قضايا وآراء

«ثالثة الأثافي» السورية

| عبد المنعم علي عيسى

يعتبر الكاتب المختص بشؤون الإرهاب كولن كلارك في تحليل له نشرته مجلة «فورين بوليسي» الأميركية في الحادي عشر من هذا الشهر، ما وضعه مستشار الأمن القومي الأميركي الجنرال هربرت رايموند ماك ماستر خطة متكاملة، ويقول: إن محاربة داعش في سورية والعراق هو أمر يتطلب إقامة «حكم شرعي» وقوي في مناطق «السنة»، وفي هذا القول الأخير تكمن «ثالثة الأثافي» التي تحضّر لسورية.
إن ظاهر هذا القول، يبدو كأنه انتصار لفئة تراها واشنطن «مظلومة»، على حين إنه في العمق يهدف إلى إثارة الطائفية والمذهبية، بل إلى نسف العلمانية التي قالت أميركا إنها تريدها لسورية، والمهم: إن إثارة هذي المناخات ليس إلا مقدمة لقيام الفدرالية غير المركزية في سورية والعراق، وبمعنى آخر استنساخ نموذج كردستان العراق في سورية الذي أعلن رئيسه قبل أيام عن أن يوم الخامس من أيلول المقبل سيكون للاستفتاء على انفصال الإقليم عن الدولة الأم، على الرغم من أن الأمم المتحدة كانت قد أعلنت عن عدم مشاركتها فيه أو مراقبتها وصولاً إلى عدم الاعتراف بالنتائج التي ستترتب عليه، والطريف في الأمر أن الإدارة الأميركية قالت الشيء نفسه على الرغم مما يشوب هذا القول الأخير من تلال الريبة وجبال الشكوك.
ما يمكن استخلاصه مما سبق، هو أن واشنطن ترى أن وجود حكم «ضعيف» هو السبب المباشر أو الرحم الأمثل لاستيلاد ونمو التنظيمات المتطرفة، وصولاً إلى تمردها على حكوماتها لضرب الأمن والاستقرار في بلادها، والسؤال إذا ما كانت واشنطن ترى ذلك، وهي محقة في رؤياها، فلماذا أقدمت على إضعاف واستنزاف وحصار أنظمة الحكم القائمة في المنطقة؟ ألا يجعل هذا السلوك منها أباً روحياً لتلك التنظيمات؟
الإجابة هي بالتأكيد نعم، بل يضعها في مرتبة هي أعلى من ذلك أيضاً، والأمر في الحالة السورية هو أضعاف ما هو عليه في باقي دول المنطقة، الأمر الذي يمكن إيضاحه عبر ما قاله الرئيس السوري السابق شكري القوتلي للرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر عشية التوقيع على اتفاق الوحدة بين البلدين 22 شباط 1958: أنا أسلمك أربعة ملايين سوري، هم عدد البلاد آنذاك، نصفهم ممن يعتبر نفسه زعيماً سياسياً أو قائداً عظيماً أو سياسياً لا يشق له غبار، على حين النصف الآخر يعتبر نفسه من مرتبة الأنبياء والدعاة والصالحين الذين يمكن أن يعطوا للآخرين صكوك البراءة أو شهادات حسن السلوك.
يذكر بيان الخارجية الأميركية الذي أعلنه وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون في الخامس من الشهر الجاري إثر اجتماع للخارجية والبنتاغون ومجلس الأمن القومي في الثلاثين من حزيران المنصرم، أن المطلوب حالياً في سورية هو الاستقرار، وكأن الاستقرار لم يكن مطلوباً من ذي قبل، لأنه، يضيف البيان، ما لم يتحقق فإن من المرجح أن تشهد المراحل اللاحقة صعوداً جديداً لداعش بصور وأسماء مختلفة، وما سبق يعتبر تشخيصاً دقيقاً للحالة السورية وهو على الأرجح يأتي في أعقاب رؤية أميركية متولدة أخيراً بأن داعش وفروخها قد باتت خارج السيطرة تماماً ما بعد هزيمتها الكاملة في الموصل والمرتقبة في الرقة، وعليه فإن السياسات التي ينتهجها الرئيس الأميركي دونالد ترامب اليوم بعد ستة أشهر من وجوده في البيت الأبيض، باتت أشبه ما تكون بسياسات سلفه باراك أوباما لكن مع بعض التعديلات المهمة عليه، مثل أنها تتجنب مطالبة الرئيس بشار الأسد بالتنحي أو مطالبة الميليشيات الأجنبية بمغادرة الأراضي السورية.
هذه السياسات الأميركية قد تكون محل توافق مع الكثير من القوى الفاعلة في الأزمة السورية وخصوصاً روسيا، أما ما يعوقها فهو وجود اختلاف داخل الإدارة الأميركية بخصوصها لتنقسم هذي الأخيرة إلى تيارين مختلفين حول الآليات المتبعة للوصول إليها: الأول يرى أن المرحلة المقبلة يجب أن تشهد تقارباً أميركياً أكبر مع الروس، ومن دعاته مدير البيت الأبيض رينس بريبوس وصهر الرئيس غاريد كوشنار وكذلك مستشار الأمن القومي الأميركي ماك ماستر، أما التيار الثاني فهو يرى أن تقارباً مع روسيا من شأنه أن يؤدي إلى «تثقيل» الوزن النوعي الروسي في المنطقة، وما يزيد من حدة الشرخ بين التيارين هو تلك المعضلة المشتركة بينهما التي لم يستطع أي منهما الإجابة عنها: إلى أين يمكن لموسكو أن تصل في مدى دفاعها عن النظام السوري؟ وفي هذا السياق قامت واشنطن بإطلاق العشرات من بوالين الاختبار لتحديد، أو مقاربة، ذلك المدى، لكن من دون جدوى ولربما كان أهمها هو آخرها عبر محاولات واشنطن استعادة مناخات آب 2013 في الفترة الأخيرة التي سبقت لقاء هامبورغ بين الرئيسين الأميركي والروسي في السابع من الشهر الجاري لمعرفة رد فعل موسكو الذي تقرؤه الدبلوماسبة الأميركية بطرق «ما تحت إيمائية» تلك التي لا يدركها الخطأ إطلاقاً، على حين نرى أن التيارين متحدان في وجوب حصول فك ارتباط روسي إيراني في سورية من شأنه أن يؤدي إلى إضعاف نظام دمشق أولاً وإلى تضعضع الباقين ثانياً.
لم ينجح «أستانة 5« المنعقد بين 4-5 من الشهر الجاري، كما لم ينجح «جنيف 7» المنعقد بين 10-14 من الشهر نفسه، إلا أن التوافقات الخارجية تبدو وكأنها غير قادرة على الانتظار لحين حدوث توافق سوري سوري قد لا يأتي، واليوم نحن على الأرجح أمام توافق أميركي غربي من جهة، وروسي من جهة أخرى، وهو سيكون نافذاً بحكم الأمر الواقع، ويقوم على تقسيم سورية إلى أربع مناطق: الأولى منطقة سيطرة الحكومة السورية التي تضم أغلبية المدن الكبرى وثلثي إجمالي السكان وهي تقع غرب البلاد وصولاً إلى جنوبيها الغربي، الثانية منطقة إدلب التي تسيطر عليها جبهة النصرة من 28 آذار 2015، وهذي المنطقة قد تشهد انتشاراً لقوات روسية أو تركية أو كلاهما معاً، الثالثة منطقة شمالي شرقي البلاد التي تضم مدن الحسكة والرقة ودير الزور وهي في معظمها تقع تحت سيطرة قوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) المدعوم أميركيا، الرابعة منطقة أقصى جنوبي البلاد وتضم القنيطرة مع جزء من مرتفعات الجولان السورية وصولاً إلى محاذاة الحدود السورية الأردنية لتشمل مساحات واسعة من ريف درعا.
هذا التقسيم قد يصبح أمراً واقعاً وخصوصاً أن أصحابه يسوقون لرؤية تقول إن من شأنه أن يؤدي إلى إضعاف مفاعيل العنف والإرهاب وتحقيق قدر أكبر من الأمن والاستقرار، وبمعنى آخر فإنه، أي التقسيم، يساعد في الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية، إلا أن الجدوى المستحصلة من هذا الفعل تتوقف وإلى حد بعيد على طبيعة النيات التي يضمرها الأطراف المتفقون عليه، وإذا كان من المؤكد أن النيات الأميركية هي فوق الشبهات سلباً، إلا أنه لا يمكن الوثوق بآخرين تماماً كالروس، على الرغم من الدعم الذي قدموه، ويقدمونه، إلى الآن للبلاد وللجيش ولكيان الدولة.
من يتابع تاريخ المنطقة الحديث وكيف تشكلت الدول القطرية في المنطقة في أعقاب استقلالها عن الاستعمار المباشر مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، فسيرى أن هذا الأخير «الاستعمار» أو ما سمي لاحقاً النظام العالمي، قد استطاع ربط تلك الدول وإدخالها ضمن نظامه، الأمر الذي دفع بكل منها للبحث عن تكاملها مع ذلك النظام وفي الآن ذاته تباعدها مع دول الجوار ومحيطها الأبعد، وفيما بعد أخذ تراكم الأحداث بمرور الوقت يعطي حيثية معينة لكل دولة على حدة، وبمعنى آخر فإنه أدى إلى خلق إيديولوجيا خاصة، فالإيديولوجية السورية مثلاً قامت على محاربة الاستعمار وعلى حلم الوحدة العربية، على حين إن الإيديولوجية المصرية قامت على تسويق التجربة الناصرية القومية، أما نظيرتهما الليبية فقد قامت على تسويق رؤية الزعيم الأوحد في الكتاب الأخضر، ونحن هنا إذ نطرح هذه الأمثلة الثلاثة تحديداً فذلك لأن هذه الدول سبق أن جمعها في عام 1971 مشروع قيام وحدة ثلاثية لم يكتب لها النجاح، وفي مرحلة لاحقة أو هي مبكرة أيضاً قامت مراكز التاريخ بكتابة تاريخ كل بلد من البلدان وتمجيد بطولاته بعيداً عن الآخرين، ويقول الضابط البريطاني جون باغوت غلوب، والمعروف بـ«غلوب باشا»، إن أول أمر قام به بعد تأسيس الجيش في إمارة شرق الأردن هو كتابة تاريخ خاص بها.
ما نريد قوله هنا: إن التقسيم المقترح لن يكون بعيداً عن مسارات كهذه، وخصوصاً بوجود حالة دفع خارجية قصوى، والأهم أن كل منطقة من المناطق سيكون لها تحالفاتها ولها خصومها، ولذا لن يكون من الصعب عليها المرور بتكامل المراحل السابقة التي مرت بها الدولة القطرية إلى أن تكاملت وأضحت كياناً ذا حدود معترف بها دولياً وجيش واقتصاد خاصين.
ما فعله الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب 1990-1994 ومن ثم الرئيس جورج بوش الابن 2001-2009 في المنطقة، كان أهون بكثير مما فعله أوباما 2009-2017، فالأولان قادا جيوشاً ودمرا بلداناً على رؤوس شعوبها، أما الأخير فقد عمل على إحداث اختراق نوعي في المنطقة، دافعاً بها نحو التأجيج والاحتراق، والحطب اللازم لتمام العملية أبناؤها وقواها السياسية وتياراتها، وفي الحالة الأولى كانت الجبهات الداخلية التي تتعرض لخطر خارجي إلى حد ما متماسكة وإذا ما غرد جزء منها خارج السرب فهو سيكون نشازاً وليس أكثر، أما في الحالة الثانية فقد كانت تلك الجبهات تعيش حالة تفكك وانهيار وصولاً إلى اقتتالها الداخلي بينها وهو لم يلبث أن تبدى منذ بدء الإعلان عن هبوب رياح «أوباما» الربيعية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن