ثقافة وفن

الفن بلا رسالة هو مجرد رسم وخطوط … نزهان لـ«الوطن»: رغم وجود «داعش» في دير الزور بقيت أرسم واعتمدت اللون الأسود

| سارة سلامة

يتميز بألوانه الصاخبة المشرقة المتدفقة من طبيعة بيئته الحارة وأزياء النساء والشالات الملونة بألوان وحشية وزاهية ولون البادية الأصفر الذي يختلط بلون الشمس وليل الفرات المسكون بالأساطير والأغاني، كلها رسخت في ذاكرته صوراً لا ينساها ولا تفارقه، الفنان التشكيلي جمعة نزهان ابن مدينة دير الزور أخفى كل تلك الألوان القوية الجميلة مرتهناً باللون الأسود بعد سيطرة «داعش» على مدينته، ولكنه لم يستسلم أو يتقاعس عن عمله وكان مؤمناً بأنهم لن يثنوه عن العطاء فاتخذ وجهته إلى دمشق حاملاً القليل من الذكريات والكثير من الأمل، لينفض الغبار عن السواد الذي خيم على حياته وأخذ ترياق حياةٍ جديداً من نبض الياسمين الدمشقي.
يحمل نزهان في وعيه ومخيلته صوراً متعددة لا تفارقه وهو اليوم يكتبها قصصاً وحكايات في أعماله ويعبر عن معاناته وآلامه وآماله من خلال لوحاته، وشارك مؤخراً في معرض «حالة حبق» بعمل حمل عنوان بياض الياسمين وهي من أسلوبه الجديد الذي يحمل بشارة نصر آت حيث ألهمه جمال دمشق ليكون مشروعه عن المرأة والحب، فشكلت له صفحة جديدة طاويةً معها كل السواد والحزن.

تحدث لنا عن مشاركتك في معرض «حالة حبق»؟
الحبق هو نبات يتميز بعطره وحروفه وهو جزء من البيت السوري ومن حروفه يتشكل الحب والقاف هو الحرف الذي أقسم به رب العرش العظيم.
والحب والحق هما سلاحنا مقابل هذه الحرب والدمار الذي يعتبر سلاح الطرف الآخر والذي يعمل جاهداً لقتل نبض الحياة فينا، ولكننا سنبقى صامدين لأن سلاحنا أقوى وهو الحب والحق الذي يمثل جسراً نحو النصر ونحو إثبات الوجود.
وأتت مشاركتي في معرض «حالة حبق» لأنه يحمل هدفاً سامياً ويرقى بنا ويوحدنا على كلمة سواء أننا موجودون وصامدون رغم كل الظروف التي تحيط بنا نرسم ونلون ونتحاور كعينة وفئة من هذا الشعب المميز.

هذا العدد الكبير من الفنانين الذين جمعتهم صالة «ألف نون» وهذه التشاركية هل تكسب إضافة للفنان؟
«حالة حبق» هو مشروع ثقافي مكتمل يجمع بين اللوحة والكتلة والكلمة المعبرة والوجدانية التي يكتبها الفرد للمجموع، هذا التجديد والخروج عن النمطية الذي قامت به «صالة ألف نون» بإدارة الفنان التشكيلي المبدع بديع جحجاح جعل سورية موحدة فهؤلاء الفنانون جاؤوا من جميع المحافظات يحملون لوحاتهم ويوقعون على وثيقة الحب والحق لأجل سورية من خلال جملة تعكس وعيهم استوحوها من عقولهم وقلوبهم واستلهموها من حالة الحب التي يعيشونها مع بلدهم وفنهم.

ما المواد التي تستخدمها في لوحاتك؟
أستخدم في لوحاتي ألوان «الأكرليك» مع مواد أخرى على القماش وأعتمد على فكرة الحك والكشط لإظهار طبقات اللون المتراكمة فيظهر اللون كأنه ومضة ضوء وأعتمد على التوشيح وتسييل اللون وفق حالة من التلقائية في بعض الأحيان وفي مرات أخرى أعتمد حالة من الانضباط والتخطيط المسبق.

ألوانك حارة ومشرقة هل لها دور من البيئة التي تنتمي إليها؟
ألواني حارة وزاهية ومشرقة ومتنوعة فأنا ابن بيئة تميزت بألوانها الوحشية الصاخبة فهناك كل شيء يبدو يلمع تحت ضوء الشمس الذهبية، فحقول القمح الشاسعة تبدو مثل سبائك الذهب والحقول الخضراء الواسعة تتماوج كبحر لجّي يحتفي بكل الألوان، وألوان أزياء الصبايا، والشالات المزركشة، والبسط الملونة، والحليّ، وأطباق القش، حرارة اللون كحرارة الدبكة عين زرقاء في سماء زرقاء وقدم سمراء في أرض سمراء وما بينهما احتفالية الأبيض والأصفر والأحمر وتلويحات قادمة من عمق التاريخ والحضارة.

بعض أعمالك نراها بألوان مظلمة وداكنة هل نستطيع القول إنها انعكاس للحرب؟
بشكل عام أميل لفن الغرافيك الذي يستخدم فيه اللونان الأبيض والأسود أو الألوان البنية وتدرجاتها، هذا الفن يعتمد على التركيز في الرموز والتفاصيل والتعبير لأن اللوحة تكون فقيرة باللون.
وأثناء إقامتي في ريف دير الزور كنا في سجن كبير مرهونين لدى عصابة «داعش» التي مارست على الناس التنكيل ومنعت كل أشكال الحياة من تعليم وصحة وزراعة وغيرها، وقضت على كل شيء حي وجميل، حينها كنت أترقب هذا الموت البطيء فكنت أجلس في مرسمي وأخفيت كل كتبي ومقتنياتي وموسيقاي عن «داعش» ودفنتها تحت التراب آملاً في يوم أن تزول عنا هذه الغمامة.
وعلى الرغم من سلطة «داعش» وبطشها إلا أنني بقيت أرسم بالسرّ واعتمدت اللون الأسود لعدم وجود ألوان أخرى أستعملها، رسمت بالأبيض والأسود ملامح من ذكرياتي وحزني وقلقي وخوفي على عائلتي ومستقبلي.
كنت أرسم شبح مدينة حزينة، شبابيك وأبواباً مغلقة وشارعاً خالياً من الناس وشيئاً من القتامة وعندما اشتدت وطأة «داعش» قررت المغادرة فأخذت عائلتي وجزءاً من لوحاتي وغادرت دير الزور متجهاً نحو دمشق، والتقيت صديقي بديع جحجاح الذي قدم لي كل مساعدة وبدأت أرسم طيفاً من بيتي الذي تركته مع كل ذكرياتي هناك.
وعملت مجموعة من اللوحات سميتها «بيوت تسكننا ولا نسكنها» وهو عنوان معرضي الذي أقمته هذا العام في صالة «ألف نون» مع النحات غزوان علاف حيث شاركت بأكثر من ثلاثين لوحة يغلب عليها اللونان الأبيض والأسود في محاولة لتجميل الأسود وجعله يحمل صفة باقي الألوان.
لوحاتي تمثل حارة سورية يلفها الصمت والحزن في بيوتها المتراصة بأبوابها وشبابيكها المغلقة أحياناً والمفتوحة أحياناً أخرى مثل قلوبنا تخفي داخلها الكثير من القصص ويشف من وراء طبقة الرمادي والأسود قليل من الأصفر أو الأحمر، وهذا يوحي بالأمل ويكسر عتمة الصورة وبعض الرموز، والعناصر تتآلف لتشكل لغة تشكيلية بصرية فيها خصوصية الفنان والبيئة.

تحدث لنا عن بداية احترافك الرسم، من ساعدك وشجعك؟
بداية موهبتي كانت في حصص الرسم على مقاعد الدراسة في المرحلة الابتدائية والاعدادية والثانوية حيث كانت حصة الرسم هي حصتي المفضلة التي كنت أحصل فيها على ثناء أستاذ الرسم وإطراء زملائي الطلاب ومن ثم مركز إسماعيل حسني للفنون التشكيلية، وتحت إشراف مدرسين مختصين توسعت مداركي الفنية وبدأت موهبتي تتضح استعداداً لمرحلة الجامعة في كلية الفنون الجميلة التي تحولت فيها وبعد تخرجي من هاوٍ للفن إلى محترف حيث تخرجت في قسم التصوير بمعدل جيد جداً وكنت من الخمسة الأوائل وكان مشروع تخرجي عن المرأة الفراتية بمعاناتها وجمالها وما يحيط بها من رموز.

من أين تستوحي رسوماتك؟
الفن بما يحمله من معنى منعكس لما يحيط بالفنان وما يشعر به ليأتي بصيغ وأشكال جمالية متعددة، فتذهب الصورة ويبقى الأثر الذي يحتوي على العاطفة، بين الفنان ومحيطه علاقة متبادلة مؤثر ومتأثر إشباعاً لحاجة من الحاجات الضرورية والماسة إن كانت مادية أم روحية.
الفنان ابن بيئته وما يرسمه هو ما تحفظه ذاكرته وما يخزنه عقله الباطن من صور وأشكال وألوان إما غائبة في الماضي وإما حاضرة في الذات ومن خلال امتزاجها بذات الفنان المبدعة تتم صياغتها في أشكال فنية مبدعة.
وأنا ابن بيئة متفردة وعيت على ضوء الشمس ووهج الصيف الذي يعطي الأشياء لوناً مفعماً بالضياء، فصور القرى المتناثرة والقبب الطينية والمآذن والمساحات اللونية في حقول القمح التي تتلألأ تحت ضوء الشمس سبيكة ذهبية ومنظر الحصادين، كل هذه الصور في عقلي الباطن وخيالي أستدعيها عندما أرسم فيأتي اللون وتحضر الصورة وكلاهما يمتزج ليشكل رؤيتي الفنية ومقدار الوعي الفني لديّ فأنا ملون بقدر ما تحفظ ذاكرتي ووعيي.

عملك الذي شاركت به في «حالة حبق» بيع، تحدث لنا عن الأثمان التي يحصل عليها الرسام لقاء أعماله في ظل الأزمة التي نمر بها، وهل تناسبك شخصياً؟
وصلت الحالة الفنية والتشكيلية في سورية قبل الازمة إلى العالمية من حيث النوع والكم وكثرت الصالات الخاصة والحكومية وتنافست فيما بينها لتقديم فن حديث وناضج وتقديم تجارب تشكيلية محلية وعربية وأجنبية ودخلت لوحة الفنان السوري في مزادات الفن العالمية، وأصبح مدخول الفنان جيداً لكثرة تسويق اللوحة وهذا انعكس على أدائه.

أنت في طور التحضير لمعرض جديد تحدث لنا عن ذلك؟
في دمشق ألهمني بياض الياسمين فكان مشروعي القادم هو المرأة والحب والشعر وكانت بداية مشروعي هو أول لوحة رسمتها في دمشق وفيها يبدو تحولي وانتقالي من اللون الأسود إلى ألوان أكثر إشراقاً ووضوحاً وسميتها «دمشق أهلك أحبابي وموعدنا»، وفيها استخدمت أبياتاً من أشعار نزار قباني ومحمود درويش وهم يتغزلون بدمشق وكانت قد بيعت اللوحة في المعرض ولاقت استحسان الجمهور ثم أتبعتها بلوحة «بياض الياسمين» التي شاركت بها في معرض حالة حبق وهي عبارة عن فتاة بزي العروس وتحمل في يدها حمامة وقد طرزتها بقصيدة لنزار قباني يقول فيها:
آه لو التقينا بدمشق الشام يا سيدتي
حين كان الورد أستاذي
وكان الفل أستاذي
وكان الشعر أستاذي
وأستاذي بياض الياسمين
ليتني خبأت في خصرك ناياً عربياً
وعلمتك مالا تعلمين..
وأعمل حالياً على هذا المشروع بكل حب ونشاط وهو رسالة حب لدمشق ولسورية التي علّمت الناس الأبجدية والحب لأن الفن بلا رسالة هو مجرد رسم وخطوط.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن