ثقافة وفن

الفن والعمارة وتأثير البيئة في بلاد الرافدين … التقدم الحضاري يأتي من التقدم العلمي والتقني المساعد للفنان في عالمه الفني

| سوسن صيداوي

منذ بداية الوجود وبداية استعمار الإنسان للطبيعة، منطلقاً من غريزة البقاء وضرورة الاستمرار طوّع رغم بساطته وبدائيته ما حوله من عناصر طبيعية كي تفيده في مبتغاه، وبحسب كل بيئة كان ينتمي إليها، كان منها إبداعه في صناعة عمارة تقيه تحوّل الطبيعة بطقسها. فكر الإنسان المتقد جعله يتفاعل مع ما حوله مشكلاً فناً يوازي طموحه في سعيه الحياتي وتطوره البدائي ومن ثم الحضاري. وحول تأثيرات الطبيعة في الفن والعمارة، صدر عن وزارة الثقافة الهيئة العامة السورية للكتاب، كتاب بعنوان «الفن والعمارة وتأثير البيئة في بلاد الرافدين» للدكتور المهندس المعماري جهاد كامل صالح، بواقع خمسمئة وثلاث وثمانين صفحة، مقسم إلى خمسة مباحث.

في المقدمة
رصد المؤلف في كتابه هذا تأثيرات الطبيعة في الفن والعمارة في حضارة بلاد الرافدين. وقد بنى كتابه على مقدمة ألمّ فيها بحضارة بلاد الرافدين من الوجهة الدينية التاريخية والثقافية والفنية، وعن بعض ما قاله د. صالح في مقدمة كتابه: «الحضارة الرافدية هي تألق إنساني رافدي يشير إلى حياتهم وأساليبها المختلفة المفيدة والجامعة للجميع تحت ظل نظم اجتماعية مدروسة تتخللها تطلعات ثقافية (دينية وأخلاقية…) توطد الفكر للسير في منظور حياتي هادف يتمسك الكل به لتتوحد التطلعات فيما يخص حسن سير الحياة للجميع ويكون الهدف هنا الإنسان وحياته الإنسانية، فالحضارة التي تبتعد عن الإنسانية هي خارج التاريخ الإنساني». مضيفاً في مكان آخر: «التقدم الحضاري لا يأتي هكذا عبثاً إنما يأتي من التقدم العلمي والتقني المساعد للفنان في عالم خلقه الفني المتعدد الوجوه والذي يعتمد على الترسّب الثقافي والتاريخي في آن واحد. عالم الفن يبين ظروف البيئة الطبيعية التي تأتى منها التقدم الاقتصادي الذي يعكس الحياة الاجتماعية (البيئة الاجتماعية) في الحياة الرافدية ويبين التطلعات المختلفة دينية وسياسية ويبين الإنجازات المختلفة فنية ومعمارية».

في المباحث
جاء الكتاب بجملة من مباحث خمسة، وجعل د. صالح من المبحث الأول لعناصر البيئة الطبيعية وتأثيرها في الفن والعمارة؛ فدرس الطين والحجر والأشجار والحيوانات الضارية والمعادن والمناخ والنجوم والكواكب، وبين انعكاساتها على الفن والعمارة.
وفي المبحث الثاني درس عناصر البيئة الثقافية والدينية والاجتماعية وأثرها في الفن والعمارة على نحو خاص. وفي المبحث الثالث درس عناصر البيئة الطبيعية–الثقافية وانعكاسها على الأعمال الفنية والمعمارية، فدرس مادة الطين وأثرها في الأعمال المعمارية وإكساء الأكواخ وتقنيات صناعة اللبن واللبن المشوي والقباب والأقواس وتشييد الأبينة ذات الأنشطة والأغراض المختلفة (المعابد والأسوار والقصور والأبواب) وكذلك درس مهنة النحت والفن التجريدي المرمّز والفن النباتي واستعمال الشبكة الهندسية وزهرة الحياة الرافدية.
وفي المبحث الرابع درس المحيط البيئي العدائي والعناصر الحامية (المادية والحسية) وتأثيرها في الفن والعمارة، فعرض لبناء الأسوار والأبراج الحامية بشرفاتها وبوابة عشتار والعناصر المرمزية الحامية والمزينة له، والعامل الجمالي الحامي برموزه ودور الشبكة الهندسية المساعدة في البناء الفني وتأثيرها الحضاري، وعالم الجمال التعبدي الحامي للروح، والفن التجريدي الهندسي والفن التجريدي النباتي، والمدلولات الحضارية للكتابة والزخرفة واللوحات النقشية «النحت النباتي» والمسقط المعماري لدور شاروكين وأهمية الباثيو في العملية التصميمية ودوره الحامي للأنشطة المختلفة. وخصص المبحث الخامس لدراسة تأثير مواد البيئة الطبيعية وموضوعات البيئة الثقافية في تشكّل المهن الفنية الرافدية: صناعة الفخار والخزف والأختام الأسطوانية، والتماثيل المتعددة الوجوه والأشكال، ومهنة صناعة المسلات، ومهنة النحت بضروبه المختلفة، وصناعة الحلي، والآلات الموسيقية، والرسم والتزيين الجداري.

حضارة الطين
في تقديم كتاب «الفن والعمارة وتأثير البيئة في بلاد الرافدين» كتب د. محمد عبد اللـه قاسم بأن أول ما طوّعه الإنسان من مواد الطبيعة هو «الطين» الذي يعد المادة الأولى لأي عمل هندسي معماري ماتع نافع، ولأمر ما سمّى المؤرخون الحضارة الرافدية بحضارة الطين. مشيراً إلى أن الإنسان الرافدي قد سكب دساتير حياته بمختلف جوانبها الاجتماعية والدينية والتاريخية فوق ألواح الطين التي دونت حياة الرافديين بكل جزئياتها شعراً ونثراً، فعلى متن ألواح الطين تُقرأ حوادث التاريخ، فيرى الناظر فيها مسرداً متلاحقاً لكل قصص التاريخ التي مرّت فوق ذلك الصقع من الأرض حتى ليظن المرء أنه يعاين نصرها أو انكسارها الآن. مؤكداً ضرورة النظر من جديد إلى الألواح الطينية الرافدية، بغية إعادة كتابة تاريخ المنطقة، فبرأيه الإعراض المطلق ما هو إلا وأد للحقيقة وعزل للحضارات وإلغاء لما صنعته أيدي الإنسان. وبالتالي هذا فوات للمعرفة وهدر لأجمل ما أنتجه العقل الإنساني على مر العصور.
وهذا ما ختم به المؤلف دراسته في فصل قدم خلاله وجهة نظره في استخدام الطين في بناء مساكن تحاكي متطلبات الشباب العربي، وأيضاً وجهة نظر أخرى حول استخدام الطين في بناء القباب والأقبية مع تبيان جدواها الاقتصادية والجمالية مغنياً دراسته بالصور واللوحات التي تبين ما أراد وتجلي مقاصده حيث قال د. صالح في أحد الأماكن: «إنه من الضروري في الأعمال الفنية والمعمارية في الجغرافيا العربية تبيان الهوية، وبما أن الماضي التراثي بين أيدينا، فمن لا ماضي له، لا حاضر له، فلندرسه جيداً وبشكل علمي لنستنتج ما يساعدنا على التصميم والتنفيذ (قباب، قبوات، وأقواس وأعمدة وحنايا وغيرها) الكفيلة بتحقيق الاحتياجات المطلوبة سواء للنشاطات داخل المبنى أو ما يتعلق بالشكل الخارجي الذي من الضروري أن ينسجم مع المحيط ويؤمن منظراً منسجماً مع منظر عام يبين الحداثة على واجهات تحاكي التراث والواقع المعيشي، علما أن المواد المستعملة في الكتلة الإنشائية ستكون الطين بتقنياته المختلفة لتأصيل فن وعمارة بلاد الرافدين في بلادنا».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن