سورية

بعد إدلب هدف الجولاني زعزعة اتفاق الجنوب

| عبدالله علي

في ظلّ تعدّد الأجندات والمشاريع الإقليمية والدولية وتضاربها على أرض الشمال السوري، وعجز العديد من الأطراف عبر أدواتها المحلية المتمثلة بالفصائل المعتدلة عن فرض وجهة نظرها ميدانياً وسياسياً، بات بحكم الضروري إيجاد مخرج لحالة الاستعصاء هذه. وكان الحلّ الأمثل الذي يتناسب مع مصالح جميع الأطراف على تعددها واختلافها هو النفخ في نار الخلافات بين الفصائل وتركها تقوم بمهمة تصفية بعضها بعضاً حيث يستقرّ المشهد على صورة واضحة يمكن التعامل معها وفق ضوابط معينة، وهو ما أنجزته عملياً «جبهة النصرة» خلال الأسبوع الماضي عبر هيمنتها على أجزاء واسعة من محافظة إدلب بعد طرد «أحرار الشام» منها.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن تتزامن سيطرة «جبهة النصرة» على إدلب، مع الكشف عن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب القاضي بوقف برنامج مساعدة الفصائل المعتدلة في سورية الذي كانت تديره وكالة الاستخبارات الأميركية على مدى السنوات الأربع الماضية. فالقرار الأميركي إلى جانب أنه يعبر عن إخفاق الإستراتيجية الأميركية في سورية، وعن خيبة أمل أميركية من الفصائل المعتدلة التي عجزت عن تمهيد الأرضية المناسبة لوضع المخططات الأميركية موضع التنفيذ، فإنه يكشف أيضاً عن الازدواجية الأميركية التي سعت منذ البداية لتجنّب وضع كل بيضها في سلة المعتدلين وحرصت حرصاً واضحاً على وضع المخططات بناءً على فرضية أن المتشددين قد يظفرون بالهيمنة على الساحة السورية.
ومن هنا يمكن فهم البيان الذي أصدره المبعوث الأميركي إلى سورية مايكل راتني في آذار الماضي، والذي كان منطلقاً للعبة أميركية جديدة مفادها تسعير الخلاف بين «جبهة النصرة» و«أحرار الشام» عبر إبراز تباين الموقف الأميركي من كليهما، وهو ما ركّز عليه راتني في بيانه من خلال وصفه «جبهة النصرة» بالإرهاب على حين نعت «أحرار الشام» بأنهم «أشد المدافعين عن الثورة».
وقد جاء ذلك مع دور بريطاني مشبوه تمثل بالإيعاز إلى الجناح الأكثر اعتدالاً في «أحرار الشام» بالتنحّي جانباً وهو ما تمثل في استقالة لبيب النحاس -الذي يوصف في مجالس المعارضات السورية بأنه «عميل الاستخبارات البريطانية»- من منصبه كرئيس مكتب العلاقات الخارجية في الحركة.
ثم جاء القرار الأميركي بوقف مساعدة الفصائل المعتدلة في هذا التوقيت كي لا يدع مجالاً للشكّ بأن الإستراتيجية الأميركية إنّما تقوم على التذرّع بالتشدد والمتشددين أكثر مما كانت تقوم على دعم الاعتدال والمعتدلين.
ورغم أن «جبهة النصرة» سارعت إلى اقتناص الفرصة وحسمت صراعها مع «أحرار الشام» لمصلحتها وفرضت هيمنتها على «إمارة إدلب» التي داعبت مخيلة قائدها أبي محمد الجولاني، غير أن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن «جبهة النصرة» ليست واعيةً لما يرسم لها في دوائر الاستخبارات الإقليمية والدولية، لكن الأمر هو أن «النصرة» ليس أمامها أي خيار آخر سوى السير في مسار المخطط المرسوم لها مع محاولة عرقلته أو مواجهته من الداخل على أمل إحراز بعض المكاسب أو تغيير وجهته لمصلحتها.
ويسود اعتقاد في أوساط «جبهة النصرة» أنه لم يكن بالإمكان أفضل مما كان، ويبررون انقضاض «النصرة» على «أحرار الشام» والسيطرة على مدينة إدلب ومعابرها الحدودية ذات الأهمية الإستراتيجية، بأنه أمر لا مفر منه ويقولون: إن «إمكانية أن يكون مصير إدلب نفسه مصير الموصل كانت قائمة لكن الاختلاف هو مَنْ الطرف الذي سيفعل ذلك»، في محاولة منهم للتخفيف من حدة الانتقادات التي وجهت إلى قيادة «النصرة» بأنها غامرت بمصير المحافظة.
لكن التطورات السابقة لم تخل من فوائد ومكاسب بالنسبة إلى «النصرة» لأن السيطرة على إدلب سحبت من يد «المعارضات السورية» أي ورقة يمكن أن تفاوض عليها في أستانا أو جنيف، ومن ثم تحولت هذه المعارضات إلى مجرد ديكور لا أكثر مقابل أن «جبهة النصرة» فرضت نفسها رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه، حسب ما قال لـ«الوطن» مصدر إعلامي مقرب من «جبهة النصرة». ويضيف المصدر «قالت جبهة النصرة سابقاً إنها ستعمل على إفشال مؤتمر أستانا وها هي قد أفشلته»، متسائلاً بسخرية «على ماذا سيتفاوضون بعد إدلب؟»، وهزّ رأسه بالرفض عند سؤاله عن احتمال أن تؤدي هذه التطورات إلى تسريع التدخل التركي.
وكانت «الوطن» قد انفردت في تقرير منشور بتاريخ 14 شباط الماضي بالكشف عن تفاصيل الخطة التي وضعتها «جبهة النصرة» لمواجهة مسار أستانا وتبعاته، وجاء في التقرير: «تتضمن خطة الهيمنة على إدلب وريف حماة عدة خطوات أهمها تكوين «نواة دولة أو إمارة» تسحب البساط من تحت أقدام جميع الهيئات السياسية الممثلة للمعارضات السورية، ولاسيما الحكومة المؤقتة والائتلاف ووفود التفاوض التي ستجد نفسها لا تملك أي تمثيل أو تأثير إلا في مناطق سيطرة «درع الفرات».
وفي حين يعتقد البعض أن «جبهة النصرة» وقعت في الفخ المنصوب لها عبر حشر نفسها في مسار المخطط الاستخباري ضدها، فإن الواقع بمعطياته ومعلوماته يرجح أن الأمر أقرب ما يكون إلى سباق بين «جبهة النصرة» وبين مختلف الأطراف الإقليمية والدولية عبر الركض في مسار يفضي إلى مكان واحد هو حافة الهاوية، لكن كل طرف يظن أنه سيرمي خصمه إلى الهاوية في لحظة النهاية وينجو بنفسه.
ورغم أن قيادة «جبهة النصرة» تقرّ بخطورة وضعها وأن السيطرة على إدلب «مغامرة» في جانب من جوانبها، لكنها إضافة إلى اعتقادها بأنها «مغامرة ضرورية» فإنّها تراهن على الخطط التي وضعتها من أجل منع سيناريو الموصل في إدلب معتقدة أن خططها تتلافى الأخطاء التي وقع فيها تنظيم «داعش».
وتتألف خطة «النصرة» من عدة بنود أهمها: تكريس السيطرة على إدلب والعمل بشكل حثيث على تشكيل إدارة مدنية ( لتمويه إمارتها الإسلامية) واستبعاد «العسكريين» من استلام أي منصب يتعلق بالمواطنين وخدماتهم أو بالعلاقة مع المنظمات والجهات الإقليمية والدولية. وتتوخّى النصرة من وراء ذلك سحب الذرائع التي يمكن أن تتذرع بها أي جهة لاستهداف المؤسسات والمعامل والدوائر العامة. لكنّ «النصرة» إذ تجعل من إدلب عاصمةً لها تدرك أنه من الضروري إبعاد أي خطر عن هذه العاصمة، وهذا يتطلب منها نقل ثقل العمليات العسكرية إلى مناطق بعيدة عنها وذلك تطبيقاً لإستراتيجية اتبعها تنظيم «داعش» تقضي «بإشعال الأطراف لحماية القلب».
لذلك بناء على ما سبق وعلى بعض المعطيات التي حصلت عليها «الوطن» من مصادر مطلعة على كواليس «جبهة النصرة»، فمن المتوقّع أن تقوم الأخيرة بتكثيف عملياتها الأمنية في بعض المناطق التي تعتبر آمنة ولاسيما في الساحل السوري، وقد تحدثت بعض المصادر عن عمليات أمنية نوعية ستطال أهدافاً كبيرة في مدن الساحل بحسب الخطط الموضوعة. وتهدف «النصرة» من وراء ذلك إلى شد عصب حاضنتها الشعبية عبر اللعب على الوتر الطائفي، وكذلك التغطية على أمرين: الأول هزيمتها في جرود عرسال، والثاني الشرخ الذي أحدثته معاركها ضد «أحرار الشام» وما رافقه من تشويه صورتها، لكن الأهم هو سعيها إلى إشغال الجيش وأجهزة الأمن السورية بأمن المواطنين بدلاً من التوجه لتحرير المناطق التي تسيطر عليها.
غير أن أهم بنود الخطة التي وضعتها «النصرة» هو العمل على صرف الأنظار عن محافظة إدلب ومحاولة توجيهها نحو مدن أخرى ستعمل «النصرة» على تصعيد الوضع الميداني فيها، وأبرز هذه المدن هي درعا باعتبارها بيضة القبان في الجنوب السوري وأيّ تطورات فيها ستنعكس سلباً على اتفاق تخفيف التصعيد الذي وقعته كل من روسيا والولايات المتحدة قبل أسابيع. ولا يخفى أن موقف «جبهة النصرة» من هذا الاتفاق هو موقفها السابق نفسه من مسار أستانا ولن تدخر جهداً في محاولة إفشاله.
وقد استبقت «جبهة النصرة» هذه التطورات وخاصة بعد تعثر عملياتها العسكرية في حي المنشية، وقامت بإرسال قائد جديد لجماعتها في درعا هو أبو جابر الشامي (الإدلبي) بصحبة العشرات من الكوادر والشرعيين الذين تغلب عليهم الجنسية الأردنية ومعهم مبالغ مالية طائلة تقدر بمئات آلاف الدولارات، على أن تكون مهمة الشامي وكوادره إعادة هيكلة «جبهة النصرة» في الجنوب تنظيمياً وشرعياً وعسكرياً والعمل على استقطاب مجموعات مسلحة إلى صفوفها، والسعي قدر الإمكان لتكوين شعبية مقبولة بين العشائر في المنطقة عبر استخدام المال والنفوذ.
وقد أعلن أبو جابر الشامي فور وصوله إلى درعا عن البدء بتشكيل ما سمي «قوات النخبة» في الجنوب لـ«استرجاع أمجاد حوران». كما نُقل عن الشامي قوله إن «الهيئة» تنوي إقامة معسكرات تدريب للشباب لتخريجهم كانغماسيين ومقاتلين ضد قوات النظام.
ولم تتضح حتى الآن نتائج الجهود التي يقودها الشامي من أجل تقوية «جبهة النصرة» في الجنوب السوري بعد أشهر من خمول دورها هناك إثر مغادرة كبار قادتها المحافظة متجهين في رحلة معاكسة إلى إدلب من بينهم أبو ماريا القحطاني وأبو جليبيب الأردني وسامي العريدي ونحو 200 عنصر. لكن مما لا شك فيه أن هذا التوجه لقيادة «النصرة» نحو محافظة درعا يؤكد عزمها على تقوية دورها هناك وهو ما سيتناقض بجميع الأحوال مع اتفاق تخفيف التصعيد، كما ستحاول قيادة «النصرة» استغلال وقف إطلاق النار للحصول على مبايعة الفصائل الرافضة للاتفاق ولكنها لا تجرؤ على معارضته وحدها، وذلك من أجل زيادة عديدها من المقاتلين تمهيداً للقيام بعمليات عسكرية تهدف إلى قلب المعادلة الميدانية في الجنوب كما فعلت في الشمال. وقد يكون هدف «جبهة النصرة» من التصعيد المحتمل في الجنوب هو مجرد صرف الأنظار مؤقتاً عن إدلب وإلهاء الأطراف الإقليمية والدولية بالشأن الحوراني البالغ الحساسية، كما قد يكون من بين أهدافها غير المعلنة هو إيجاد موطئ قدم لها في الجنوب في حال تعقدت أوضاعها في الشمال وعجزت عن مواجهة العاصفة المتعددة الجنسيات التي يمكن أن تضربها في وقت تكون بذلك قد أمنت معقلاً جديداً يلوذ به قادتها بعد هروبهم من إدلب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن