ثقافة وفن

الموت بشرف

| د. نبيل طعمة 

ونحن نحاول بناء الحياة والدفاع بكل ما أوتينا عنها والتمتع بجمالها وحمايتنا لها، ليكن ذلك، حيث تفرضه ضرورات الاستمرار فيها، لذلك أجدني أدعوكم مباشرة لهزم الخوف، فليس أمامنا سوى الانتصار، فالشعور بالخوف، إن لم يقاوم بالإرادة الحية، يؤدِ إلى النهايات السلبية والسيئة، ومن ثم إلى الموت الذي لا قيامة لنا بعده.
لأن شعوبنا تؤمن بقدرية الموت، فلا تعمل للحياة، وما سألت أحداً إلا وطلب الاستجارة من جهنم، وكأن به يدرك ويؤمن نتاج عدم اشتغاله للحياة أن مصيره الحرق في جهنم، وليس الحياة في نعيم الجنان التي إن أنجز لها وصل.
هل من أحد برأيكم يبحث عن المتاعب؟ فالإنسان بطبيعته هلوع وجزوع أمام أصغر نائبات الزمن، كيف به يقاوم أعتاها، ويواجه مصائره وما يحاك له من سلطة الطبيعة وسلطاته الهائلة التي يفرضها على ذاته يقود وجوده عليها؟ هل من عاقل ينتظر موته؟ ألا يموت قبل أن يحضره إن فعل ذلك؟ وطالبو الموت ألا يمثلون نظم عرقلة التقدم والبناء في الحياة؟ ينصبون الأشراك والأفخاخ، يزرعون الحواجز، ويبثون التهم، يرمون بالفتن وفلسفة الموت التي تسكن عقول العامة المستهلكة أمام الفاعلين والمنتجين، نتفكر ملياً لنجد أنَّ طبيعة الشر تغزو دائماً الجهل الذي ينشر الموت معززاً مفردات القتل والفقر والخوف؛ أي إنه يعزز لغة الذهاب إلى النهاية من نيران الحروب التي تلتهم كل شيء، ولا تكتفي مادامت مشتعلة بأسباب مفتعلة ومبرمجة ومخططة بدقة.
ما معنى البشاعة التي ترافق جهل العامة وتعلقها بالأخروية من باب تجيير الدنيوية وما فيها إليها، ويكون ذلك باستسهال الموت ومنحه مسميات الجهاد في سبيل الله والموت دفاعاً عنه، ورغم معرفتنا بالواقع البشري المرير، فإننا ندعو النخبويين من علماء وفلاسفة ومفكرين ومثقفين إلى الاستمرار والارتقاء من أجل الحفاظ على التوازن بين الخير والشر، فلا هذا يصلح بكليته، ولا ذاك بسيطرته، وإني لأستشهد بعلماء الفيزياء النووية الذين أخذهم الغرب عنوةً من ألمانيا النازية، وصنعوا له القنبلة النووية التي ألقى بها على هيروشيما وناغازاكي، وكيف ببعضهم يفر إلى الاتحاد السوفييتي، ويصنع له القنابل ذاتها، ما أدى لإحداث توازن الرعب الذي ينبغي أن يبقى كي لا يستبيح أي منهما الآخر.
هل من أحد يعرف متى تأزف ساعته، ويجب ألا يعرفها، ربما يعرفها في اللحظات الأخيرة، قبل أن يلفظ الأنفاس بأيام، بساعات، بدقائق لا أكثر من ذلك أبداً، يرى فيها ما مرَّ معه، وما الذي سيكون عليه. قال أمير النحل أتكرهون الحق؟ فتهامس الجميع، لقد كفر الأمير، وصلت أسماعه تخاطراً، فأجاب: إن الموت حق، والعامة تعتقد أن المكون حق، ونعذرها لأننا نقف أمام الحق، بينما المكون الكلي شيء ولا شيء، وليس كمثله شيء، يدركه العقل ولا تدركه الأبصار، ومهما بلغنا نكن عاجزين عن إدراكه، لأنه الوحيد المجسد لصورة الحياة، توزع بين تنوع البشرية بغاية أن يكون لكل مكونه، فهل أدركت البشرية معنى التنوع؟ وفي النتيجة أياً يكن مسماها فهو صاحب الموت النهائي، حيث يدع الإنسان لديه كل ما عنده، تتوارثه بقاياه، وهذا يدلنا على معنى أن البقاء له، والموت والفناء لنا.
تعال أيها الحزن الجميل انفجر في داخلنا الإنساني لا البشري، استنهض الموت المفاجئ فينا، وليكن بشرف الحكماء، لا ذاك الموت المتجسد في الجبناء الذي يحتاج الآخر كي يغمض العيون ويغلقها معلناً حضور الموت، لم نختر أن نولد كما نريد، وأيضاً لا نمتلك خيار الموت الذي يبحث العلماء عن فك شيفراته حتى اللحظة، لأنه سر من أسرار الحياة المقدرة، ورغم أني أتخاطر الشعر والهوى، وأعيث في دنياي شطحات ربما لا يحتملها العتقاء من النار المنظورة في العقل اللامادي، إلا أنني أجدني معنياً بالاهتمام بما يطرح من أفكار والغوص إلى أعماقها، هل منا من يعلم ماذا يحمل له المستقبل؟ الموت أم الحياة؟ نحن نستلقي في ليالينا والإنسان المخلوق الوحيد الذي يستطيع الاستلقاء على ظهره، وبعد أن نغمض أجفاننا نعاساً وتعباً وقلقاً وأرقاً، هل نستطيع وبكامل قوانا أن نفعل شيئاً؟ كيف بنا نختار المواجهة مع غدنا؟ وهل يحق لنا البحث عن الحياة رغم ضيق مساحاتها في أجسادنا، ورغم تطور أفعال الحثالة التي تعيث فساداً بين صنوف البشرية.
من يصنع الأبطال برأيكم؟ تفكروا معي، أبناء الخطيئة أم تكنولوجيا الرقي والتحضر؟ من يصنع الحروب التي تهدف إلى القتل؟ من أجل ماذا؟ أليس كل ذلك أمراضاً نفسية تؤدي إلى إزهاق أرواح البشرية التي تتكاثر بلا وعي، بلا هوادة.
أسأل: إن لم تُصطد قطعان الأغنام والخنازير والأبقار والأسماك والطيور وفائض البشر، فكيف كان حال كوكبنا الحي؟ من المنطق تحقيق الموت النسبي المدروس عالمياً، كيف يتزامن الزمن مع الموت والحياة في آن؟ أليس جميعنا جنوداً، كل من موقعه، ومن ثمَّ الجنود تحمل شعاراً مقدساً، ألا وهو الموت بشرف، فإن لم يكن كذلك تلحق به الهزيمة، وتلصق عليهم الخيانة.
ما معنى الموت بلا معنى؟ وهل ينبغي على الكثرة أن تموت جزافاً؟ كيف بنا ننظر إلى الموت المؤثر؟ من يصنع التأثير؟ الفكر، المال، الجنس، ما الفرق بين موت الغني ودعارة الفقير والعكس وآليات انطباقه ووجهة نظرنا في الحالتين؟
طبعاً الذي أنجز فكر الموت والحياة إنساننا القديم، وكان بذلك عظيماً، استثمرها الكهنوت بأشكاله المختلفة، كهان وأحبار وأئمة، وتحولت إلى مهنة لا تحتاج إلا إلى الكهن الذي يثري حامليه من دون عناء، ويسيطرون به على العقل البشري الخائف من الخطيئة التي يرتكبها، بحكم أن الإنسان خطَّاء. الحب وحده لا يموت، الأجساد تموت، لذلك أقول: لنمت بشرف البوذي بعد فهم تعاليم كونفوشيوس، نتجه لفهم ألافستا المسكون فيها تعاليم زرادشت، وامتلاك معاني ما أنجزه أبرام المؤسس لظهور الديانات التي قسمت الإنسانية، وحولتها إلى بشرية، وأعلمت خاصة الخاصة بأن الدين والسياسة وحدهما يجسدان قتل البشرية تحت مسمى الروحي والحاجة لبقاء الأقوى، وهنا أؤكد أن الموت بشرف يشرفنا، ولكن بعد أن نكون قد عملنا بشرف، وأخلصنا بشرف، وفهمنا معنى الشرف، وأنه لا يسكن بين ساقي امرأة، وإنما يكون ويتكون من الإيمان بالعمل والمعاملة المنتجة التي تفيدنا وتسجلنا في سجلات الشرف، ومهما غيبت أفعال الشرف يحضر أحد بقوة القوى الخفية، ويقل كان شريفاً ومات بشرف. ولنسأل من خلال ذلك: من يمنح الحياة؟ ومن يقرر الموت؟ المكون، القانون، القادة، أصحاب الأمر والنهي؟ من يملك كلمتي أحيي وأميت؟
هكذا هي المعرفة أعطت كلَّ شيء حقه، ومنحته حقه المؤقت في الوجود على وجه الحياة، لذلك ليس لأي كائن أمان، ولو أنه توافر لما قام أحد بحماية نفسه، وأخذ الحيطة والحذر من كل ما يحيط به، هل سنموت؟ لا لن نموت، ولماذا نموت؟ مادامت لدينا فلسفة الحياة بشرف، وليكن بعدها ما يكون.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن