قضايا وآراء

«مازوخية» الزمن النفطي المتبقي

| عبد المعين زريق 

مرة أخرى تنساق الأحداث العبثية وترجع الذكريات القاسية التي لا تنسى، حيث يحتاج بعض العقلاء إلى الصراخ بصوت عالٍ للتذكير بما مضى وإعادة رسم الواقع وعقلنته من عبثه وكارثيته الرهيبة.
انبرت في تموز 2006 بعض القيادات السعودية ومن خلفها أصوات مساندة لتتهم المقاومة في لبنان أنها مغامرة، ويجب أن تتحمل نتائج تهورها في خطف الجنود الإسرائيليين للمطالبة بصفقات تبادل أسرى، ثم لتلوم فيما بعد الرئيس بشار الأسد لأنه عبر عن موقفهم المتخاذل بأنه مواقف «أنصاف رجال».
أثبتت الأحداث والأدلة الدامغة وبراهين وثائق ويكليكيس التي نشرت خلال العقد الأخير، أن هذه القيادات النفطية إنما كانت متواطئة ومتآمرة مع قوات الكيان الصهيوني في عدوانه على لبنان بقصد سحق المقاومة وإبادة حزب الله والقضاء على الجذوة الحية في الأمة، وكما بدا لاحقا أن «إسرائيل» كانت الأداة المنفذة، وأن ثمة رغبات كثيرة من أميركا وبعض الدول العربية كانت تطالب قوات الكيان الإسرائيلي بالاستمرار وتكملة المهمة في القضاء المبرم على المقاومة، على حين سرعان ما بدأ تردد الحكومة الإسرائيلية وقيادتها العسكرية مع تجاوز العدوان الشهر دون أن يحقق أهدافه، ولتثبت تقارير التحقيق الصهيونية ذاتها، أن المهمة أخفقت وأن المقاومة انتصرت.
الآن يجب أن يصرخ كل عقلاء العرب والمسلمين بأصوات مدوية وهمم وثابة لا تلين، وتشير الأصبع بجرأة نحو القيادات في السعودية وملحقاتها في المنطقة، وإلى الدول التابعة لها والموافقة على سياساتها أو التي تسير في ركبها بفعل شراء الذمم والولاءات والمواقف بالمال والبترودولار. يجب على عقلاء العرب والمسلمين تنبيه هذه القيادات المغامرة والمقامرة والمتهورة والطائشة، بأنها تقوم بتبذير أموال الشعوب بشكل صبياني غير مسؤول وغير مسبوق، فتقبل طواعية الصفقات والابتزاز الأميركي الذي فرضته سياسة الكاوبوي المهووس المسماة «حلب الأبقار قبل سلخها» والتي أعلنها ترامب في حملته الانتخابية جهاراً نهاراً.
الشيء الصادم الذي يبلغ حد الفجيعة أن تغطى عمليات النهب والتبذير هذه بأكبر احتفالية مهرجانية عربية إسلامية أقيمت للغازي الناهب الوقح، أحبت فيها قيادات السعودية إظهار وجهها الحضاري بالتعامل مع النساء الأجنبيات والحماة الأميركيين، فمورست طقوس «العرضة» والرقص بالسيوف والتمايل على أنغام حداء يشبه مآتم أهالي الجزيرة العربية وهم يشاهدون مستقبل أولادهم يصيبه العطالة والجهل والبطالة، مقابل توفير مئات آلاف الوظائف وفرص العمل للأميركيين، وزغردت بها تغريدات ترامب المنتشية بأعظم عملية غزو ونهب حدثت في التاريخ، كانت في يوم وليلة وبقيمة نصف تريليون دولار، وعلى جميع المصطفين في الصورة الفوتوغرافية الجامعة من «قواد» نفطيين وعرب وإسلاميين حاضرين بأمر جلب أميركي أو طمعاً ببعض عظام هذه الغزوة المباركة من أموال الأمة وممتلكاتها، الابتسام والظهور بوجوه سعيدة هاشة باشة لكيلا يفسدوا المشهد ويظهروا خللاً أو نشازاً ما يسجله التاريخ، ولا بأس أن تختتم هذه «المازوخية» المؤلمة بالوقوف حول محفل مظلم تنيره كرة مضاءة واحدة أشبه بمحافل الماسون.
نصف تريليون دولار كانت كفيلة لو وزعت على أقطار الأمة أن تخلق تنمية بشرية وتساعد على تحسين البنية الأساسية للعالم العربي، ولخلقت قوة ناعمةً لا تضاهى للقيادة «الحكيمة» للمملكة السعودية التي طالما تباهت بأنها مملكة للإنسانية وأن ملوكها خدام للأماكن المقدسة، قبل أن نصحو ونجد أن الضرائب تزداد على الراغبين في أداء المناسك من حج وعمرة خلافاً لضرائب على المقيمين والعاملين وسكان المملكة.
إن ما جرى ويجري في الخليج ومحميات النفط والغاز المسال، ليس سهلاً وتقريباً يماثل، مع الفارق، في كارثيته وعبثه، ما أصاب سورية من تهديم وتخريب، فما جرى لسورية خلال السنوات العجاف السابقة من تكاليف باهظة نتيجة رفضها المشروعات القادمة المشبوهة من أخونة المنطقة والانضمام للركب الأميركي في المنطقة و«تبويس الشوارب» ونسيان ما مضى مع «إسرائيل» والتطبيع معها، فكلُّ كُلف التخريب والدمار السابقة في سورية تقدر بما يقارب مئة مليار دولار، ثم جاء ترامب بيوم وليلة أخذ خمسة أضعافها من السعودية فقط، ورقص مع قواد المملكة رقصة السيف والعرضة، وخطب بهم عن بعبع إيران المخيف.
ترامب ما زال موعوداً بمبالغ مماثلة من مشيخة قطر، وكأن السعودية، ولاحقاً قطر، قد تهدمت مثل سورية خمس مرات بيوم وليلة فقط، والفارق أن السوريين لم ولن يرقصوا مع الأميركي بالسيف ولن يدعوا الصهاينة إلى احتفالات مثل الجنادرية وفلكلورات الدوحة وأسواقها، بل يعرفون كيف يجعلون الأميركي والصهيوني يرقصان على جمر المقاومة والاستنزاف الطويل، وأميركا تعرف من هم أعداؤها الحقيقيون في المنطقة القادرون على الوصول لرقبتها وقواتها ومصالحها وأساطيلها بكل وقت ويجعلونها «تضبضب» أغراضها بيوم وليلة ما فيها ضو قمر.
إن ما تورده الكثير من التقارير الصحفية والتحقيقات الأجنبية من تسريبات لمعلومات في غاية الدقة عن دور مثبت لدول النفط العربي في تمويل الإرهاب العالمي والإسلامي، وبشكل خاص الإمارات والسعودية وقطر، إضافة لدورها في تمويل شركة «بلاك ووتر» ودورها القذر في أماكن متفرقة من العالم، ليصل دوره في دعم حركة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، بحيث تبدو الدول النفطية الصاعدة بقوة النفط والغاز ممولةً لكل أهداف مشاريع أميركا في المنطقة، وهاهي أميركا تخضع دول الخليج لبازار مزايدات للحصول على وكالتها الحصرية في المنطقة، يبدو أنها وقعت على المحمدين، ابن زايد وابن سلمان، بانتظار قادمين جدد ومبالغ مالية أكبر، وليأتي كاوبوي جديد وبازار جديد لبيع الأبقار وسلخها هذه المرة والمدعون كلهم من الأغراب أصدقاء الأمس القريب.
وزير ألماني وفي خطاب لافت وذي دلالة ذكر أن العرب يشكلون 5 بالمئة من سكان العالم وأنهم يستهلكون 40 بالمئة من السلاح العالمي وأنهم يشكلون 60 بالمئة من اللاجئين في العالم، وأن المملكة السعودية هي ثاني أكبر مستورد أسلحة في العالم، وأن دولة صغيرة بحجم حي صغير مثل دولة قطر تستورد صفقات بعشرات الطائرات الحربية الأميركية، تحتاج سماء أكبر من قطر وتحتاج لقدرات بشرية لاستخدامها قد تعجز عنها كبرى الدول.
هذه الأسلحة لا تستخدم إلا في تأجيج كرات النار والأحقاد الطائفية والمذهبية في محيط المملكة، ويحار المتبصر كيف أن هذه القيادات الشابة المغامرة والمقامرة قد وصلت لاستنتاج أنها عندما تشعل الحرائق في كامل محيطها وفي بلدان جيرانها، العراق، سورية، اليمن، قطر، إيران، أنها ستظل في وسط هذه الحرائق والحروب المدمرة آمنة مطمئنة، وأنها بذلك لا تزرع الأحقاد في الأجيال القادمة وأنها فقدت شرعيتها الدينية والأخلاقية التي أضحت رقيقة مثل «بشوت الأمراء» لا تستر أجساد البشر، ولا تقيهم من برد أو حر.
وما زالت تصدر لنا صور الضحايا المجندلين من عرب ومسلمين في سورية والعراق وليبيا واليمن في حروب عبثية غزتها أموال النفط اللعين، وكذلك صور التدمير والتخريب المرافق إضافة إلى كل أنواع المآسي من تهجير ونزوح، وأطفال مرضى كوليرا ومجاعات في دول الجوار التاريخي لدول النفط.
مازوخية وذل وانبطاح وتظاهر بالفرح والنشوة والسعادة أمام الغرباء الغزاة، في مقابل تجبر وغطرسة وسادية إجرامية يمارسونها أمام الأخ الجار والقريب الشقيق! «أم على قلوب أقفالها»؟!
«قوّادٌ» كهؤلاء وتبذيرٌ لمقدراتِ الأمةِ كهذا، يحتاجُ إلى حجْرٍ شعبي عاجلٍ عليهم بسبب السفه وفقدان الشرعية والمسؤولية، وإلاّ فستلومنا الأجيال وسيحاسبنا التاريخ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن