ثقافة وفن

العقل في الشعر العربي، المتنبي أنموذجاً

| أحمد محمد السّح

تعتبر نظرة الإنسان إلى الحياة جزءاً من طريقته في الحياة. ولكن ليس الجميع سواء في نظرتهم إلى الحياة، إذ ليس لجميع البشر النظرة ذاتها. فجميعنا يعرفُ شدة التباين في المعتقدات الإنسانية بين التقسيمات الفرعية العرقية والعقائدية للبشرية. ولا يمكن في الثقافة الحديثة تجنّبُ الإدراك الواعي لاتساع وتنوع المعتقدات الأساسية داخل إطار وحدة سياسية منظمة وجامعة. وهناك أمورٌ تُعينُ على تفتحِ العقل واتساع آفاقه، منها التجارب والخبرات التي يمر بها الإنسان على المستوى الفردي، ومنها ما يجيء عبر العقل الجمعي أو ما يتفق على تسميته بالمعرفة الجمعية التي تتناقل عبر الأجيال بطريقة يصعب فهم تناقلها حدّ اشتباه أن يكون هذا التناقل شبيه انتقال الصفات البشرية عبر مورثات الجينات. ولقد عبَر العقل رحلة واسعة في الشعر، وكان لهُ حظوة واسعة في حركته لفظاً ومعنى في الشعر العربي، وإن اتجهت كثير من المفاهيم إلى تغليب العاطفة على العقل حتى وصل الأمر حديثاً بأن تتشابه كلمة شعر مع كلمة مشاعر ويصير لهما المفهوم ذاته في أذهان الكثيرين، كما حال توحّد مفهوم التراث مع الدين، ولهذه الاشتباهات والالتباسات أسباب ومنابت تحتاج كتباً لتفصيلها وقد عمل عدد من المفكرين على الاشتغال حول هذا المفهوم، وهذه الاختلاطات التي أصابت العقل الجمعي في المنطقة العربية، هذه المنطقة التي آثرت السيف على العقل واشتغل أهم الشعراء فيها على الغزل بالسيف قبل العقل وناموسه، والشاعر المتنبي الأنموذج الثري والمتفوق الذي خطا خطوات واسعة على درب الشعر اللانهائي وقدمَ أنموذجاً عالمياً للإبداع المتناسب مع الزمن الماضي والزمن القادم يتغزل بسيفه فيقول:
وبتنا نقبّلُ أسيافنا
ونمسحها من دماء العدى
لتعلم مصرٌ ومن بالعراق
ومن بالعواصم أني الفتى
وأني وفيتُ وأني أبيتُ
وأني عتوتُ على من عتى
وكأن المتنبي يجعل للسيفِ المقام الأول ويسبقهُ على سواه معتنقاً عقيدةً متناسبة مع المجتمع قبل أن يكون ملتصقاً بفكره وهو الشاعر المبدع العقلاني، حيث يشعر أنه لا لسان للعقل ولا تستمع الآذان في هذه المنطقة إلا لمنبر السيف ورنين ضرباته، مع أنه في معاييره الشخصية وحين يسرح في رؤيته الخاصة يعود ليقول ما هو أقوى من الأبيات السابقة:
الرأيُ قبل شجاعة الشجعان
هو أولٌ وهي المحلُّ الثاني
وإذا هما اجتمعا لنفسٍ حرةٍ
نالت من العلياءِ كل مكانِ
لولا العقولُ لكان أدنى ضيغمٍ
أدنى إلى شرفٍ من الإنسان
هنا في هذه الأبيات يقدّم المتنبي الرأي على الشجاعة ولكنه يعود في البيت الثاني ليدوّر الزوايا لكي لا ينتقص من أهمية الشجاعة ودور السيف، فهو إذاً ابن بيئته وزمنه، ولربما هو ابن لكل زمان ومكان، فما زال تأكيد دور الشجاعة وعدم انتقاص أهمية الضربات الموجعة للخصم يعيش بيننا إلى يومنا، ولكنه يجد أن العقل الصحيح دائماً هو المشكلة التي تعترض الجميع حول الاتفاق على سداد رأيٍ ورجاحة عقلٍ على آخر، فكما يقول المثل الشعبي «كلٌّ راضٍ بعقله وكل ناقم على ماله»ـ فالبشر يتحيزون لعقلها ويعتبرون أن الصواب ملكها دوماً وليس ملك الآخر وقد أشار أبو الطيب إلى ذلك:
كدعواك كلٌّ يدعي صحّة العقل
ومن ذا الذي يدري بما فيهِ من جهلِ
فمن الصعب جداً تعريف العقل وتعريف صوابيته، والأصعب هو الوصول إلى الجاهل لتعقيله ونبش ركام الجهل ليصل ضوء الأفكار إلى ظلام فهمه، وقد هاجم المتنبي (اسحق بن كيغلغ) الذي قطع عليه طريقاً فقال فيه:
ومن البليّةِ عذلُ من لا ير عوي
عن غيّهِ وخطابُ من لا يفهمُ
ولكن هذا الإياس من دور العاقل في إيصال أفكار ليس من ناموس المتنبي فهو كان دائماً يجد أن دوره ودور أي عاقل ومبدع أن يثابر على تقديم النصح والرأي للجهلة، فلا يمكن لصاحب العقل السكوت عن الخطأ وإن أضر ما أصاب الأمم حين عُزل مفكروها عن وصول رأيهم إلى الناس لتستنير به، فذبلت الدول واندثرت، لأنها أشقت وعذبت مفكريها وأصحاب الاستنارة لها، وتركت الجهال ينعمون بمتاع البلاد والعباد ولعل هذا أشهر أبيات المتنبي إذ يقول:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ
ولعل الشقاء الذي توضحه هذه الحكمة الصحيحةُ يزيلُ دور العاطفة في تخفيف وطأة القهر الذي يعيشه المبدع حين يهان في بلده وبين أهله، لأن صاحب العقل في عقله مقتله، فانثناءات العواطف تحرمهُ من الحياد الذي يجلّس صواب رأيه، فدائماً كان العشاق وأهل الغرام بعيدين عن استخدام عقولهم بل استراحوا لخفقات قلوبهم وما تجره عليهم، ويومياً تجد الناس تتساءل بين بعضها وفي خلجات أنفسها تجاه أي قرار: «هل أحكّم قلبي أم عقلي؟» وبغض النظر عن عدم الصوابية العلمية لهذه العبارة فالعقلُ هو منشأ الحكمة والعاطفة وليس للقلب سوى انعكاس نتائج رسائل الدماغ، إلا أن هذا الاصطلاح جرى استعماله وهذا السؤال مشروعٌ ويدخل يومياً في طيات حياتنا والمتنبي يجيب برأيه بأن لا عقل في القلب فيقول:
فمن شاء فلينظر إليّ فمنظري
نذيرٌ إلى من ظنّ أن الهوى سهلُ
وما هي إلا لحظةٌ بعد لحظةٍ
إذا نزلت في قلبه رحل العقلُ
فالمتنبي يجد ملحمة وصراعاً أبدياً بين العقل والقلب، فالقلب هو رمز العاطفة وإن كان قد استخدمه فهو دليل على الجرأة في بعض شعره، وهو تخريج بيانيٌ نستخدمه في حياتنا اليومية وفي أماكن عدة، وهو ما سعى أيضاً إليه المتنبي في لغته التوفيقية أحياناً ليجد أن ضرورة التوازن بين العقل والقلب ضرورة جامعة لحياة سليمة وكريمة فهو الذي يقول:
ولا بدّ للقلب من آلةٍ
ورأيٍ يصدّعُ صمّ الصفا
وكلُّ طريقٍ أتاه الفتى
على قدر الرِّجلِ فيه الخُطى
ويبقى الإبداع الشعري ناجماً عن علاقة الشاعر بالمجتمع اعتماداً على قاعدة سيكولوجية اتفق عليها كثرٌ تفيد بأن «الشاعر يجد النقص في مجتمعه ما يدفعه إلى سد هذا الفراغ من خلال قصيدته ولحنه». لذلك فعقلانية الشاعر واستخدامه للعقل بحثٌ طويل المآل ولربما أكثر مما أورده المتنبي لفظاً وقداً في شعره. وقد كان أفلاطون من أشد الداعين لربط موهبة الشعر بالجنون أو الهوس، بمعنى آخر مرادف الشعر لدى أفلاطون يساوي انتفاء العقل. ومما يقوله في هذا (… كل من يأتي إلى أبواب الشعر دون جنون ربات الشعر مقتنعاً أن الفن سيجعل منه شاعراً جيداً، يكون هو نفسه مجدباً. فشعرُ ذي العقل السليم، يبزه ويتفوق عليه شعر المجنون) فهل شعرنا عقلٌ أم جنون؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن