قضايا وآراء

سقوط المشاريع وقِطافُ النصر القادم

| عبد المعين زريق

تكاد ترتسم بوضوح الصورة الكاملة ويزول عنها الدخان والغبار، وتظهر الملامح والاتجاهات وتبرز الولاءات والرايات الواسمة مع مرور الوقت الطويل من يوم بدء الأحداث والحروب للسيطرة على سورية وضمها إلى المحور الأميركي، ومع مرور هذا الزمن وكل السيلانات الجغرافية وإنكشافات الولاءات ومصادر التمويل، جعل أجساد المعارضين عارية وهياكلهم العظمية بالكاد تقف في زواياها الواسمة.
إن الحالة الذرائعية والشعاراتية المراهقة واللعب الطفولي على الحالة الشعبية الحماسية من دون أن تصيغها جحافل معارضي «الثورة السورية» بمطالب عقلانية ترسم طريقاً ديمقراطياً مشتهى لسورية المتجددة، وركون هذه المعارضات إلى التنغيم على الخيارات الصفرية من طلب استلام كراسي السلطة ولاشيء غيره، كل ذلك جعل الأمور تدفع المعارضات السورية الواهمة للذهاب إلى خيارات مجنونة وغير مألوفة للضمير السوري الشعبي، ومنها مخر المركب المعارض باكراً إلى الحضن الصهيوني عبر استجداء المساعدة منه بعد أن خرست كل مظاهر الاحتجاج المعارض عن إبداء موقفها الواضح من دولة الكيان.
اليوم تبدو هذه المرحلة جديدة ومختلفة بتاريخ المنطقة العربية، يبدو أن ما رفضه العالم الاستعماري بكل دوله المتغطرسة وأدواته في الإقليم ها هو يحدث الآن، وما كان محظوراً وممنوعاً حدوثه في المنطقة يحدث، فمن المعروف بداهةً أن اللقاء التاريخي المنتظر لالتقاء سورية بالعراق منذ نشوئهما كدولتين متجاورتين لا يسمح به منذ عقود طويلة، وها هو حلف المقاومة يزداد بانضمام العراق لعقده، قوةً ومنعةً وانتشاراً، في وجه الرجعية والظلامية والتخلف والاستعمار والغطرسة والمشروع الصهيوني، والأهم من ذلك كله يحدث هذا اللقاء المرتقب، والمزاج العراقي الشآمي بعد معارك الظلم والقهر التي تعرض لها، يصبح مزاجاً واحداً موحداً مقاوماً وحدوي الطابع في المعركة والمصير، فالقادم أجمل وأفضل، وسيكفون عاجلاً أو آجلاً لأن صواريخ الفقراء وافرةٌ لردع متغطرسي العالم.
يردد كثير من أصدقائنا، خاصة المغتربين الذين رحلوا بجلودهم، على مسامعنا نغمات إحباط وتشاؤم لا تنتهي! وتبدأ هذه التنغيمات السوداء بالمقارنات وقراءة المشاهد المأساوية في الصومال وأفغانستان والعراق وليبيا واليمن وكل البلدان التي وضعت أميركا يدها وسمحت لكلابها ومرتزقتها باستباحتها ونهشها، وفي كل مرة يجب علينا التأكيد أن هناك خللاً منهجياً في طريقة قياسهم ومقارنتهم أوضاع تلك الدول بما يجري في سورية، وهو أن الأوضاع المأساوية في تلك البلدان إنما حدثت بسبب سقوط الأنظمة والدول والجيوش فيها، الأمر الذي لم يحدث في سورية مطلقاً، وإنما الذي حصل هو أن العالم تغير من هنا في حلب، وبقية المدن السورية، واستطاع السوريون وحلفاؤهم المقاومون أبناء الأرض الطيبة الطاهرة المشرفة، أبناء البسطاء والفقراء، تكسير الإرادة الأميركية فيها وطمس رغباتها وسياساتها الخبيثة بتغيير الأنظمة تحت أحذية السوريين، وهذا فرق كبير في القياس والمقارنة وعدم إدراكه يوقع صاحبه بالسذاجة والانقطاع والغياب.
لذا يجب أن يدرك، بقايا الغافلين وجيفارات «الخارج» وضلال المجاهدين وثوار الزمن الرديء، ثوار أخر طبعة صهيونية، وبالمحاكمات العقلية وبمجريات الواقع أن مشروعهم سقط إلى غير رجعة، ولم يتبق منه إلا رغبة الدول الكبرى في التخلص من الأدوات المنفذة بغية طمس الشهود وتبييض صفحاتها في محاربة الإرهاب العالمي، وإن كان هذا يجري بحق بعض الدول التي فشلت في مشروع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما «أخونة المنطقة» بالربيع العربي المسخ، وهي، دولة قطر وتركيا التي تعاقب من أميركا وتبتز بدعم المعسكر السعودي الجديد بوجه قطر، وبدعم الأكراد مقابل كف يد إردوغان لمناكفة تركيا، فإن ذلك أصح على صغار المرتزقة والأدوات التي تعمل على الأرض مهما قدمت لها ضمانات «بقاء» سابقة وأموال وأسلحة، لذا فهذا الإنذار الذي أطلقه كل العقلاء منذ بدء اللوثة المجنونة التي دعيت «الثورة السورية»، أن مصير العملاء والمرتزقة والأدوات، الرمي والتخلص منها بعد أن تؤدي دورها في القتل والتدمير والتخريب والتقسيم، يثبت مجدداً ويصح أكثر في الحالة السورية، والطريف أن هذا الإنذار صار يطلقه حتى «قواد» المعارضين ومرابو «الثورة» مثل رياض نعسان آغا وزميله رياض حجاب في بلاط النفط والغاز المسال؛ من أن المعارضة تمر بأسوأ أوضاعها، وأن عليها انتظار عمليات السحق القادم إلى إدلب، وبموافقة أميركا ذاتها، فالعالم لن يقبل بإمارات قندهارية على سواحله، وهنا يمكن مراجعة ما قاله وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري لحجاب ونعسان أغا في هذا الصدد.
وكما يصلح هذا الكلام وهذا المصير مع «ثوار» سورية المجمعين في إدلب، فهو يصح بشكل أدق، بحق كل المرتزقة وأصحاب الأوهام الشوفينية والانفصاليين في الشمال، وهذا ما اعترف به السفير الأميركي السابق في سورية روبرت فورد أخيراً في حوار مع صحيفة خليجية؛ أن أميركا ستترك الأكراد السوريين لمصيرهم للسحق بين سورية وتركيا وإيران ولن تدافع عنهم عندما تحين لحظة الحقيقة!
يلاحظ أن هناك من شركاء الخندق ورفاق المعركة في الدفاع عن سورية ومحورها المقاوم، من يستعجل قطف ثمار الانتصار لمصلحته الحزبية ولنشر عقيدته الأيديولوجية، وكأنها الحقيقة المطلقة التي أخرجت سورية من محنتها التاريخية وامتحانها المصيري، ويجب أن تصل رسائلنا إلى هؤلاء الأحباء «السوريين» الشرفاء المستعجلين، بأن لا يرتكبوا الأخطاء ذاتها مرة أخرى، إن الاستئثار بالانتصار والاعتقاد الجازم بأنه انتصار على عروبة بالية أو إسلام ماضوي متخلف، هو فكر انعزالي قصير الرؤيا، غير واقعي، خارج عن سياق العصر والتطور التاريخي، يصفي بعض منازعاته القديمة، ولن يصل بعيداً وسيعاني مما عانته كل الأحزاب القومية بحقائقها المطلقة.
إن سورية تنتصر بكل أطيافها وتنوعاتها وأديانها وأعراقها، وتفتح عصراً جديداً من المكاشفة والشفافية، تكون فيه سورية متجددة وأجمل، تخرج من معموديتها «الحديد والنار» القاسية وقد فتحت صدرها وقلبها لكل أبنائها بكل تنويعاتهم، وتؤسس لمرحلة مختلفة في الإقليم تحترم «المواطنة» أيا يكن معتنقها وحاملها، مرحلة دفع لأجلها كل السوريين من معسكر المشاركة، أغلى التكاليف وأبهظ الأثمان في وجه معسكر الإقصاء والقطيعة الذي أراد سورية بلون واحد على شاكلته.
أما حصد المكاسب الحزبية الضيقة فليس الآن وقته والمعركة لم تنته بعد، بل هي في أوجها، بل تؤجل تلك المنافسات لسياقها القادم على أن تخضع لمعايير المواطنة وتداول الحكم والرأي الشعبي، هذا تسرع وفهمنة ليست في محلها ولا وقتها وإن صدرت عمن نحبهم ونقدرهم ويروون سورية «مع كثيرين» بدمائهم، وما زلت أعتقد أن من أنقذ سورية هم من أحبوها حقاً وضحوا لأجلها، أياً تكن مرجعياتهم، قوميين عرباً، مسلمين، شيوعيين، قوميين اجتماعيين، مقاومين.
لذا يجب عدم الاستئثار أو الإقصاء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن