ثقافة وفن

افتتاحية ثقافية لهذا العدد

| د. راتب سكر

عرف تاريخ الصحف والمجلات العربية والعالمية ظاهرة افتتاحية العدد، التي يكتبها عادة رئيس التحرير، أو من ينيبه. يلاحظ أن موضوعات السياسة الراهنة هيمنت غالبا على افتتاحيات الصحف والمجلات السياسية، ومن ذلك على سبيل المثال الافتتاحيات التي كتبها نجيب الريس (1898- 1952) لصحيفة المقتبس، وقد أسسها في دمشق بعد انتقال أسرته إليها من حماة، واندماجها في بيئتها الجديدة، وكثيراً ما عد معاصروه افتتاحياته تلك من أهم مواد تلك الصحيفة، يتناقلون أفكارها بمناقشاتهم اليومية.
يبدو نهج افتتاحية العدد في الصحافة الأدبية والثقافية، مثل «الأسبوع الأدبي» السورية، و«أخبار الأدب» المصرية، متشابها مع نظيره في المجلات الأدبية والثقافية، مثل «المعرفة» السورية، و»الحكمة» اليمنية، و«أدب ونقد» المصرية وغيرها، وهو نهج لا يسير باتجاه نمطي واحد في مسيرة كل عدد، ويبدو متأثراً، غالباً، برؤى رؤساء التحرير وتعاقبهم على أدوار مهماتهم، ويلاحظ متتبع مثل هذه الافتتاحيات، تنوع موضوعاتها في اتجاهات عدة أبرزها:
ا- سياسية تعنى بقضايا السياسة الآنية والإستراتيجية، فتبدو ضعيفة العلاقة بمحتويات العدد المتصلة بقضايا الثقافة والأدب والفنون، كالشعر والنثر والنقد.
2- تأملية وفكرية ذاتية، يغرد كاتبها في عوالمه الخاصة وتأملاته، بعيداً عن القضايا السياسية، أو الثقافية التي شغلت كتاب العدد وموادهم المنشورة فيه.
3- ثقافية تترجح بين الهموم الثقافية العامة، ومضمون محتويات العدد الذي يستهل بها محتوياته.
نادراً ما تعنى افتتاحيات الصحف والمجلات الأدبية والثقافية بالكتاب الذين ينتجون مواد الأعداد المتلاحقة، فتتعالى موضوعاتها عن رفاق رحلة القلم، متجاهلة كشف قيمة ما يكتبون، وإذا تخلت عن تجاهلها إياهم، من حين إلى حين، تجدها خجولة، تخاف من تبعات إعلاء شأن الأفراد الشركاء في صناعة الكتابة، مضمرة شعوراً طاغي النزوع إلى بخسهم أثمان أشيائهم.
قضايا التنظيم الإداري والتوزيع وريع المبيعات والبحث عن أسواق وعلاقات جديدة، تبدو في آخر هموم أصحاب الافتتاحيات، وغالبا ما تعالج مثل هذه القضايا بعيداً عن هيئات التحرير، وكأن أسرارها مختصة بإداريين تقع مهماتهم خارج دوائر التحرير، التي تفرح عادة بحالة تريحها من هموم تبدو ثقيلة، يحتاج علاجها إلى قرارات وتقنيات وأدوات بعيدة عن اليد والبصر.
عنيت مناهج أقسام الصحافة والإعلام في الجامعات بقضايا الافتتاحيات، ومكانتها ووظائفها، في الصحف والمجلات الثقافية، واجتهد الكتاب وأصحاب التجارب والخبرات في تدبيج مقالات توضح مواقف كل منهم من هذه القضايا الشائكة والخلافية، غير أن كل ما وضع في المناهج، وكل ما دبجه أصحاب الخبرات، ظل ضعيف التأثير واقعيا، ما دام كتاب الافتتاحيات يقدمون ما ينبثق عن قناعاتهم، متأثرا من حين إلى حين، ببوصلات الهوى الشخصي ببعديه النفسي والفكري، وأشكالهما وألوانهما الخاضعة لمقتضيات الهوى وهبات جموحه من حين إلى حين.
تبدلت صيغ الافتتاحيات في تاريخ الصحافة الثقافية، من جيل إلى جيل، ومن كاتب إلى آخر، وظلت موازنة هذه الصيغ ودلالاتها الفنية والفكرية والوجدانية، بعيدة تخشى سطوة هذا، وغضب ذاك، من المتنفذين في دوائر الأمكنة والأزمنة ضمن عطافات الحياة، ما يرفد أقلام كتابة الافتتاحيات بشخصيات جديدة، رفدا يكاد يعيد صور السابقين، (باستثناءات قليلة)، وتمضي دورات الحياة من دون مثل تلك الموازنة، التي تحل محلها إشارات بالسبابة يفهم منه أن فلاناً جيد، وفلاناً بائس، وغالبا ما يكون الحائزون مرتبة جيد، من أصحاب صفات شخصية غائمة الملامح، فعلياً أو بحسب توهم أصحاب السبابات الذين يخلطون العلم والثقافة مع غيرهما، من حين إلى حين…
هذه الكلمات محاولة يائسة لفتح أبواب الحوار بين الذات والآخرين، آخرين يفضل بعضهم إصدار التعليمات على أي شكل من أشكال الحوار، مهما كان ضعيفاً وبائساً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن