قضايا وآراء

المواجهة ما بعد داعش

| مازن بلال 

تبدو داعش ضمن «نهايات» السياسات المستمرة منذ أكثر من أربع سنوات، فهي لا تنحسر فقط، بل تترك أيضاً أسئلة معلقة حول الإستراتيجيات الدولية للمرحلة المقبلة، فكلما تقلص نفوذ داعش في سورية، زاد من حدة التوتر الدولي على أرضها، وظهر للعلن نوعية التناقض بين موسكو وواشنطن بشأن مستقبل شرقي المتوسط عموما، فالحرب على الإرهاب أنتجت التحالفات الإقليمية الحالية، وهي في الوقت نفسه تعيد إنتاج الجبهات وعلى الأخص جنوب سورية، وفي النهاية يبدو الفراغ الذي يخلفه انهيار داعش محفوفا بمخاطر الصدامات وبعد القدرة على التوافق على سيناريو جديد للشرق الأوسط.
يقدم الميدان العسكري صورة أولية عن طبيعة التحركات الدولية للمرحلة المقبلة، فواشنطن وبعيداً عن التصريحات الاستعراضية لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب؛ تحاول تكريس وجود غير مسبوق على الأرض السورية شمالا، وجنوبا ضمن الأراضي الأردنية، في حين تحاول إيران وروسيا تثبيت الجبهة القائمة واستيعاب تركيا من خلال لقاءات أستانا، ففي وقت لا تفكر فيه الإدارة الأميركية بخلق محاور جديدة، فهي تلعب فقط على الاحتمالات الممكنة، فإن الكرملين يسعى لخلق تعاون إقليمي مختلف عن فكرة التحالفات التي سادت في مراحل سابقة، فالوضع وفق المؤشرات الحالية يتمحور حول اتجاهين: الأول تؤثر فيه الولايات المتحدة بقوة، وهو يرسم احتمالات لخريطة الشرق الأوسط؛ تقوم أساسا على عدم العودة إلى معادلة الردع لما قبل 2010؛ أي القدرة على تعطيل ظهور الشرق الأوسط الجديد من خلال التعاون بين طهران ودمشق.
الاحتمالات التي تتعامل معها واشنطن تعتمد أساسا على فرض أمر واقع؛ ينطلق من نشر قوى دولية في سورية أو محيطها، وهو ما يفرض «خطوطاً حمراً» متداخلة ومعقدة تجعل من المستحيل إعادة الاستقرار من دون تبديل عميق في البنية السياسية لسورية والمنطقة عموما، فالأمر الواقع الذي تريده لا يعتمد فقط على وجود وحدات عسكرية لها، بل أيضاً إمكانية تحرك «إسرائيلي» وتدخل تركي من الشمال، وحتى ظهور اشتباك جديد من الشرق عبر الوحدات العراقية، وهذا الأمر سيفرض قواعد اشتباك دولية، فسورية بأكملها بالنسبة لواشنطن هي ميدان اشتباك، وليس فقط المنافذ الحدودية التي تنتشر فيها قوات مختلفة الجنسيات.
الثاني تعمل في إطاره معظم القوى الحليفة للحكومة السورية، ولا تقوم موسكو بقيادته بل تتفاعل مع مجريات الحدث داخلة، فبالنسبة للكرملين المعركة ليست في الأزمة السورية، بل ما يمكن أن تحمله من تداعيات غير متوقعة، فروسيا تسعى لـ«هندسة» الصراع إن صح التعبير، حيث تحاول خلق اختراقات داخل بؤر التوتر لرسم معادلة جديدة.
تدرك موسكو أن الانهيارات في الشرق الأوسط، تخلق حزام أزمات عريضاً؛ لن يقتصر على العراق وسورية لأنه انهيار داخل منطقة تداخل ثقافي يصل عملياً إلى حدودها، وهي من هذه الزاوية لا تحاول قيادة تحالف في سورية، بل تتعامل مع العوامل الموجودة في الحلف الذي يقف إلى جانب الشرعية في دمشق، وهي تريد بناء منظومة عبر هذا الاتجاه تمنع خلق حزام أزمات ينال الجمهوريات الإسلامية في مناطق الجنوب الروسية.
ما بعد داعش يقوم على خطوط حمر افتراضية ترسمها واشنطن، في حين تراهن موسكو على استيعاب التداعيات التي فرضها الإرهاب قبل أن يبدأ انهياره، وبالتأكيد فإن المواجهات الحالية ترسم ملامح التوافقات الدولية القادمة لأنها تضع الدول العظمى أمام استحقاق التماس المباشر، أو الاستنزاف لجميع الأطراف.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن