ثقافة وفن

المفتي ودعوة الاعتراف بالخطأ!

| إسماعيل مروة

ليس دوماً الاعتراف بالخطأ فضيلة، فإذا ما كان الخطأ فردياً لا يتجاوز حداً معيناً من الإيذاء والضرر، من الحسن أن نراه فضيلة، لأن الطبيعة الإنسانية مجبولة على الاعتداد بالذات وبالرأي، ومفطورة على التشبث بالرأي وإن لم يكن سليماً حتى اللحظة الأخيرة، وإن جاء أحدهم للاعتراف بالخطأ، فإنه يداور عليه ليخرج الأمر بطريقة ما تبتعد عن الاعتراف، وتتنصل من مسؤولياته! الاعتراف بالخطأ يجب أن يرافقه عملية إزالة تامة لتبعات هذا الخطأ، وإن كان الخطأ جمعياً كان الأمر أشد تعقيداً وخطورة، وكانت عمليات المواربة أكثر الطرق استخداماً بالخطأ، وهذا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بآليات التفكير، فأدب الاعترافات، وكتابات الاعترافات ليست من أدبياتنا العربية والشرقية عموماً، فنرى السياسي أو الأكاديمي أو الأديب، أو رجل الحياة العامة عندنا يفعل الأفاعيل، وحين يكتب ما جرى معه يخرج طاهراً مثل الشاش، وأن الآخرين لم يفهموا ما أراد، ولو تبعوه فيما أراد لحصل خير كثير!! وكأنه بذلك يعترف عن الآخر لا عن نفسه، فليس هو من أخطأ وقتل وحرّض ودمّر وفعل الأفاعيل الشائنة!
قضية الاعتراف هذه تبادرت إلى ذهني وأنا أتابع مناقشة سماحة المفتي العام للجمهورية العربية السورية، الأستاذ الدكتور أحمد بدر الدين حسون لقضية قوائم الإرهاب، ووقوفه مع ضرورة أن يعترف المخطئ بخطئه، وبما اقترفت يداه تجاه شخص أو وطن، وهو بذلك يريد أمراً عميقاً للغاية، قد لا يدركه كثيرون ممن تعاملوا مع الظاهر للناس، غايته تتمثل في أن الاعتراف يأخذ منحيين: المنحى الأول يتعلق بالشخص الذي يعترف بخطأ ما ذهب إليه، وهذا الاعتراف يسحب عن آرائه صفتي القداسة والتشبث بالرأي، وهذا يمكن أن يسحب فتيل أزمة أو فتنة، وخاصة في مجتمع غير قارئ يقوم على الانفعال والعاطفة، والمنحى الثاني وهو الأهم، أن هذا الاعتراف يسحب المصداقية منه لدى شريحة كبيرة من الناس، بما في ذلك المساحة التي تمتد آراؤها فيها، وبمن هم يتبعون آراءه، والذين يرفعون لافتات كبيرة ضمناً، سواء كانوا في مواقع فاعلة، وعملوا على الترويج لآرائه وأفكاره وشخصه، أم كانوا من الناس العاديين الذين إن عطس حمدوا الله نيابة عنه، وإن تحدث قالوا صدق، وإن أفتى عدّوا نصه مقدساً.
في الوقت الذي تنصّل منه من روّجوا له في سورية ظاهراً، وهم يعتنقون كل ما قاله واعتقده، وفي الوقت الذي سحبت منه عضوية علماء العالم الإسلامي بناء على أوامر سادة الرابطة، يأتي سماحة المفتي ليطرح مسألة الاعتراف بالخطأ ويرى سماحته أن عدداً لا يستهان به من عظماء العالم اعترفوا بأخطائهم، ولم يضرّهم ذلك بشيء، لأنهم اعترفوا في الوقت المناسب، ويرى سماحته أن هذا العالم أو ذاك من المفترض أن يعترف بأخطائه، وبهذا الاعتراف يسمو أكثر، ويمكن أن يتم استئصال ما بني على الأغلاط التي يعترف بها، ومن طرف ذكي يشير الدكتور حسون إلى أن الاعتراف لا يقصي صاحب الرأي، ولا يجعله خارج الدائرة حاقداً، ويمكن أن يؤسس لرأي جديد يبتعد عن الحقد وردود الأفعال.
ماذا يقدم أو يؤخر أن يوضع اسم أحدهم في قوائم ذات صبغة واحدة؟
ما ردود الأفعال الفردية أو المجتمعية أو المؤسسية على هذه القوائم؟
ألا تكسب هذه الشخصية أو تلك تعاطفاً من أي نوع في مواجهة القوائم؟
أسئلة كثيرة تتبادر إلى الذهن، ونحن نرى هذه الشخصية أو تلك التي تمددت كثيراً، وسمح لها أن تترك تأثيراتها في مختلف طبقات المجتمع، من كبار الساسة إلى صغار العمال، والتي كانت تسخر لها طائرات خاصة ومرافقة لتقوم بدور ما. والآن يكتفى بوضع هذه الشخصية ضمن قوائم وعزلها، فيبقى التأثير منزرعاً في تربة غير صالحة، وغير قادرة على الخروج من تربة أقل ما يقال عنها التبعية وعدم المعرفة!
أما ما طرحه د. حسون من أمر أن يعترف العالم أو رجل الدين بخطئه، فهذا أمر جوهري، وقد يساعد بطريقة أو بأخرى على اجتثاث الأفكار الأحادية التي توصف بالتطرف اليوم، وهي آراء قديمة، ومجرد كونها من الآراء الوصائية التي تفرض على الناس على شكل دروس وفتاوى غير قابلة للنقاش هو نوع من التطرف والأحادية! نحن الذين جعلنا الناس أوصياء على عقولنا دفعناهم إلى النشوة بتأثيرهم والتمسك بمواقعهم ومواقفهم وآرائهم!
اليوم بدأت الاعترافات العلنية بالأدوار، وهذه الاعترافات ليست من وازع ضمير، بل تأتي من باب الصراعات وتصفية الحسابات، فهذا الذي صار خارج اللعبة السياسية يعترف ليس لأنه لم يعد فاعلاً، بل لأنه يريد أن يفضح سادته، وأن يعقد في دوائر اللعبة القذرة التي تجري على الأرض العربية. وكل هذه الاعترافات مهمة للمتابع وللإنسان لأنها تكشف جوانب خطرة كانت محجوبة عن الناس، وإن كان الحصيف قادراً على استنتاجها، أما ما طرحه سماحة المفتي من ضرورة أن يتقدم العالم من أتباعه بالاعتراف بالخطأ، فهو أمر أهم من اعترافات الساسة، لأن أتباع هذه العالم كثر، ولا يخضعون الأمر للنقاش والمحاكمة، وإنما يخضعونه للمقدس والعاطفة والتبعية، والدعوة إلى الاعتراف ليست دعوة للتبرئة وتظهير هذا الشخص أو ذاك، وإنما لتعرية أسلوب تفكير يقوم على تكريس الظواهر السلبية اعتماداً على العاطفة.
أذكر أن إحدى الصحف العربية أصدرت ما سمته «ملفات القرن العشرين» وعلى حلقات انتهت مع بداية عام 2000، وهي موجودة لدي بعد أن جمعتها تباعاً وحفظتها، ومن بينها اعترافات صاحب «الحلال والحرام» وتتضمن دوره الإخواني بوضوح، ولكن هل هناك من قرأ؟ ولأنني قرأت ذات يوم، وأحتفظ بالنص لم أستسغ، ولم أفهم أن يقوم كثيرون حتى في سورية بالترويج له ولزياراته ومواقفه، ولكننا لا نملك من الأمر شيئاً.
نعم إن ما طرحه سماحة المفتي العام من آراء غاية في الأهمية، فهي من جانب تحاول أن تبرز للرأي العام والأتباع حقيقة ما جرى، وعمق ما تم التخطيط له، وهي تظهر عمق الروابط التي تجمع بعض هؤلاء بمريديهم ومعتنقي آرائهم في كل مكان، حتى في المواقع الفاعلة، وهي قادرة على تعرية الفكر الأيديولوجي الديني المتطرف، الذي لم تستطع سنوات الحرب والفوضى في الأرض العربية أن تظهره على حقيقته، وما يزال يحتفظ بمواقعه وسدنته ومؤيديه، وهي وهذا الأهم تدفع إلى معالجة داخلية تبعد شيئاً من آثار صدور هذه القوائم من جهات خارجية سياسية وصائية ليست من غاياتها أن تعدّل المسار الفكري لنعود إلى الأصول السليمة، وإنما غايتها المزيد من الهيمنة الفكرية، وإلا فبماذا نفسّر صمتها عن المعلوم غير المجهول لديها ليتسفحل ويصبح مرضاً خطراً؟
التقيت مرة صاحب «الحلال والحرام» وعندما سمع الاسم نظر بغير ارتياح، وقال: أنت صديق فلان، ولا تعجبك آراؤنا. ابتسمت وتحاورنا مطولاً، وبأنني صديق فلان حقاً وصدقاً، أما عن الآراء فأنا لست مع أي رأي لا يقبل نقاشاً ولا يطرح بحرية ويناقش بحرية، وباختصار أنا لست مع الرأي الذي يحمل صفة الاعتقاد، لأن الاعتقاد يُسَلّم به ولا يقبل نقاشاً، أما الرأي فهو القابل للنقاش والتغيير والتعديل.
وما طرحه الدكتور حسون بذكاء ولطف وانسيابية وعلم قائم على الحجة والفلسفة والأدب الجمّ غايته الرئيسية والنهائية أن تتحول الآراء بالاعترافات إلى ساحة للنقاش والتغيير والتعديل بما يكفل تطوير البنية الفكرية لدى رجالات المؤسسات الدينية التي صار من الصعب عليها التنازل عن أدوارها ومصالحها، والحوار وحده هو القادر على فعل ذلك، وعلى تغيير عميق في البنية الفكرية ذات التوجه الواحد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن