قضايا وآراء

خطأ الحسابات الكردية خسائر بالجملة

| عبد المنعم علي عيسى

يقول التاريخ الكردي الحديث إن الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك استطاع بعد النجاحات العسكرية التي حققها ضد خصومه الأوروبيين أن يفرض عليهم اتفاقية لوزان عام 1923 التي خلت من أي إشارة أو تلميح لقيام دولة كردية في المنطقة بعكس ما كان الأمر عليه في اتفاقية سيفر 1920.
وبعد لوزان، عاش الأكراد في أماكن وجودهم في إيران والعراق وسورية وتركيا، وكان واقعهم السياسي كحال الواقع السياسي السائد في المنطقة، مأزوم، لكنه كان عند الأكراد بدرجة أكبر بالتأكيد، وفي الغضون كانت المناطق التي تسكنها أغلبية كردية محكومة بالعائلية الإقطاعية التي لا هم لها سوى توريث أبنائها إقطاعات أكبر، وعندما بدأ الحراك السياسي الكردي يتبلور في العراق تحديداً، تمركز بين تيارين اثنين كان الأول «البرزانية» نقيضاً للثاني «الطالبانية».
هذه الثنائية، لم تكن في أي حال من الأحوال مهتمة بالهموم الوطنية بل على العكس فإنها مارست سلوكا سياسيا هو في كثير من الأحيان مدمر للقضية المركزية الكردية، فقد عمل كل من القطبين على الاستقواء بالخارج على القطب الآخر، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد أضحى هذا الخارج معروفا لديهم على أنه أي قوة قادرة على أن تحقق أهدافهم حتى لو كانت تلك القوة هي ألد أعداء محيطها العربي، وبعد أن قام الحكم الذاتي الموسع للأكراد في أعقاب عاصفة الصحراء 1991، عملت حكومة الإقليم على الاستعانة بالخبرات والأجهزة والسياسات الإسرائيلية بالدرجة الأولى انطلاقا من أن تل أبيب هي وحدها من يملك مفاتيح القرار في واشنطن وبمعنى آخر فإن العلاقة مع إسرائيل هي وحدها الكفيلة بتقريب حلم الدولة الكردية.
وفي سورية عمل الأكراد منذ تأجيج الأزمة، على اكتساب صفتين أساسيتين أرادوا أن يمنحهما المحيط العربي لهم، الأولى هي أن يوصفهم ذلك المحيط على أنهم حماة الحدود الشرقية والشمالية الشرقية للبلاد ضد أي خطر خارجي، والثانية هي أن يوصفوا بالحفاظ على استقلال ولو نسبياً في القرار السياسي، ولربما استطاع زخم الحراك الكردي الناهض في وجه المخاطر الداخلية والخارجية في آن واحد، أن يتمتع بقدر كبير من ذينك الوصفين لكن إلى حين، وكان ذلك قبيل أن يتغلغل الأميركيون داخل النسيج المجتمعي الكردي فيقوموا بسرقة قراره عبر الدفع نحو تشكيل «قوات سورية الديمقراطية – قسد» في تشرين الثاني 2015، وكان الخطاب الأميركي المسوق للأكراد من فم لأذن، لا عبر الإعلام أو البرقيات أو الوثائق، يقوم على أمرين اثنين أُريد إقناع الأكراد السوريين بهما: الأول هو أن قوات «قسد» هي غير باقي الميليشيات المسلحة، والرمز هنا يشمل الجيش السوري أيضاً، وهي قادرة على الدفاع عن مناطقها وحمايتها لأنها تتمتع بتدريب وتسليح جيدين، والثاني هو أن هذه الفرصة الحالية ماسية وليست ذهبية فحسب، وهي لن تتكرر أبداً ولذا يجب عليهم اقتناصها استناداً إلى الظهير الأميركي الشديد القوة.
أدت الاستجابة الكردية للتوجيه الأميركي إلى تغليب النزعة الانفصالية لدى الأكراد على الخيار الوطني، تحت سقف الجغرافية والتاريخ السوريين، وهذه الحالة أخذت تنمو وتتضح بشكل يومي، تبعاً لممارسات أو تصريحات أو أفعال، ما أدى إلى ارتياب المحيط العربي بالنيات الكردية، وهو ارتياب مبرر ولا أدل على صدقيته من أن الخطاب السياسي الكردي الذي تديره قيادة جبال قنديل في شمال العراق، كان قد أوعز تلك الريبة العربية إلى نقص معرفي عربي بالكاريزما الكردية، وهذا النقص، كما يقول الخطاب، هو الذي أدى إلى اعتقاد ذلك المحيط، أن الأكراد هم مكون غريب ولا يمكن لأحد التنبؤ بخطواته المقبلة أو الأهداف التي يرمي إليها، وهذا التبرير واضح أنه في غاية الهشاشة فلا المحيط العربي بناقص المعرفة بالكاريزما الكردية التي عايشها على امتداد قرون بل بات منصهراً فيها، ولا قول ذلك المحيط إن المكون الكردي هو مكون غريب يرمي إلى توصيف الوضع الكردي بالنشاز، إنما أريد من خلال ذلك القول بأن ما يفعله الأكراد الآن ليس نابعاً من الثقافة أو الذات الجماعية أو منظومة القيم والأخلاق المعتمدة، لأن القرار هنا مسروق، والأكراد منساقون تماماً للأميركيين، ولربما يمكن إعطاء دليل ناصع على ذلك الانسياق عبر عدم مشاركة الأكراد في معركة تحرير الموصل «حتى ولو كان مشاركة رمزية» والتي أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي تحريرها بشكل كامل في العاشر من تموز الجاري.
اليوم بات من الواضح أن الكثير من القوى السياسية الكردية الفاعلة تنسج على منوال تيودور هرتزل عبر القول: إن كل أرض تصلها قدم كردية هي أرض كردية، وعلى هذا الأساس بدأت عمليات نفض التاريخ داخل النسيج المجتمعي الكردي، وسطرت العديد من أحداثه وصولاً إلى بناء أيديولوجيا جديدة تمهد لمرحلة يرون أنها ستحمل إليهم دولة كردستان على طبق من ذهب، وفي مطلق الأحوال فإن المنطق الكردي في العمق ينطلق، في هذه الممارسات، على قاعدة «الغريق لا يخشى من البلل» فالأكراد باتوا مستعدين دوماً لخسائر بالجملة، وتاريخ صراعهم من أجل البقاء مملوء بالانهيارات والنكسات التي كان آخرها توقيع اتفاق سلام مع الحكومة التركية ربيع عام 2013 الذي كان يعتبر لعبة «كاش» خسروا فيها كل رصيدهم على الطاولة، إذ سرعان ما انقلب رجب طيب أردوغان على ذلك الاتفاق بمجرد تغير الظروف الإقليمية التي أضحت لمصلحته.
على مدى قرن كامل لم يستطع الأكراد أن يكونوا رقماً إقليمياً ذا وزن حقيقي في المعادلات القائمة إلا عندما أطلق زعيم حزب العمال الكردستاني عبد اللـه أوجلان العمل المسلح ضد تركيا في عام 1984، كان ذلك التوهج قد خبا سريعاً بفعل عوامل عديدة وخصوصاً بعد اعتقال أوجلان شباط 1999 وإيداعه سجن إيميرالي في بحر مرمرة، وعدا ذلك كان الأكراد يتخذون وضعية المتململ الذي يكاد ينفجر انتظاراً لكي يأتي من يمنحهم ذلك الدور ثانية، إلى أن جاء التقارب الأميركي الأخير معهم والذي يرونه بالتأكيد كفيلاً بالقيام بهذه المهمة ما أدى إلى انفتاح العين الكردية التي ترى واشنطن وإغلاق الأخرى التي ترى كل الباقين.
ألم ينس الأكراد سريعاً أن المساعدة الإيرانية في أيلول 2014 هي التي حالت دون سقوط عاصمتهم أربيل بيد داعش؟ ألم تقف واشنطن متفرجة إزاء ذلك التهديد؟ ثم ألا يستحق الحدث التوقف عنده لمراجعة الحسابات مما لا نراه حاصلاً لدى الأكراد راهناً؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن