ثقافة وفن

غورو ودخوله إلى دمشق .. ماذا فعل الوجهاء صوناً لأعراضهم وحماية لمدينتهم الخالدة؟

| غفران الناشف

هناك قول درج على ألسنة كثير من الناس، وهو أنه عندما دخل الجنرال غورو دمشق في أيلول عام 1920، وعند مدخل سوق الحميدية الغربي، جاء أعيان دمشق، ففكوا الخيل من عربته، وجرّوا العربة عوضاً عن الخيل، بالحقيقة هذا القول يشبه من يقرأ الآية الكريمة: (ولا تقربوا الصلاة..) ويتوقف عندها.
فقد ذكر لي حفيد أحد المجاهدين ممن قاتلوا في ميسلون، وجاهد الفرنسيين بالثورة، أن جده قال له: إن غورو أنذر أهل دمشق بعد ما فرض الغرامات المالية الكبيرة عليهم، وتسليم الأسلحة (آلاف البنادق) وإن لم يفعلوا ما يأمرهم به من فك الخيل وجر عربته، فإنه سيفتح المدينة لجنوده ثلاثة أيام، يفتكون بأهلها ويسبون نساءها، وينهبون ما تصل أيديهم إليه، فيدمرون دمشق تدميراً، ويجعلونها خراباً، كما فعل تيمورلنك وجيشه بالمدينة الخالدة.

وهذا ما دعا وجهاءها حفاظاً على أعراض النساء، وخوفاً على مدينة دمشق من التدمير والخراب، وهم يعلمون أنه سيفعل، وأن البلاد بحالة ضعف ووهن، وقد اجتاح سورية بجيشه الجرار، لذلك إنقاذاً لهذه المدينة المقدسة، قاموا بما أمرهم مكرهين، ولم يقوموا بهذا العمل حباً وتزلفاً بالمعتدي الآثم- لا سمح الله- ولا ترحيباً به- أعوذ بالله- وإنما لحماية الأهالي العزل من السلاح ودفع الضرر عن المدينة، وهذا أقرب للحقيقة والواقع، وما حدث في ميسلون المشرفة إلا دليل صدق على هذا القول. والسؤال الذي يطرح نفسه هل ينقص آليات الجيش الفرنسي سيارة ليركبها الجنرال الفاتح؟
الجواب طبعاً لا. لأن الغاية واضحة ومقصودة هي إذلال الشعب العربي السوري، هذا إذا عرفنا أن وراء دخول سوق الحميدية بهذه الصورة زيارة قبر السلطان صلاح الدين الأيوبي، فقد دخل هذا المتغطرس المقام الجليل بملابسه العسكرية وخوذته وسيفه، وركل بحذائه العسكري الضريح وقال بتهكم: (يا صلاح الدين أنت قلت إن جيوش الصليبيين خرجت من الشرق ولن تعود، ها قد عدنا يا صلاح الدين انظر لترانا هنا في دمشق).
وجاء الرد الوطني في 25 حزيران 1921 من ثوار أحمد مريود لهذا الجنرال الجبان على زيارته الوقحة بحق بطل حرر البلاد العربية من الصليبيين، باغتياله عند نزوله للقنيطرة مدعواً على الغداء في مضارب الأمير فاعور (شيخ عشائر الفضل) احتفالاً بشمله العفو العام من فرنسا.
فرغم الأنين والألم الذي كان يحز قلب الثائر أحمد مريود، حاول أن يقلب نتائج هذه الزيارة المشؤومة لمصلحة الوطن، وبعد رصد تحركات غورو، أرسل أحمد مريود من شمال الأردن مجموعة استشهادية تكمن له على طريق دمشق القنيطرة، لاغتيال هذا القائد الجبان، وكان يتولى حراسة الطريق رجال من الدرك السوريين، فلبس الثوار لباس الدرك وامتطوا صهوات جيادهم وتسللوا بين صفوفهم. وكان غورو يستقل سيارة مكشوفة يجلس إلى جانب السائق الكولونيل بارنيت، بينما جلس خلف السائق الجنرال كاترو، وفي المقعد الخلفي جلس حاكم دمشق حقي العظم وإلى يمينه غورو، وكانت تتبعهما سيارة حراسة فيها قائد القوات الفرنسية بدمشق ومساعده.
وقد باغت الثوار السيارة بالرصاص فأصيب غورو برصاصات في يده الخشبية اليمنى، فاختبأ الجبان خلف مقعد السيارة بسرعة، في حين جرح (حقي العظم) في كتفه وفخذه، وقتل الجنرال بارنيت الجالس في المقعد الأمامي، ففتح السائق باب السيارة ورماه على الأرض لئلا يعيق حركته وانطلق بالسيارة مسرعاً وحدث التباس في تلك اللحظة الحرجة والظرف العصيب، إذ توهم الثوار أن القتيل غورو، فحملوا خوذة الضابط بارنيت وقد اخترقها الرصاص معتقدين أنها خوذة غورو، وإنه قد قتل.
وعلى إثر هذه الحادثة الجريئة طلب غورو من الشيخ نوري الشعلان وولده نواف، ومن الأمير نواف (تطبيق قانون العشائر البدوية)- ولأول مرة يعرف هذا المعتدي الغاشم القانون ولكن لمصلحته، فأخذ هؤلاء يتنصلون منه.
وقد أذاعت السلطات الفرنسية بلاغاً اعترفت فيه، (بأن اعتداء مسلحاً وقع على سيارة غورو وأنه لم يصب بسوء، وأن مرافقه قد قتل، وأن حقي العظم قد أصيب بجروح طفيفة، وأن المعتدين كانوا خمسة أشخاص يلبسون لباس الدرك، وأن الجهود مبذولة لمعرفتهم واقتفاء آثارهم، والقبض عليهم، وإنزال أشد العقوبات عليهم)، ولما عجزت السلطات الفرنسية عن اعتقال الفاعلين، عمدت كعادتها إلى الانتقام من السكان المسالمين بحجة إيواء تلك العصابة وهدم بيت أحمد مريود ودمر الفرنسيون منازل الـمريود في قرية جباتا الخشب، وأحرقوها انتقاماً، وفرضوا الغرامات المالية التي بلغت 60 ألف ليرة ذهبية (وهي دية القتيل الضابط بارنيت) وأصدروا حكماً بالإعدام على أحمد مريود وأفراد أسرته بعد سرقة قطعان مواشيهم.
كما طلبت السلطات الفرنسية من المعتمد البريطاني في عمان تسليم المتهمين بهذه الحادثة وهم: (أحمد مريود، وأحمد الخطيب، الملازم محمد الخطيب، صادق حمزة، أدهم خنجر، محمود حسن، شريف شاهين، محمد الظاهر، أبو دياب البرازي، خليل مريود). وقد ورد اسم أدهم خنجر بالخطأ ضمن أسماء المطلوبين، رغم أنه لم يكن مع الثوار في هذا الهجوم، وقد ألقي القبض عليه بعد عام من الحادث في بيت قائد الثورة السورية سلطان باشا الأطرش، ونقل بالطائرة من السويداء إلى بيروت وأعدم هناك، وقد رفض زعماء العشائر بالأردن تسليم الثوار المطلوبين، وتجمعوا مع أهالي عمان للدفاع عن أحمد مريود، وانتهى الأمر بعدم التسليم. وكان لهذه الحادثة الجريئة أثرها الكبير في معنويات غورو الجبان، إذ عاد إلى فرنسا في 25 ك 1922 واعتزل السياسة بعد أن حكم سورية (3 سنوات وشهراً واحداً و18 يوماً) واعتكف بعدها الحياة العامة، وانزوى بعيداً عن الناس خوفاً من محاولة اغتيال ثانية قد لا تفشل، وتوفي عام 1946، وكانت جنازته بسيطة ودفن في قبر متواضع، ألا فليذهب غورو مع أسطورته إلى الجحيم، وليحيا ثوار بلادي سورية الذين عرفوا كيف يدوسون أسطورته الهزيلة بالأرض.
نعود للحادثة الأولى: لقد ضحى هؤلاء الوجهاء الكرام بكرامتهم صوناً لأعراضهم، وحماية لمدينتهم الخالدة مثلما ضحى ثوار الوطن بأرواحهم من خلال ثوراتهم على المحتل، فسقوه كؤوس الهزيمة مترعة حتى الثمالة وليعترف التاريخ بعدها بأن كل رجال الوطن وقفوا وقفة رجل واحد في وجه هذا المعتدي الآثم وجيشه الغاشم، فكان تحرير البلاد واستقلالها، ثم الجلاء عن أرض الوطن الغالي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن