من دفتر الوطن

ساذج وعنيد

| وضاح عبد ربه

أعترف مسبقاً أني ساذج، وخاصة تجاه مهنة الصحافة التي رغم انهيار مبادئها وأخلاقها ومفهومها، إلا أني – وبسبب سذاجتي- مازلت أعتبرها من أنبل المهن وأكثرها مهنية وأخلاقاً، ولن أستسلم، ومستمر في قناعاتي كما هي حتى إشعار آخر.
في منتصف الثمانينيات كنت لا أزال طالباً يبحث عن مستقبل ما في دولة ما، وكنت وبحكم عمل الوالد رحمه الله في مجلة المستقبل بباريس، أجالس كبار الصحفيين اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين ومن مختلف الجنسيات العربية. كان الهم آنذاك «لبنان» والهم الأكبر فلسطين، وكان الحديث السائد بين الإعلاميين الكبار ذاك الانهيار الذي أصاب الإعلام العربي! والكلام في الثمانينيّات كان زمن بداية ضخ البترودولار في شرايين الإعلام العربي المهاجر وفي شرايين بعض الكتاب والصحفيين. ففلان يكتب لمصلحة صدام حسين وآخر لمصلحة فهد بن عبد العزيز ومنهم لمصلحة القذافي، وكلما نشر مقال، تهافت الجميع لمعرفة من يقف خلفه وأهدافه وكم قبض فلان ثمناً له!
كل الدول والأنظمة العربية كانت تمول الإعلام والإعلاميين باستثناء سورية، كان معروفاً أنها «لا تدفع» وكانت تحظى باحترام أغلبية وسائل الإعلام والإعلاميين لمواقفها وليس لمالها، إلا ممن كانوا يتقاضون مالاً لشتمها وكانوا مكشوفين بطبيعة الحال.
مرت السنون وانتهى بي المطاف والمصير للعمل كصحفي في سورية، أي في الدولة التي «لا تدفع»، لم يزعجني الأمر يوماً، فكنت مقتنعاً وعلى الدوام – لا تنسوا موضوع السذاجة- أن الإعلام لا يحتاج إلى مال بل يحتاج إلى قراء، وأن الإعلاميين ليسوا موظفين عند أي جهة كانت، بل صناع رأي عام، وأن العمل الجاد لا بد أن يثمر إن لم يكن مالاً فأقله محبة واحترام القارئ..
حين تسلمت إدارة مجلة «الشهر» مطلع عام ١٩٩٧، كان لا بد من تمويل لها، وبما أن سورية دولة لا تدفع، بدأت ألهث بحثاً عن تمويل عربي، لكن كتاباتي وكتابات صحفيي «الشهر»، حالنا حال كل من يقف مع المقاومة، لم تكن موضع إعجاب القادة والزعماء والممولين العرب، وبعد رحلة بحث طويلة وبمساعدة صديق حصلت على تمويل يكفي تكاليف صدور المجلة فقط، وقلت: الحمد الله، معتبراً أن القناعة كنز لا يفنى وأن كل دخل إضافي سيكون لمصلحتي ومصلحة الزملاء في المجلة!
عملت لسنوات بجد وتعب وبقناعة لم تتبدل يوماً، وكلما نشرت مقالاً، انهالت عليّ الهواتف لمعرفة إن كان المقال المنشور بتوجيه أم لا! وكنت أحلف على كل الكتب الدينية أن المقال يعبر عن رأيي الشخصي فقط، لكن، كل من سأل اعتبرني «كذاباً» من الطراز الرفيع. كتبت مئات المقالات ووصل بي الحال أن أكتب في أغلبية الأوقات من دون اسم وتوقيع لأتفادى الأسئلة، ومع مرور السنين ونتيجة العمل والمتابعة اليومية، تبين لي أن ما كان سارياً في باريس من انحطاط للمهنة سارٍ أيضاً في سورية، صحيح أنه لا يوجد دولة تمول الإعلام والإعلاميين في بلدنا، لكن يوجد رجال أعمال بمنزلة دول وأنظمة يوجهون بعض الصحفيين للكتابة كما تقتضي مصالحهم.. واكتشفت أيضاً أن هناك وزراء ومديرين عامين يوظفون صحفيين ويجعلون منهم ناطقين باسم سيادتهم وثمة آخرون يوظفون جيشاً مما يسمى الناشطين لبث الشائعات والأخبار الكاذبة وتلفيق التهم بما يخدمهم ويضع حداً لأي منافس محتمل لهم، وهؤلاء الناشطون يسمون أنفسهم أيضاً صحفيين ومنهم من تجاوز لقب الصحفي وأصبح يطلق على نفسه لقب: إعلامي! اكتشافاتي لم تنته عند هذا الحد – على اعتبار أني مكتشف كبير- وخاصة خلال الحرب، وعلى سبيل المثال لا الحصر تبين لي أن بائع أجنحة في معارض كانت تقام محلياً، عمله ينحصر في زيارة الشركات لإقناعهم بالمشاركة وشراء المساحات حاملاً خرائط المعرض ولائحة الأسعار، تحول بين ليلة وضحاها، وأصبح «محللاً سياسياً» وهو ينظّر علينا يومياً وعلى محطات التلفزة كافة بسبل حل الأزمة ودحر الإرهاب، ويزوّدنا بخفايا وخلفيات المواقف الروسية والأميركية والإيرانية والسعودية وحتى الفليبينية والسنغافورية، وإذا كان المحاور «شاطراً» وذهب في الحوار معه إلى ما أبعد من الحرب على سورية، يمكن للمحلل هذا أن يكشف للجمهور السوري والعربي أسباب هبوط وصعود بورصات وول ستريت وطوكيو وباريس ولندن ويقدم شرحاً وافياً عن الناسداك والداو جونز، فهو ليس فقط محللاً سياسياً وكاتباً وإعلامياً كما يطلق على نفسه من ألقاب، بل – ويخزي العين- مثل الزبدية «الصيني» يرن من حيث ينقر، وفهيم بكل الأمور حتى في فنون الطبخ والأبراج! وعرفت أيضاً أن في سورية وحصراً في سورية دون سواها، يمكن لأي شخص – ولا يهم إن كان على اطلاع أو غير مطلع وإن كان عاملاً في الشأن العام أو الخاص أو حتى عاطلاً من العمل- أن يكتب عشر كلمات على مواقع التواصل الاجتماعي، فيصبح مصدراً للخبر، ونفي ما نشره يستغرق أياماً وجهد عشرات الأشخاص!
ولأني إضافة إلى السذاجة أتمتع بصفة العناد، رفضت أن اعتبر أن ما يحصل في سورية هو انهيار للإعلام كما حصل مع الصحافة العربية المهاجرة في أوروبا في الثمانينيات، وأعتبر حتى الآن أن كل ما يحصل ليس سوى مرحلة عابرة ناتجة عن أمراض نفسية لدى البعض وصراعات داخلية بين المسؤولين، وأن سورية لا تزال بخير وما نشهده ليس حالة عامة، وإنما عابرة بكل تأكيد، وبقيت على قناعاتي ولم ولن أغيرها.. لكن منذ أيام التقيت صديقاً دبلوماسياً عربياً، وكان يسألني عن حال الصحافة والإعلام في سورية، وكنت أجيب بما أملكه من معلومات، وفجأة قاطعني وقال لي: ألا تملك عملاً آخر غير الصحافة؟ قلت له: لا والله فأنا لا أعرف أي مهنة غيرها.. فوجئ الرجل وقال لي: ما بيجوز يا رجل، الصحافة ما بتطعمي خبز وأنت عندك علاقات كبيرة لازم تستثمرها وتبلش أي بيزنس وتستفيد!
نظرت إليه ولم أعرف بماذا أجيب! بيزنس!! وفي سورية!! استغفرت رب العالمين وانصرفت عن اللقاء وأنا أردد داخلي: إذا كان الكثير يعتبر أن الثمانينيات عصر انهيار الإعلام العربي، ترى بماذا نصف هذا العصر؟
فقط للمعلومة: عند عودتي إلى سورية من فرنسا عام ١٩٩٢ حاولت أن أكون بيزنس مان.. وهذه قصة ثانية سأرويها يوماً، لكن من بين اكتشافاتي الكبرى أني لا أصلح لهذه المهنة بتاتاً وحتماً ليس في سورية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن