ثقافة وفن

التعليم العالي في مرحلة إعادة الإعمار … الصراعات العنيفة وتدمير البنى التحتية وهجرة الكفاءات

| أ. د. وائل معلا

من نافل القول أن إحدى المهام الأساسية للتعليم بشكل عام والتعليم العالي بشكل خاص بناء رأس المال البشري المؤهل للمشاركة الفاعلة في عملية البناء والتنمية المجتمعية بمختلف جوانبها الاقتصادية والفكرية والاجتماعية، والقضاء على الفقر، وترسيخ مبادئ الحاكمية والمواطنة. وتعدّ الجامعات خاصة ومؤسسات التعليم العالي عامة الأماكن التي فيها يتم بناء القدرات، وتأهيل الأطباء والمهندسين والمعلمين والإداريين الحكوميين وموظفي الخدمة المدنية، ومن ثم فإنه يقع على عاتقها توفير البيئة المناسبة لبناء القدرات اللازمة لعملية البناء والتنمية. إضافة إلى أن التعليم العالي المبني على أسس علمية متينة يمكن أن يتجاوز دوره بناء رأس المال البشري ليتعدّاه إلى الإسهام في الانتعاش الاقتصادي وبناء وطن الانتماء والسلام.

ويواجه قطاع التعليم العالي ومؤسساته في البلدان التي شهدت صراعات عنيفة وتلك التي تعاني منها، تحديات كبيرة ليس أقلها تدمير البنى التحتية والمنشآت التعليمية وهجرة الكفاءات والأدمغة وغيرها. ومن دون مواجهة هذه التحديات وتوفير حلول ناجعة لها تضمن توفير تعليم عال عالي الجودة -وهو مفتاح التنمية والمنافسة في اقتصاد المعرفة العالمي- لن تتمكن البلدان التي تتعافى من فترة الحروب والصراعات العنيفة من استئناف عملية البناء والتطوير والمضي قدما فيها، وتحسين الظروف المعيشية لمواطنيها، والانتقال بالمجتمع إلى مرحلة التنمية المستدامة.
وفي سورية، تعرّض قطاع التعليم العالي لأضرار بالغة نتيجة الأزمة التي عصفت بالبلاد منذ عام 2011. فقد عانت بعض كليات جامعة الفرات على سبيل المثال من صعوبات هائلة في تقديم خدماتها نتيجة وقوعها في مناطق ساخنة. وتعرّضت بعض المرافق التعليمية المهمة للدمار الكلي كمشفى الكندي بحلب الذي كان يعد صرحا مهماً للقطاعين الصحي والتعليمي على حد سواء. وبذلت الحكومة جهوداً كبيرة للتعامل مع الأزمة وتداعياتها على منظومة التعليم العالي فسمحت بنقل دوام وامتحانات طلاب بعض الجامعات إلى جامعات أخرى، كما وافقت على انتقال بعض الجامعات الخاصة التي تقع في مناطق غير آمنة إلى مقار مؤقتة داخل المدن الرئيسية. إلا أن هذه الإجراءات، وإن كان لها أثر إيجابي على ضمان استمرارية منظومة التعليم العالي، فقد كان لها أيضاً بعض الآثار السلبية: فالجامعات الحكومية الرئيسية تعاني أصلا من ضغط طلابي كبير، ونقل دوام وامتحانات طلاب بعض الجامعات الأخرى إليها حمّلها أعباء إضافية وفاقم مشكلة الضغط الطلابي الذي كانت الجامعات تعاني منه أصلاً. كما أن المقار المؤقتة التي انتقلت إليها الجامعات الخاصة في مراكز المدن لا تتوافر فيها بشكل كاف مستلزمات العملية التعليمية من مخابر وعيادات وغيرها وبما يضمن للطالب تأهيلاً وتدريباً عملياً مرضياً.
وهناك العديد من الآثار السلبية الأخرى للأزمة على العملية التعليمية كانخفاض نسبة دوام الطلاب في بعض الجامعات، وتعذر التقيّد بالتقويم الدراسي نظراً للصعوبات التي حالت دون وصول الطلاب إلى كلياتهم، وتراجع أداء الجامعات الخاصة التي انتقلت إلى مقار مؤقتة. ولعل أحد أهم الآثار السلبية للأزمة الراهنة هو «هجرة الأدمغة» بسبب سفر العديد من أعضاء الهيئة التعليمية في الجامعات للعمل في الخارج ما خلق نقصاً كبيراً في الخبرات العالية والكوادر المؤهلة للتدريس، وزيادة الأعباء التدريسية على الكوادر المتوافرة زيادة كبيرة على حساب الوقت المخصص للطالب والبحث العلمي.
تواجه الدول الخارجة من نزاعات وحروب بشكل عام تحديات هائلة على صعيد إعادة بناء ما دمرته الحرب من بنى تحتية وغيرها ما يجعلها تعتمد إلى حد ما على الدعم المقدم من الدول الصديقة والمنظمات الدولية المانحة. غير أنه، ووفقا لدراسات أعدّها عدد من الجهات الدولية المانحة، فإن إعادة بناء نظم ومؤسسات التعليم العالي في مجتمعات ما بعد النزاع لا تشكل أولوية لدى الجهات الفاعلة المحلية والدولية، ولا تبرز في التخطيط لمرحلة ما بعد انتهاء الصراع، على الرغم من أهمية الدور المنوط بالتعليم العالي.
وتتمثل الأولويات الرئيسية للجهات المانحة الخارجية في المساعدات الإنسانية، ومنع الصراعات، والتعليم الأساسي. أما الجهات المحلية، فغالبا ما تولي الأولوية لإرساء الأمن، وإعادة تأهيل البنى التحتية، ثم إلى تحسين سبل العيش والتعليم الأساسي.
وأشار تقرير صدر عام 2015 عن البنك الدولي بشأن التعليم في أوضاع ما بعد النزاع إلى وجود اتجاه بين المانحين والوكالات الدولية لتقديم الدعم للتعليم الأساسي مع إهمال التعليم العالي. فقد ذكر التقرير أن الكثير من موارد المجتمع الدولي توجّه نحو التعليم الأساسي، على حين تخصص السلطات المحلية مواردها الخاصة لتلبية احتياجات القطاعات الفرعية الأخرى. وقد أدى ذلك في بعض الحالات إلى انتعاش غير متوازن له تأثير سلبي مباشر على التنمية الاقتصادية والاجتماعية على المدى الطويل.
وعلى الرغم من أن التركيز الرئيسي للمجتمع الدولي في أوضاع ما بعد النزاع هو على التعليم الأساسي كجزء من الاستجابة الإنسانية، إلا أن الإنفاق الكلي على إعادة بناء قطاع التعليم -بما في ذلك التعليم الأساسي والثانوي والعالي- لم يتجاوز 2في المئة من إجمالي المساعدات الإنسانية.
وتجدر الإشارة إلى أن العديد من جامعات العالم بالإضافة إلى عدد من المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية، شارك في مشروعات تهدف إلى بناء القدرات وإعادة بناء مؤسسات التعليم العالي في البلدان الخارجة من النزاعات، إلا أن معظم هذه المبادرات كانت منعزلة، وصغيرة ومحدودة، وقصيرة الأجل، لا تندرج ضمن إستراتيجية بعيدة المدى أو إطار يأخذ بالحسبان الأثر البعيد المتوخى. وبالإضافة إلى ذلك، فقد غاب التنسيق وتقاسم الخبرات والتعاون بين هذه المؤسسات المانحة ما أدى إلى خفض فاعلية الدعم المقدم وهدر في الموارد.
وأكد تقرير أعدته منظمة اليونسكو عن التعليم ما بعد عام 2015، أنه في هذا العالم المعولم حيث تعدّ المعرفة محرّكاً رئيساً للنمو والتنمية الاجتماعية والاقتصادية وتحسين سبل العيش، تحتاج البلدان الخارجة من النزاعات العنيفة إلى دعم فوري وجوهري طويل الأمد لإعادة بناء وإصلاح نظم ومؤسسات التعليم العالي فيها.
وينبغي أن تكون مؤسسات التعليم العالي في البلدان التي تمر بمرحلة ما بعد الصراع قادرة على تطوير خريجي الجامعات الذين يمكن أن يسهموا في إعادة الإعمار والتنمية وإحلال السلام والاستقرار الدائمين.
وبصرف النظر عن دعم المانحين للتعليم الابتدائي والثانوي، فإن زيادة الدعم لإعادة بناء وإصلاح التعليم العالي في أوضاع ما بعد النزاع أمر أساسي لضمان وصول أكثر إنصافا إلى ظروف معيشية أفضل، وتوفير فرص عمل في مختلف التخصصات، وأجور أفضل، وصولاً إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة.
وتوصي دراسات أخرى على التركيز في المدى القصير على المساعدات المباشرة التي ترد من منظمات وجامعات خارجية. ويمكن لهذه المساعدات أن تكون على شكل برامج تعليمية تقدّمها مؤسسات تعليم عال خارجية في اختصاصات لا توفّرها القدرات المحلية، أو على صورة دعم البرامج القائمة باختصاصات معينة تحدّد بناء على دراسات معمّقة متأنية للواقع الراهن والاحتياجات المستقبلية.
أما بالنسبة للأجلين المتوسط والطويل فلا بد من الانتقال من التدخلات القصيرة الأجل إلى المساعدات المفيدة التي يمكن أن تساعد في إعادة بناء الهياكل الأساسية المادية والقدرات المؤسسية لقطاع التعليم العالي، كي يتسنى للجامعات في مرحلة ما بعد الصراع أن تكون قادرة على تأمين تعليم عالي الجودة لطلابها والاستغناء تدريجياً عن الاستعانة بالمساعدات الخارجية.
من المفيد جداً الاطلاع على تجارب الدول التي عانت من النزاعات والحروب ثم مرت بمرحلة إعادة إعمار لبناها التحتية ومؤسساتها. والغاية هنا ليس نسخ هذه التجارب فلكل دولة خصوصيتها وظروفها ومتطلباتها، بل الهدف الاستفادة من تلك التجارب اختصارا للوقت، وحفاظاً على الموارد، ووصولاً إلى الخيارات الأمثل، بعد القيام بعملية مسح للأضرار التي تعرضت لها كل القطاعات ووضع الخطط لمرحلة إعادة الإعمار. ويجب أن يسبق ذلك كله تطوير رؤية شاملة وخطط مستقبلية لكل قطاع من القطاعات الاقتصادية والخدمية تمثل الأهداف التي يجب أن يهيئ قطاع التعليم العالي الكوادر والقدرات البشرية اللازمة لتحقيقها. ويبقى السؤال الكبير الذي لا بد من طرحه هو: هل علينا العمل على إعادة الوضع في مؤسسات التعليم العالي إلى ما كان عليه قبل الأزمة أم إن هناك رؤية جديدة يجب السعي لتحقيقها؟ وللجواب على هذا السؤال لا بد من تشخيص كل العيوب التي عانت منها منظومة التعليم العالي قبل الأزمة، ورصد كل حسناتها ومثالبها، وبناء رؤية إستراتيجية جديدة واضحة توفر كل الجهود والإمكانات اللازمة لتحقيقها.
إن التعليم العالي هو مفتاح التنمية المستدامة البشرية والاقتصادية والاجتماعية، والأرضية اللازمة لدخول ميدان المنافسة في اقتصاد المعرفة العالمي؛ ومن ثم فإن هذا القطاع، شأنه شأن القطاع الاقتصادي والخدمي، لا بد من أن يولى أهمية بالغة يستحقها عن جدارة في مرحلة إعادة الإعمار، لا بل أن يكون واحدا من أولويات مرحلة إعادة البناء، نظراً للدور الحاسم الذي ينتظر منه أن يؤديه في تطوير المهارات وتحفيز الابتكارات التي تقوم على زاد معرفي نظري وعملي، وتشكّل أساساً للإنتاجية المستقبلية، ومولّداً لفرص العمل، وضامناً للقدرة التنافسية، وصولاً إلى مجتمع الاستدامة والاستقرار والرخاء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن