ثقافة وفن

عن الإيمان وسرّ الإيمان

| إسماعيل مروة

ينتقل أحدنا من جانب إلى جانب آخر مضاد له بتمامه، ولا ينكر أحد عليه هذا الانتقال إذا كان مستنداً إلى مفهوم غيبي! ويكثر هذا في الجوانب الإيمانية والعقيدية، فترى أحدهم قد وصل إلى حافة هاوية الهلاك، وليس بإمكانه أن يفعل شيئاً، ولكن هناك من يأتي إليه ليدعوه أن يشكر على ما وصل إليه، وهذا له فلسفته في الصبر والشكر، ويمكن أن يفهمه المتلقي، ولكن الأمر الصعب هو أن يرى أحدهم أن الله يحب هذا الإنسان فيكفر عنه، ولا أحد منا بقادر على مناقشة هذا الأمر، وربما ضاعف أحدهم بالطلب من هذا المبتلى أن يرى نفسه أعلى مرتبة من صاحب النعمة، وصاحب السلطة، وصاحب المال، فهم يملكون وسخ الدنيا! تركهم الله لهذه الدنيا الفانية، واختار أن يطهره!
وهذا الإيمان انتقل إلى الدنيا، فصرنا نجد الغني الذي يحسد الفلاح على صحته وسلامته وحياته البسيطة، وصاحب المكانة المتخم بالأكل والأطايب والنساء والمال يحسد البسيط الذي يأكل الخبزة والزيتونة، ويراه مرتاح البال هنيّ النفس! وأنتقل كذلك إلى طبقة من العلماء ورجال الدين في الشرائع المعروفة فرأوها مناسبة عظيمة، وتحولوا إلى طبقة الجمهور، وصاروا يتحدثون لهم عن الزهد والحياة البسيطة والإيمان، فهذه الدنيا لا قيمة لها، فتشكلت طبقة من رجال الدين لا تقل خطورة وسطوة عن رجال السلطة والمال، بل تحول كثيرون إلى رجال سلطة ومال، فلديهم ما ليس يملكه الآخرون، أبنيتهم ومزارعهم وسياراتهم وأموالهم، وإن وعظوك انهمرت دموعهم وهم يتحدثون عن القدر الفارغ الذي تحرك الأم المؤمنة فيه يدها لينام أولادها على صوت التحريك، وإيهام أن الطعام في طريقه إليهم.. وتتخضب لحاهم وهم يحدثونك عن الماء والخبز الذي كان الأنبياء يكتفون بتناوله، وترتفع حشرجاتهم وهم يتحدثون عن خشونة ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يتحدثون عن آلام المسيح في طريق آلامه! يفعلون كل ذلك، وجيوبهم ملأى، وسياراتهم فارهة، وبيوتهم أفخم المنازل! فهم يصلهم لمكانتهم أطيب الطعام، ويحصلون على أزكى المال.. إنه الإيمان! والله رزقة الإيمان مهمة وقادرة! لي أصدقاء ومعارف في مختلف الشرائع، وقد رأيت عدداً غير قليل منهم عندما عجز عن فعل شيء في حياته ودراسته اندار إلى امتهان الحياة الدينية، فصار مقدماً، وصار تاجراً، وصار يجلس في قلب المجالس، وصار يعظ ويكرّز، تفتح له القلوب والبيوت..! إنه سرّ الإيمان!
لا أقول هنا بإخضاع كل شيء للعقل، فلو فعلت لقالوا بتكفيري، وبأنني علماني، ولا أومن بالكرامة والغيب، وكل هذا غير صحيح، ولكنهم بما أنهم أصبحوا نواباً لله على الأرض، فليس من حقك أن تقول، لأنك لا تتناول شخصاً، وإنما تتناول ما يمثله، فأنت ضد الإيمان والعقيدة، وبالمحصلة ضد الله، والعياذ بالله!
لو تفوهت بكلمة نقد أو مدح لأحدهم فإنك لن تنجو من ذلك ما دمت حياً، ولكن إن فعل ذلك من ينتمي إلى المؤسسة الدينية فله عذره وله حكمته! من حقه أن يفتي ضد الناس، ومن حقه أن يخضع التحكيم الذي طلب منه لمصلحة الأغنياء، ومن حقه أن يحصل على السلطة والمال!
فهو يمكن أن يبرئ سلطة فيخرجها طاهرة كالشاش! أما إذا فعلت أنت فأنت حذاء للسلطات وتابع! ومن حقه هو أن يوجد فتوى تبرئ المجرم، وإن فعلت فأنت إرهابي وغد وحقير! لا تستغرب، إنه الإيمان.. إنه سرّ الإيمان! فهل تملك إيمان أسيادنا العلماء ورجال الدين؟ ويمتد ظلهم الإيماني إلى الأدعياء، والمنتسبين إليهم، فأحدهم وهو دعي تحت عباءة الإيمان كان مشرفاً على منبر من المنابر، وحين ضاقت الظروف، أراد التقشف، فأبقى على مكاسبه الشهرية بمئات الآلاف، وعلى مكاسب حواريه، ولكنه ركض إلى العاملين الدراويش، وحسم من كل واحد، ومن قروشه القليلة كميات تعوض التقشف، وعندما جابهته كانت النتيجة، لا عمل لك عندنا! وواحد منه كنت أعاونه بكل التفاصيل، وعندما وصلنا إلى الحساب، كانت النتيجة أنني كسبت الصحبة! فغادرته لست نادماً على صحبته، وقد أسهم بتبديل قناعاتي التدريجية، وقلما وجدت في هذه المؤسسة الإيمانية من يقوم للآخر ومن ويساعد من حوله، موجودون، لكنهم نادرون! وفي الوقت نفسه الذي كسبت صحبته ذاك كان لي صديق رحمه الله، علماني، لم يترك فرصة لتسديد ما عليه وزيادة، لكنه علماني تافه!
لو لم يؤد ما عليه، فإنه سيعاقب في الآخرة، لأنه لا يحمل ختم الإيمان وطابعه! إنه الإيمان هل تعرف ما الإيمان؟ إنه سرّ الإيمان فهل تدركه؟ يحدثك أحدهم عن الدولة وولي الأمر وطاعته، ويؤكد ذلك دوام تحقق مصالحه! وإن كان لك من رأي فأنت مخالف لأوامر الله والشرع! وإن تخالفت مصالحه تحوّل، وصرت أنت من الظلمة، وصار الخروج على ولي الأمر ضرورة، والدمار ضرورة! وهو قادر على تحويل نصه وفتاواه..! إنه سرّ الإيمان! وتجد الأتباع خلفه لا يتخلفون لحظة أو خطوة عنه!
وترى أحدهم يفعل الأفاعيل، وذات لحظة من وهن وضعف، وانتهاء الوظائف لديه يصبح تائباً وحاجاً، وعليك أن تؤمن بأنه عاد كيوم ولدته أمه، وإن لم تؤمن فأنت ضد الله والتوبة والإيمان، فالله يقبل التوبة، وعليك أن تؤمن بطهريته، أما ما سرقه وما اغتصبه وما فعله وما تجاوزه فأمره لله وحده، ومن حقه أن يتمتع به، حسابه على خالقه! إنه الإيمان وسرّ الإيمان!
وبما أن الإيمان صار مؤسسة وفاعلة وحاكمة ومتحكمة، فهي جزء من السلطة، وإن قلت رأياً، فإن السلطة لن تتوانى عن عقابك لأنك تنال من شريك لها، فالويل لك لا دنيا ولا آخرة! فالإيمان يمنحك الوجاهة والسلطة وحقوق البشر وأعطيات الله، ويسلبك حتى نفسك وتنفسك!
وأي شيء يخرج عن المؤسسة الدينية يجب أن تؤمن به، فمهما كان هذا الشيء، سواء كان مقنعاً أم غير مقنع! فنحن اليوم في أمتنا العربية ندفع ثمن الفساد الأخلاقي، وثمن الابتعاد عن الله وعن الدين وعن الصلاة! إياك أن تقول لا.. وحين يقول أحدهم: ما بال الغرب الذي لا يعرف إيماننا؟ يأتي أحدهم ليفلسف، فقد فهمت المؤسسة الدينية مراد المؤسسات السياسية، وتعمل عليه، ولا يمكن أن تصل درجة المصارحة مع المؤمنين وممثلي الإيمان أن يقولوا لك: إن ما نحن فيه اليوم سببه الجهل، وتمسككم بنا وبالقشور سببه ابتعادكم عن العلم! سببه ابتعادكم عن الصدق!
الذي دفعني إلى هذا الحديث عن الإيمان سرّ الإيمان ما أقرؤه من رسائل مشابهة المصدر، فهذا يقول لك بدل كلمة اقرأ وتعلم، يقول: كل حال يزول..! هل يعقل أن حالاً لا يزول؟ ولكن ما الفائدة بأن أنهي حياتي معذباً متألماً، والحال يزول بالناموس والسيرورة بعد رحيلي؟ وأطرف ما قرأته، والذي يزيدني ألماً، ويزيدني قناعة بأننا من سيئ إلى أسوأ، ما وصلني من صديق أكاديمي، وتقول رسالته «إن ما فعله الصهاينة اليوم بالمسجد الأقصى دليل غباء، وسيسرع في نهاية الصهاينة»! فعلى أي شيء استند صديقي الأكاديمي الجميل؟ هل سينتفض الأموات العرب؟ هل ستتوجه جيوش من الفئران لقضم الصهاينة؟ هل ستغضب أميركا من تجاوزات إسرائيل؟ هل ستأتي طيور أبابيل لإنقاذ المسجد الأقصى؟ أرجوك أخبرني كيف سيندم الصهاينة؟ منذ قرون نقرأ أن الحجر سينادي بأن خلفه يهودي تعال فاقتله! ضاع الحجر، واليهودي والصهيوني ملك المال والعالم، ونحن نستجدي الحجر لا أن ينادي فقط، بل أن يتحرك بنفسه لينفذ عملية القتل، فنحن أجبن! ألم يرَ صديقي أن كثيرين حتى من العامة لا يرون مشكلة مع الصهاينة بقدر مشكلتهم مع أنفسهم؟ ألم ير أن كثيرين يرون الصهاينة مثالاً؟
يبدو أنني جاهل، فأنا لا أعرف الإيمان الذي يعرفونه، ولم أعرف السر الحقيقي والإيمان، فما أدراك ما الإيمان وسرّه؟ أكيد سيندمون، ولكن من هم؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن