ثقافة وفن

الذاكرة هي الذكاء الذي يبحث عن ذاته

| سارة سلامة

ما انفك رواد الفكر والعلم منذ القديم يبحثون عن الشروط الفاعلة في تثبيت المثيرات الطبيعية «الفيزيائية والكيمائية»، والثقافية «العلمية والأدبية والفنية واللغوية.. « في وعي الإنسان لأمد طويل، وزيادة قدرته على الاحتفاظ بها واسترجاعها عند الضرورة.
وغداة استقلال علم النفس كان هذا البحث يكتسي طابعاً أكبر دقة وموضوعية باتباعه مناهج وتقنيات جديدة أسهم التقدم العلمي والتقني في ظهورها وتطويرها.

وعلى امتداد القرن العشرين ظهر عدد يصعب حصره من الدراسات التي تناولت الذاكرة كوظيفة نفسية محورية بمستوياتها وأنواعها وتجلياتها المتعددة بهدف التحكم بعملياتها وتوجيهاتها والارتقاء بفعالية إعداد الإنسان وتعليمه في مختلف المراحل العمرية.
ويعد كتاب «الذاكرة في علم النفس التجريبي والمعرفي» الصادر عن الهيئة السورية للكتاب، الذي يقع في 479 من القطع الكبير، تأليف تاتيانا زينتشينكو وترجمة الدكتور بدر الدين عامود، ثمرة جهد طويل حرصت المؤلفة عبر فصوله تتبع المسار التطوري المتصاعد لتلك الدراسات وما حملته من أفكار وقدمته من معطيات ميدانية وخلصت إليه من نتائج وكشفت عنه من آليات تنظيم عمليات الذاكرة وقوانين تتحكم بحركتها تمنحه قيمة مضاعفة على صعيد المعرفة والممارسة والتشديد على علاقتهما الجدلية، وبالقدر نفسه من الحرص عرضت مناهج البحث والطرائق والأدوات التجريبية المستخدمة في دراسة مشكلات الذاكرة بصورة تفصيلية وجليّة، وهذا ما يجعل هذا العمل خطوة مهمة على طريق توفير الشروط اللازمة لانطلاقة البحث العلمي السكيولوجي التي تأخرت كثيراً في بلداننا، ولاسيما أنه مخصص للباحثين في معاهد البحث في علم النفس ولأساتذة وطلاب كليات وأقسام علم النفس والتربية والمعلمين وجميع المهتمين بقضايا التربية وعلم النفس.

كلمة المترجم
إن ما يمنح محتويات هذا الكتاب قيمة إضافية هو مؤلفته وما تتمتع به من سمات إيجابية خاصة، معرفية ووجدانية ودافعية فقد نشأت هذه السمات وترعرعت منذ البداية وتطورت فيما بعد في أجواء علمية وفي ظل شروط أسرية واجتماعية وثقافية وفكرية كرست لدى حاملتها اتجاهات فكرية واضحة وميولاً معرفية قوية، فالمؤلفة هي تاتيانا ابنة بيتر زينتشينكو أحد علماء النفس السوفييت المشهورين على النطاق العالمي والذين أسهموا في إرساء قواعد علم نفس جديد في الاتحاد السوفيتي السابق، وهي الشقيقة الصغرى لعالم النفس المعروف فلاديمير زينتشينكو الذي كان لجهوده الفضل في تطوير هذا العلم والتدليل على أهميته في أكثر من ميدان من ميادين العمل البشري المنتج.
يستعرض الكتاب عبر صفحاته الأولى تاريخ مشكلة الذاكرة في علم النفس العام والتجريبي والمعرفي والهندسي، ويتتبع من ثم التصورات الراهنة حول أنواع الذاكرة وتركيبها والوظائف التي تقوم بها العمليات الذاكرية، ويرصد في فصل لاحق نماذج الذاكرة القصيرة الأمد والذاكرة الطويلة الأمد في علم النفس المعرفي، وينظر، بعد ذلك، إلى صورة الذاكرة ويعدد أشكالها، ويتوقف عند النتائج التي انتهى إليها الباحثون لدى دراستهم للخرائط المعرفية وصلاتها بمشكلات علم نفس العمل وعلم النفس الهندسي، وينتهي بملاحق تشمل عرضاً تفصيلياً لبعض أدوات وطرائق دراسة الذاكرة.
وضم الكتاب بين طياته اثني عشر فصلاً تحت عناوين متعددة وهي: تاريخ تطور مشكلة الذاكرة في علم النفس، أنواع الذاكرة، آليات الذاكرة، نماذج الذاكرة القصيرة الأمد، نماذج الذاكرة الطويلة الأمد، الذاكرة والمعلومات، عمليات الذاكرة، تطور الذاكرة، صور الذاكرة، دراسة قوانين تشكل الخرائط المعرفية، المسائل المنهجية والطرائقية في دراسة الذاكرة، الطرائق التجريبية في دراسة الذاكرة.

مشكلة الذاكرة في علم النفس
تناول الفصل الأول «تاريخ تطور مشكلة الذاكرة في علم النفس»، فقد بقيت مسائل علم نفس الذاكرة التي حظيت بمعالجة تجريبية مبكرة في تاريخ تطور علم النفس لفترة طويلة مادة صدامات نظرية لمختلف التصورات، ولقد شغلت الذاكرة بين المسائل الأساسية لعلم النفس موقعاً متغايراً في صياغة النظرية السيكولوجية العامة، كما في علم النفس الترابطي، ولاحقاً في علم النفس السلوكي، مثلاً، وفي حالات أخرى كانت مسائل الإدراك في علم النفس الغشتالي، ومسائل التفكير في مدرسة وورتسبورغ السيكولوجية تلقي عليها بظلالها، وبصرف النظر عن هذا فإن تاريخ علم نفس الذاكرة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتاريخ العام لعلم النفس ويعكس مراحل تطوره الأساسية.

آليات الذاكرة
وجاء الفصل الثالث تحت عنوان «آليات الذاكرة» حيث تبرز مشكلة آليات الذاكرة في الدراسات المعاصرة للذاكرة بوصفها مشكلةً نفسيةً مركزيةً، وتحلّ هذه المشكلة على المستويات السيكولوجية والفيزيولوجية العصبية والكيمائية العصبية.
ولدى الحديث عن النظريات السكيولوجية في الذاكرة نشير إلى أن النظرية التي تتناول فعل الذات كعامل يقرر تشكل جميع عملياتها النفسية، ومن بينها عمليات الذاكرة، هي النظرية التي تحظى باعتراف كبير في العلم المعاصر، ووفقاً لهذا التصور فإن جريان عمليات حفظ المادة والاحتفاظ بها واسترجاعها إنما يتحدد بالمكانة التي تحتلها هذه المادة في نشاط الذات، وقد أمكن الوقوف والبرهنة التجريبية على أن العلاقات الأكثر نجاعةً تتشكل وتتفاعل في تلك الحالة التي تكون فيها المادة المعنية هدفاً للفعل.
وتتحدد مواصفات هذه العلاقات من مثل الثبات والقابلية للتغيّر «الحركية» والعملياتية، بدرجة مشاركة المادة المعنيّة في النشاط التالي للذات، وبأهمية تلك المواصفات على صعيد تحقيق الأهداف المرسومة.

تطوّر الذاكرة
وفي الفصل الثامن تناول لمشكلة تطور الذاكرة هي –حسب رأي ل.س. فيغوس العامل المركزي الذي تتمركز فيه سلسلة كاملة من المعارف النظرية والعملية حول الذاكرة، فالإنسان لا يملك عند الولادة ذاكرة «جاهزة»، ويحدث تطور الذاكرة بالصلة مع التطور العام للطفل، ففي الشهر الأول من الحياة تظهر لدى الطفل منعكسات شرطية تعزّز فيها الانطباعات الحسية الأولية والحركات الانفعالية التي لا تزال تتخذ مظهراً كلياً غير مجزأ، وفي نهاية النصف الثاني من العام الأول يظهر التعرف على أشكال الأشياء الغائبة واسترجاعها، وتبعاً لامتلاك الطفل مهارات المشي والكلام تشرع الذاكرة بالتطور بسرعة نتيجة اتساع التواصل الفعال للطفل بالأشياء والمعاشرة الكلامية مع الراشدين، ويتحقق الانتقال من الذاكرة الطفولية إلى الذاكرة الرشدية نتيجة التطور البيولوجي «ينضج قرن آمون في الدماغ الذي يشارك في تماسك الآثار، خلال عام أو عامين بعد الولادة»، والتطور المعرفي «تطور الكلام، بداية التعليم في المدرسة وغيرهما»، وهذا ما يخلق أساليب جديدة في تنظيم الخبرة.
ويمكن القول أخيراً إن الذاكرة «كالتخيل» ضرب خاص من ضروب خلجات الذكاء وعرض من أعراض إمكانية الكشف عنه، والذاكرة هي الذكاء الذي يبحث عن ذاته، أو الذكاء الذي يحتاج إلى «تنقية» ولكنها ليست في حال من الأحوال، هي الذكاء بذاته، وإن مقدار تطور الذكاء يحدد مقدار تطور الذاكرة، وليس العكس، فالإنسان حينما يفكر فإنه يتذكر بمقتضى الأسلوب الذي اعتاده في الواقع لربط الأشكال المختلفة للأشياء والجمع بينهما.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن