قضايا وآراء

«إسرائيل».. إذا ما مات جموح الخيال

| عبد المنعم علي عيسى

تراقب تل أبيب المعارك الدائرة في جنوب عرسال بالكثير من المتابعة والاهتمام كما لو أنها معركتها هي لا معركة غيرها، إذ لطالما أشار العديد من التقارير والتحليلات وكذا الوثائق المسربة، إلى أن نموذج حزب اللـه بات يمثل إليها الخطر الأكبر الذي يتهدد وجودها، والنموذج هنا لا يعني فقط القدرات العسكرية على أهميتها وإنما يعني تلك الذرا التي وصل إليها الحزب فيما يخص المعلوماتية وتطوير الذات عبر مواكبة ما يجري حتى لا يبقى قوة خارج الزمن محكوم عليها بالفناء، وكذلك يعني تلك القدرات الاستخباراتية التي تطورت بشكل مذهل والتي استطاعت تفكيك عشرات الخلايا التجسسية التي تعمل لمصلحة تل أبيب، وصحيح أن بعضها قد يكون قائما إلى الآن إلا أن القائم ليس بقادر في أي حال من الأحوال على الوصول إلى «غرف نوم» الحزب، ولربما ما هو مقلق أكثر، هو ذلك الجيش من الخبراء والطلاب الساعين إلى تعلم اللغة العبرية ومعرفة عدوهم عن كثب.
العامل الأهم هو امتلاك الحزب لتلك الاندفاعة التي تدركها الأجيال المؤسسة للكيان الإسرائيلي، والتي يختلط فيها الواقع بالخيال والكل ممتزج بروح الأساطير التي تعمل على استنساخ وتطوير الملاحم التي ساعدت في حماية الدول والكيانات على مر مراحل التاريخ، بينما تلحظ غرف صناعة القرار الإسرائيلية أن تلك الروح التي لا يمكن خلقها أو اصطناعها قد باتت غائبة تماماً في الذات الإسرائيلية، وهي تراقب ذلك بقلق وتوتر شديدين، لأنها تدرك أنه عندما يموت جموح الخيال في حماية الكيان عندها يبدأ هذا الأخير بالتلاشي.
في 9 نيسان من عام 1973 قامت مجموعة عسكرية عالية التدريب، بقيادة أيهودا باراك الذي أضحى فيما بعد رئيساً للوزراء الإسرائيلي، بالنزول على شواطئ بيروت عبر قوارب مطاطية أقلتهم من السفينة التي ترابط في عمق المياه اللبنانية، ومن ثم ركبوا سيارات أوصلتهم إلى أهدافهم دونما تعثر أو إرباك، كانت المجموعة تسير بتخطيط منظم وتدريب عال وتمارس عملها كما لو أنها ابنة الجغرافية أو ابنة المكان، وقد استطاعت، المجموعة، خلال تلك العملية اغتيال ثلاث من قيادات منظمة التحرير الفلسطينية الكبار بينما نجا ياسر عرفات بالمصادفة عندما سمع مرافقه كلاماً عبرياً في الشارع الملاصق للبيت الذي ينام فيه فأشار إليه بضرورة مغادرة المكان فوراً.
كانت تلك العملية جموحاً للخيال يلامس حد الانتحار، وفي الآن ذاته له ضوابطه الكفيلة بنجاحه، بينما المصادفة وحدها هي التي يمكن أن تنهي الحلم بالوصول إلى الهدف أما الروح التي تظهرها تلك العملية فهي من النوع المندفع إلى ركب أمواج المخاطر واقتحام البحار بحثاً عن خطر ما يتهدد الكيان أو يهز أمنه واستقراره، كانت المناخات السائدة في إسرائيل في تلك الآونة كفيلة بشحذ الأذهان وتفتق الخيال في تناغم يبدو كأنه استعادة للأساطير التي تروى أو تتناقلها الأجيال.
اليوم تبدو الأجيال الأمنية الجديدة في إسرائيل فاقدة لتلك المزايا أو إنها استكانت بفعل انتفاء التهديد الخارجي للكيان حتى باتت غير قادرة على الإتيان بجموح يقارب نظيره لدى أجيال المؤسسين، بينما بات حزب اللـه هو من يملك ذلك الجموح وهو الساعي لاستعادة روح الأـساطير التي تغرق في استخدام الخيال وسيلة لحماية الذات أياً تكن تلك الذات.
هذا الأمر بات مقلقاً بشكل كبير فها هي صحيفة «هآريتس» الإسرائيلية في أيار 2017 تقول إن هناك استعدادات مكثفة للجيش الإسرائيلي لمواجهة تطور حزب اللـه في المجال السيبري، محذرة في الآن ذاته بأن قدرات الحزب في هذا المجال تكاد تكون مساوية للقدرات الإسرائيلية، مع فرق مهم هو أن الحزب يمارس قمة السرية في تعاطيه مع هذا المجال، في حين أن تل أبيب تجد نفسها مضطرة للكشف عن بعض الاختراقات التي تحققها مثل الاختراق الذي حققته في أيار المنصرم لمكتب الإعلام في الحزب، خلال كلمة متلفزة له كنوع من الحرب النفسية أو لرفع معنويات الجيش والمجتمع الإسرائيليين.
الثابت الآن هو أن تل أبيب قد انتقلت من مواقع الهجوم إلى مواقع الدفاع، ولا يستدل على ذلك فقط ببناء حائط يفصل الأراضي الفلسطينية المحتلة عن الأراضي اللبنانية، وإنما يستدل عليه أيضاً في الجدران التي تعمل على بنائها لحماية تفوقها في الكثير من المجالات دون جدوى، فقد مات جموح الخيال في أجيال أثرت، أو هي تعيش الرخاء فقط، وتبحث عن إقامة أفضل العلاقات مع الغرب لربما بدافع نابع من ذاتها الجماعية يقول لها بأن ثمة مساراً عكسياً للمسار الذي سارت فيه طوال عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، قد تكون مقبلة عليه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن