيئة تحرير الشام» من خلال انضمام كبرى الميليشيات إليها مثل «حركة نور الدين الزنكي» التي بدورها كانت من أهم الميليشيات المدعومة أميركياً قبل أن ينتهي بها المطاف إلى مبايعة القاعدة. في الوقت الحالي، مع تفجر الصراع السعودي القطري مرة أخرى بين محمد بن سلمان ومشيخة قطر، يبدو أن جبهة النصرة ستكون هي المستفيد الأكبر من نتائجه وتداعياته، كما كانت المستفيد الأكبر من مجمل السياسات الغربية والخليجية بما فيها مرحلة الصراع الأولى التي دشنها الأمير بندر بن سلطان صيف العام 2013 وانتهت مع وفاة الملك عبد الله.
لكن يبدو أن جبهة النصرة ممثلة بـ«هيئة تحرير الشام» من خلال الانقضاض على «الفرقة 13» والعمل على حلها نهائياً، كما نص الاتفاق بينها وبين «جيش إدلب الحر» الذي وقّع، أمس الأول، أرادت إرسال رسالة قوية إلى كل من واشنطن والدوحة مفادها توجيه تهديد إلى واشنطن بإمكان استئصال الفصائل المدعومة منها في مقابل التأكيد للدوحة أنها ، أي النصرة، هي الذراع الأنسب لاستخدامه ضد خصومها وتقوية نفوذها في هذه المرحلة. وقد يكون مما له دلالة في هذا السياق أن «فيلق الشام» ذا الانتماء الإخواني المقرب من قطر وتركيا، وخلافاً لكل التقارير الإعلامية، لم يشارك في الدفاع عن «الفرقة 13» بل تركها فريسة سهلة لجبهة النصرة وذلك رغم كل الخلافات بينه وبين جبهة النصرة مؤخراً، وهو ما يمكن اعتباره مؤشراً إلى وجود قرار أكبر من الفيلق بضرورة إفساح المجال أمام النصرة وتمكينها من إرسال رسائلها إلى الجهات المختلفة نيابة عن محور قطر تركيا، وهو ما يعزز أن استمرار الزلزال الخليجي سيؤدي إلى تغييرات كبيرة على صعيد مشهد الميليشيات المسلحة في سورية وقد يكون من أهم نتائجه هو تسريع تحقيق حلم الجولاني بإقامة إمارة إسلامية لا ينافسه فيها أحد من قادة الميليشيات الأخرى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن