قضايا وآراء

داعش تذوب في الموصل: الانتصار على الوهم قد يحصد الوهم

| فرنسا – فراس عزيز ديب 

في العام 2006 عندما قُتل «أبو مصعب الزرقاوي» قدمت الولايات المتحدة روايتين مختلفتين لمقتله، الأولى تتحدث عن انفجارِ قنابلَ قرب منزلٍ كان فيه، والثانية تتحدث عن مقتلهِ في غارة، لتخرج بعدها صحيفة «الصنداي تايمز» بروايةٍ ثالثة مفادها أن الزرقاوي أصيب فعلياً من الغارة الأميركية ولم يمت بها لكنه ضُرب بعد اعتقالهِ حتى الموت داخل سيارة الإسعاف التي أقلته، يومها طرَحت هذهِ الرواية سؤالاً منطقياً:
لماذا لم يتم الاحتفاظ بالزرقاوي ومحاكمتهِ بالمسرحيةِ ذاتها التي تمت فيها محاكمة الرئيس العراق الأسبق صدام حسين، تحديداً أن الزرقاوي كما ابن لادن من المفترض أنه كنزَ معلوماتٍ لمن يريد فعلياً أن يحارب الإرهاب، وهذه الروايات المتناقضة للإدارات الأميركية بما يتعلق بمقتل من يمثلون «روح الحقيقة» لما يجري من جنونٍ حولنا، يثبت الفكرة القائلة إن الثقة بما تقوله الولايات المتحدة حتى بما يتعلق بأحوالِ الطقس، هو ضربٌ من الانتحار البطيء.
لا يختلف اثنان أن تنظيم الزرقاوي في العراق كان اللبنة الأولى لما سُمي لاحقاً داعش، ثم تنظيم «الدولة الإسلامية»، أي إنها الأذرع العسكرية التي تحركها الولايات المتحدة لإعادة فرض وجودها في صحراء الرافدين لدرجةٍ تجعلنا نسأل: هل حقاً أن هذا التنظيم هو جيش من المتطرفين أم جيش من المتدينينَ المؤمنين بدورٍ لداعش كفكرةٍ تتجسد صورياً على الأرض لتحقيق النبوءة المقدسة لـ«إسرائيل»؟ ربما هي مزيجٌ بين هذا وذاك لكن هذا لم يعد مهماً الأهم هي النتيجة التي باتت ثابتة أمام تعدد الخيارات: إنهم يحاربوننا بالوَهم، لدرجةٍ طغت فيها حرارة المعركة الإعلامية التي رافقت الحرب على داعش في الموصل والرقة على حرارة المعارك الجارية على الأرض، وخصوصاً أن هذا التحشيد الإعلامي جرى التحضير له على مدى العامين السابقين، ليس بما يتعلق بصعوبة المعركة والخسائر المفترضة فحسب، لكن بما يتعلق بمستقبل المدينتين، فكيف ذلك؟
نجحت القوات العراقية والقوى المساندة لها بالسيطرة على أغلب مناطق مدينة الموصل وريفها، لكن ولكيلا نبدو وكأننا نغرد خارج سرب «الفرحة بالانتصار» سنقول: إن أي انتصارٍ على الإرهاب في أي منطقة بالعالم هو انتصار لكل ضحايا الإرهاب، لكن في الوقت ذاته من حقنا أن نسأل: أين ذهب عناصر التنظيم وهم قبل أعوام تمكنوا خلال ساعاتٍ من دحرِ الجيش العراقي وارتكاب المجازر بحق عناصرهِ والسيطرة على كامل المدينة وريفها بسرعةٍ قياسية؟ ربما قد يكون هؤلاء قد فروا عبر ممرٍ آمن لكن لا يبدو أن المنطق يقودنا نحو هذا الخيار، لأننا عندها سنسلم بأن داعش هو فعلياً جيش إرهابي متكامل موجود ويقاتل على الأرض، وهو ما لا يمكن التسليم به بهذه السهولة، قد يكون التنظيم فعلياً «قاوَم» في المدينة لكنه اضطر تحت وطأة الضربات للاستسلام، وهنا يبدو التسليم بهذا الخيار أصعب من سابقهِ، لأن هذا الأمر يعني ببساطة أن عناصر التنظيم ذابت ضمن المدينة وهو ما يجعلهم في نهاية الأمر قنبلة موقوتة ستعود للانفجار ساعة يريد الأميركي لها ذلك، تحديداً أنه بارعٌ في صناعةِ الوهم الذي يمنحه الانتصارات المجانية، فمن خلال «وهم الكيميائي» احتل العراق، وعبر «وهم القاعدة» في العراق أمَّن بقاء قواتٍ أميركية فيه، واليوم في طور «وهم القضاء على داعش» ثبت أقدامه في المنطقة، تحديداً أن الموصل له قد تكون جائزة ترضية مستقبلية يريد الجميع فيها حصة ما؛ من قادة «إسرائيل الشمال» الذين يريدون المدينة جزءاً لتوسيع إقليمهم المسخ وما تعنيه لهم «كركوك» الغنية بالنفط، وصولاً للتركي الذي كان ولا يزال يرى الموصل وحلب سراً من أسرار إمبراطورية أجدادهِ القميئة، وصولاً للقيادة العراقية ذات نفسها التي يريد الأميركي ابتزازها لتحصيلِ ما يمكن تحصيلهُ مستقبلاً، بمعنى آخر: لا مكان للاحتفال بانتصارات وهمية على عدوٍ غامض يقوده ويحركه عدونا الأصيل الذي يبيعنا الوهم؛ لأن التدقيق بهذا الانتصار سيفتح الباب عملياً نحو عشرات المطبات القادمة التي ستجعلنا نقول ليت داعش ولو وهمياً بقيت في الموصل، لكن ماذا عن الرقة؟
بالنسبة للأميركي، إن الاختلاف الجوهري بين معركتي الموصل والرقة هو أن الأولى لا تحمل في طيَّاتها تناقضاتٍ قد تؤدي إلى صدامٍ ما بين حلفاء واشنطن ذات نفسهم، بمن فيهم إرهابيو البيشمركة الذين هم بالنهاية حلفاء لنظامِ «العدالة والتنمية»، أما معركة الرقة فهي أكثر تعقيداً ليس لجهة تناقض المصالح بين أتباع واشنطن فحسب، لكن لجهةِ قدرةِ واشنطن على ابتزاز الجميع، أعداء كانوا أم حلفاء، سواء من خلال سير المعارك أم بعد انتهاء «تحرير» المدينة كما يزعمون.
هذه التناقضات تتجسد على الأرض، فبعد ارتفاع الحديث عن تقدم ميليشيا الانفصاليين الأكراد في أحياء الرقة عاد الحديث لاستجماع داعش قواه وإعادة سيطرته على عددٍ من الأحياء بينها حي الصناعة، والحقيقة أن الأمر ليس مرتبطاً بتراجعاتٍ هنا وتقدم هناك، بل الأمر بدا عقاباً من واشنطن لميليشياتها بعد ما تم تسريبه عن اتفاقٍ تم بينهم وبين الروس لنشر قوات مشتركة سورية روسية في المناطق الحدودية لضمان عدم مهاجمة النظام التركي لهذه المناطق، وهذه التوجسات التي أبدتها الميليشيا الانفصالية الكردية تبدو مفهومة لمن يقدم نفسه كورقةٍ قادر من يدعمهُ أن يتلاعبَ به كما يشاء، فالأميركي ما زال يقدم لهم الضمانات بعدم تعرض التركي لهم لكن كل هذه الضمانات تبدو وكأنها من مبدأ العصا والجزرة لا أكثر، أما التركي فإنه يجيد تماماً اللعب في الوقت الضائع واستغلال أدق التفاصيل فهو من جهةٍ قدم ضمانات للأميركي بعدم الاقتراب من الميليشيا الانفصالية لكنه في الوقت ذاته حشد قواتهُ في الحدود الشمالية لريف حلب تحديداً من جهة عفرين مع ارتفاع الحديث عن عمليةٍ عسكريةٍ يجهز لها التركي في تلك المنطقة.
في الواقع فإن التجهيز التركي لهذه العملية لم يرتبط إلا بمستجدٍ وحيد حدث مطلع الأسبوع الماضي، وهو ما يتعلق بارتفاع التهديدات الأميركية بتوجيهِ ضربةٍ عسكريةٍ للجيش العربي السوري، تحديداً أن هذه التهديدات هذه المرة كانت ثنائية انضم إليها بطريقةٍ ساذجة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، معطوفة على ملف «عاجل ومكرر» وهو استخدام الجيش العربي السوري للسلاح الكيميائي، وهذا الأمر جعل النظام التركي في موقع الجاهزية الكاملة للاستفادة من حدث كهذا على الأرض مستفيداً من الارتباك الذي سيحدث بعد الضربة المزعومة لقضمِ ما يشاء من الأراضي عبر ممارسة التطهير العرقي، لكن حتى التراجع التركي عن هذا الخيار يبدو آنياً وليس مرتبطاً فقط بتراجع الأميركي عن خيار توجيه الضربة العسكرية للجيش السوري لكنه متعلق كذلك الأمر بقدرة الأتراك على استفزاز الروس مجدداً.
لم تكن ردود الفعل الروسية على التهديدات الأميركية موجهة فقط للأميركيين ذات أنفسهم؛ تماماً كما كانت التهديدات الأميركية ليست موجهة للسوريين فقط.
كذلك الأمر فإن الكلام الروسي عن الانتصارات المشتركة للجيش العربي السوري بمساندة الروس والمساحات الشاسعة التي تم تحريرها في البادية السورية يجعل الحرب على داعش من الجهة السورية تعتمد تكتيك «صمام عدم الرجوع»، سواء أكان مقاتلو التنظيم ينتمون للبيئة التي يجري تحريرها أم هاربين من العراق، أم عناصر أميركية إسرائيلية بلباس التطرف، وهذا التطويق للتنظيم من الجهة السورية وإبعاده باتجاه الحدود العراقية يتيح للقيادة السورية السيطرة على مناطق شاسعة قد تكون ورقة مهمة في لعبة «الحل السياسي» وإن طال انتظاره، لأنهم يدركون في النهاية أن مناطق الشمال السوري محكومة بنهر الفرات الذي يمنع الميليشيا الكردية من التقدم جنوباً ويجبر من يتولى أمرها مستقبلاً على الدخول في معركة الحل السياسي تحت سقف «سورية موحدة»، فماذا ينتظرنا؟
من الوهم التسليم بأن معركة الموصل انتهت، كذلك الأمر من السابق لأوانه الحديث عن مستقبل الرقة بعد تحريرها، لأننا عندها سنسأل سؤالاً منطقياً: ماذا لو سعى الأميركي لخلق ما يمكننا تسميته «مقاومة شعبية» في الموصل بذريعة محاربة احتلال الميليشيات الطائفية للمدينة، وهو مصطلح يروج له إعلام البترودولار منذ زمن؟ كذلك الأمر ماذا لو نشأت مقاومة شعبية حقيقية في الرقة ترفض سيطرة الميليشيا الكردية عليها؟ هل سيتم اعتبارها فصيلاً متطرفاً ورث داعش بعد رحيلها أو سيتم التعاطي معهم بموضوعية؟ الأسئلة لا تزال تتدفق بالزخم ذاته الذي يتدفق فيه شلال دماء الأبرياء والنتيجة واحدة: الأميركي منذ وصوله المنطقة ما زال يبيع الجميع الوهم وهذا الأسلوب لا يمكن الانتهاء منه إلا بدفن طموحه في «صحراء الرافدين» وماعدا ذلك انتظروا الوهم القادم الذي سيقول إن قمة الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين القادمة ستضع النقاط على الحروف لإنهاء الحروب في المنطقة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن