ثقافة وفن

أول مخرجة في التلفزيون السوري أوقفت البث عن حلقات مسلسل حياتها … غادة مردم بك تودع الدنيا.. المخرجة صاحبة البصمة في الحضور والغياب

| سوسن صيداوي – تصوير: طارق السعدوني

ياسمينة من الياسمين الدمشقي، سقطت من على شجرة حياتها، إلا أن عبيرها سيبقى فواحاً بين الحارات الدمشقية التي عشقتها، وكانت تستمد منها قوتها وطاقتها المتجددة في الصباحات والمساءات. هي أول مخرجة تلفزيونية، اسمها كبير وله مساحته الواسعة على شارات البرامج، إنها غادة مردم بك، غادرتنا، تاركة هذه الدنيا، بعد أن أحاطت بكل من يلتقيها أو يكلمها أو يتعرف عليها بمعنى الجمال وضرورة حب الحياة مع السعي للعيش بفرح مهما بلغت الصعاب، إنها سيدة من زمن جميل وأصيل، كبرت بين العمالقة وعملت مع النخبة في تأسيس التلفزيون السوري، الأخير الذي هجرت متابعة برامجه منذ زمن طويل، لأنه سبّب لها الحسرة والأسى لما يدور في جوانبه من عمل بغير المستوى المطلوب على الصعد كافة، وهو أمر مختلف تماماً فيما تعودت عليه هي والفريق العامل معها. في اللقاء دموعها انسكبت بحرقة في السؤال الأخير، حتى إنها لم تستطع منعها عندما سألتها عن سورية الوطن فأجابت بصوتها المتهدج وبحرقة «أريد لسورية أن تعود أفضل مما كانت عليه». رغم تعلق أنفاسها بنبض الحياة، إلا أن النبض خانها هذه المرة وتوقف إثر وعكة صحية ألمت بها بشكل فجائي واستمرت لشهر، فودعتنا عن عمر ناهز 75 عاماً ووارى الثرى جسدها في مقبرة باب الصغير، بعد أن تم تشييع جثمانها من مشفى أمية والصلاة عليها في جامع بدر بحي المالكي.
في السيرة الذاتية
المخرجة التلفزيونية «غادة مردم بك «ولدت في بيروت عام 1941 من أسرة دمشقية عريقة في المجد، عرف منهم السياسيون والشعراء.
درست الثانوية العامة في مدرسة الفرنسيسكان ثم سجلت في كلية الحقوق.
تزوجت من الأستاذ المحامي غازي بن دولة سعيد بك الغزي السياسي المعروف.
دخلت مسابقة مخرجين في التلفزيون السوري عام 1960 ونجحت فيها.
بدأت رحلتها المهنية قبل بداية التلفزيون بيوم واحد كمساعدة مخرج في نشرة الأخبار إلى أول مخرجة بين السيدات في التلفزيون السوري، وبين محطتي برنامجها الأول (نادي الأطفال) أوائل الستينيات من القرن العشرين وبرنامجها الأخير (صبيان وبنات) عام 2005 تركت بصماتها على العديد من برامج المسابقات والبرامج المنوعة والثقافية والخاصة بالأطفال.
كرمت في دار الأسد للثقافة والفنون بمناسبة العيد الذهبي للتلفزيون العربي السوري.
أوفدت إلى ميونيخ بألمانيا في عام 1961 لدورة إخراج، وبعد العودة عملت في البرامج المنوعة والسهرات الحية على الهواء مباشرة.
عملت إلى جانب الأديب عادل أبو شنب الذي كان آنذاك معداً لبرنامج مجلة التلفزيون، وعدة أعمال ثقافية منوعة مع المذيعة سعاد دباح منها (نصف ساعة من وقتك)، وأبرز محطات عملها الإخراجي كانت في برامج المسابقات مثل برنامج (أسود وأبيض)، و(أبراج) كما أخرجت برنامج (فكر واربح) و(الحظ وشيء آخر) و(سؤال عالماشي).. وكان آخر البرامج التلفزيونية الذي قامت بإخراجه برنامجاً للأطفال بعنوان (صبيان وبنات) الذي نال جائزتي الإعداد مرة والجائزة والجائزة الفضية في مهرجان القاهرة كبرنامج متكامل، وبرنامج (مع الشعر) الذي كان يعده عبد القادر قصاب.
إلى جانب الإخراج، عملت قليلاً في الإذاعة في باب الترجمة، وكانت تترجم من الإنكليزية والفرنسية إلى العربية بعض المواد، كما ترجمت العديد من القصص لمجلة أسامة الخاصة بالأطفال وشاركت أحياناً في إعداد بعض البرامج التي كانت تخرجها ومنها برامج في المسابقات أو مجلة التلفزيون، وكانت دائماً تهتم بديكور البرامج، وتعتبره مسألة مهمة جداً، لأنه أول شيء يقع بصرنا عليه لدى مشاهدتنا الشاشة الصغيرة.

عين «الوطن»
كانت صحيفة «الوطن» انفردت بلقاء الراحلة، في العام الماضي في منزلها الكائن في مشروع دمر بتاريخ 27/7/2016، كانت جميلة محاطة بكل ما هو جميل، عندما يدخل المرء إلى منزلها يلاحظ اعتزازها الكبير لسوريتها وحبها لتراثها الدمشقي، من خلال ما يحتويه المنزل لكل ما هو قيّم وجميل من لوحات تشكيلية وشرقيات حاضرة في كل الزوايا والأثاث والإنارة. جلست بقربها.. فجعلتني أشعر بأنها صديقة لي ومن عمري نفسه، وبعدها وخلال الحديث تغيرت الصفة فوجدتها الأخت والأم والمديرة والمخرجة، حتى شقاوتها المرحة واضحة، وقوتها وعنفوانها البادي نبرة صوتها وفي ملامحها مألوف لكونها الفتاة البكر التي تربت بين الصبية. كانت تتكلم بطرافة وبسخرية عن التقدم بالعمر وبأنه أمر طبيعي ولن يقصيها عن التمتّع بالحياة مهما واجه الجسد من أمراض وأسقام، وفي هذا الحديث استرجعت غادة مردم بك محطات من حياتها.
«الوطن» تعيد مفاصل من آخر حوار أجري معها.

المخرجة والتقاعد
هذه السنة الرابعة عشرة لتقاعد المخرجة عن عملها في التلفزيون السوري، ولكن حول مشوار البدايات وتنوع ما عملت به في حياتها، كانت حدثتنا في بداية اللقاء بشكل مختصر «عندما بدأت العمل بالتلفزيون كنت صغيرة جداً بين عمالقة، ومرعوبة وأشعر بالخوف الكبير، وعند مباشرة العمل وفي التو، كان مطلوباً مني أن أقوم بالنقل الخارجي والمباشر من سينما الزهراء، وهنا حصل أمر جد جميل، لأن الدكتور صباح قباني كان بطبعه مباشراً في التعامل مع الآخرين، فعندما يقوم أي موظف منا في التلفزيون بعمل جيد، كان على الفور يتصل به ويهنئه، في حين لو كان العمل سيئاً لا يجد أي صعوبة في التأنيب القاسي، وبالعودة إلى النقل الخارجي، رن هاتف سيارة النقل، وطبعاً قمت بالرد وأنا أرتجف لأنني كنت أخاف من دكتور صباح كثيراً، وقلت له «نعم دكتور بتريد شي؟». فرد علي قائلاً: «أخذتي لقطة بتطير العقل، تسلم إيديكي».
وعن برامجها تابعت متحدثة «أنا تابعت العمل في إخراج البيت السعيد، الذي كان مخرجه عاطف حلوة، كنت بدأت ببرنامج «نادي الأطفال» مع هيام طباع، إضافة إلى برامج منوعة تحكي عن المناسبات والأعياد، إضافة إلى البرامج الكثيرة في المجال الثقافي والشعر العربي، وأيضاً في المسابقات التي قدمنا أنا والأستاذ مهران يوسف مجموعة منها في برنامج «أبيض وأسود» الذي كان الاستديو المخصص له رائعاً وبشكل رقعة شطرنج، إضافة إلى أنني كنت أحب الترجمة من الإنكليزية إلى العربية ومن الفرنسية إلى العربية، وهذا الأمر مكنني من العمل في الإذاعة كمترجمة، كما ترجمت قصصاً صغيرة لمجلة أسامة، وللأسف الشديد ما كنت ألاحظه سواء في التلفزيون أم الإذاعة بأنه كان هناك ضعف كبير في إجادة اللغات الأخرى، وإلى هذا الوقت توجد ركاكة ولكن ما يعزينا إلمام البعض باللغات، وبالطبع هذا أمر معيب جداً، ومن الأعمال التي شاركت فيها خلال مسيرتي في التلفزيون الإعداد ولفترة طويلة في مجلة التلفزيون مع الأستاذ عادل أبو شنب».

من لقاء «الوطن»
أنت من مواليد بيروت ولكنك من أصل دمشقي عريق، ومن عائلة مردم بك المشهورة بثقافتها الأدبية والسياسية، ماذا تتذكرين عن خليل مردم بك وابنه عدنان مردم بيك؟
في الحقيقة خليل مردم بك لم أعرف عنه شيئاً شخصياً، ولا أعرف سوى أنه هو من ألف النشيد العربي السوري، ومعرفتي عن عدنان، أن اهتماماته المسرحية والأدبية قدمها بطريقة مختلفة عن أبيه، وحتى عدنان لديه ابن قالوا لي إنه يكتب إلا أنني لم أقرأ له شيئاً، لأنني في الوقت الحالي مخالفة لعادتي في القراءة.. لم أعد مهتمة بالقراءة كالسابق، ولكن بالعموم ما أريد قوله إنهم نعم عائلتي ونحن تجمعنا القرابة وهذا كل شيء.

أنت من مواليد بيروت… هل تربيت هناك؟
لا، أنا من مواليد بيروت صحيح، ولكنني تربيت في دمشق وعشت وكبرت وحياتي كلّها في دمشق، فأبي سوري وأمي لبنانية وعندما حملت أمي بي كان عمرها ثمانية عشر عاماً، وطبعاً عند الولادة وحسب العادة ذهبت لتلد بين أهلها في بيروت ليقدموا الرعاية لها ولي، ولهذا كان السبب بأن تم تسجيل مواليدي في بيروت، وبالطبع عشت في الشام ودرست في الشام وتزوجت وأنجبت في الشام وعملت في الشام، وبالتالي الشام… حبيبتي.

دخلت كلية الحقوق لكنك لم تتابعي دراستها؟
نعم… بدأت دراسة الحقوق وهناك أسباب عديدة غيرت رغبتي في متابعتها، أول سبب كان عملي في التلفزيون الذي كان يلهيني عن الدراسة، وخصوصاً أنه عمل مميز والتلفزيون العربي السوري وقتها كان في تأسيسه والأنظار كلّها علينا، وأنا أريد أن أثبت نفسي وبأنني أستطيع أن أقوم بهذا العمل، فهذا تطلب مني وقتاً وجهداً كبيرين، أما السبب الثاني لعدم متابعتي لدراسة الحقوق فلأنني في وقتها كنت متزوجة ولدي ابنة، وكنت أحب أن أربيها بالطريقة التي تعجبني أنا، إضافة إلى أنني أهتم ببيتي كثيراً فهو بالنسبة لي بالمرتبة الأولى وقبل كل شيء، وبطبيعتي لا أحب أن أقصر أبداً بواجباتي، فكان لا بد لي من الاستغناء عن أحد الأمور وكان أسهل ما أضحي به هو أن أستغني عن دراستي.

باشرت العمل في التلفزيون العربي السوري قبل يوم من افتتاحه؟
تماما.. كان عقدي للعمل في التلفزيون العربي السوري بتاريخ 22/7/1960 والتلفزيون افتُتح في 23/7/1960.
وكنت أصغر موظف في الكادر عمراً؟
صحيح… وكلهم كانوا في العشرينيات مثل خلدون المالح، عبد الهادي البكّار وعادل خياطة وسامي جانو، وكلهم كانوا مذيعين في إذاعة دمشق، لأنهم قرروا أن يتم تأسيس تلفزيون في الإقليم الشمالي أي في سورية، ولأن تاريخ الانطلاق محدد، قاموا بتوظيف كل من كان بإذاعة دمشق وتم تأسيس التلفزيون، وفي يوم الافتتاح كنا في غرفة المراقبة وعندما قالوا «هنا… تلفزيون دمشق» كانت لحظة رهيبة لا يمكنني وصفها وحتى الآن كلما أذكرها يقشعر بدني، وكان في كل يوم لدينا عدد من الساعات المباشرة وكنا نتبادل قسماً من البرامج والمواد مع تلفزيون القاهرة، وأكثر مادة كنت أحبها كثيراً هي برنامج «البيت السعيد» الذي كانت تعده وتقدمه في ذلك الوقت «نادية الغزي» وحتى الآن لم أرَ وجهاً أو طريقة أو أسلوباً في الكلام مع الناس والجمهور مثل «نادية الغزي».

كيف كانت المنافسة بينكم؟
لم يكن بيننا من منافسة أبداً، فكل منا يقوم بعمله وما يوكل إليه، وله اختصاصه المسؤول عنه.

إذاً أنت أول مخرجة برامج تلفزيونية… سورية؟
أول سيدة تعمل بالإخراج السوري هي غادة مردم بك.

في وقتكم… العمل في التلفزيون كان يتطلب جهدا… بعكس الحاضر الذي سهّلت وبسطت فيه التكنولوجيا العمل؟
نعم… عمل المخرج ليس فقط بإتقان الأجهزة لأن المخرج مخرج برؤيته وطريقته بالعمل وبتسلسل المواد والأفكار وبحركات الكاميرات، وليست الرؤية أو الفكرة بأننا وضعنا ديكوراً جميلاً وندور حوله بالكاميرات واللقطات.

إذاً من أسسوا التلفزيون السوري كانوا مبدعين.. والناهضون اليوم هم موظفون؟
فيها وجهة نظر… ولكن أريد أن أشير إلى أمر يتعلق بالإخراج التلفزيوني على التحديد ليس كل من حمل كاميرا وصور بها صار مخرجا، وفي الوقت الحالي على أي أساس يتم الاختيار والتسمية؟ على زمننا كنا نعمل ونحن على الهواء مباشرة ولم يكن هناك مونتاج فـ«الغلطة بكفرة» واللقطة عندما تظهر يراها الناس ولا يمكن لأحد أن يعيدها أو يصححها، ولكن هناك أمراً يزعجني جداً ويؤلمني.

ما هو؟
استديو قاسيون وغرفة المراقبة الخاصة به والمواد التي كنا نعملها كلّها لم تبق للتلفزيون، فللأسف الشديد أصبح المكان مستودعاً، كان لا بد أن يبقى ذكرى لأن به افتتحنا التلفزيون العربي السوري وكان يُفترض أن يكون مفتوحاً للزوار ليعرفوا كيف كانت البدايات، وكيف كانت تقدم نشرات الأخبار، والمكان الذي كان يقدم فيه المذيعون البرامج وحتى ممثلو الدراما، لكن للأسف هذا كله انتهى.

كنت مخرجة ولكن في بعض البرامج الأخرى شاركت بالإعداد، إلى أي مدى الإعداد مهم للمذيع والمخرج، وخصوصاً المذيع اليوم حاله حال الببغاء؟
نعم الإعداد مهم جدا، في بدايات التلفزيون كنت أشاهد التلفزيون اللبناني، الذي كان في بداياته أيضا، وقتها المذيع كان يشارك في إعداد النشرة، والورق الذي بين يديه يساعده كي يتصرف بحرية ويتلافى المواقف والأخطاء وأن يعبر بطريقته، بعكس ما يُتبع في بعض البرامج سواء الإخبارية أم غيرها، وفي الوقت الحالي المذيع يقرأ ما هو مكتوب وأنا لا أرى أمراً جيداً لأن هذا يحد من قدراته على النقاش.

على الرغم من أن التلفزيون اليوم وفرّ كل ما هو ممكن لماذا فيه تراجع؟
في الوقت الحالي الاهتمام بالشكل ولا اهتمام بالمضمون، ليس الجميع، ولكن هناك نسبة كبيرة للأسف، ولا ضرورة للاهتمام بالجمال الخارجي والتكلف بالأزياء، والعادة المتبعة اليوم هي البعد عن البساطة وهذا أمر جداً خطر.
ما أريد قوله إنني قضيت عمري مخرجة لبرامج التلفزيون السوري وقضيت عمري وأنا أحاول أن أقدم الأفضل ولليوم إذا كان بإمكاني العمل فسأسعى بكل قوتي أن أقدم الأفضل… أتمنى أن يتمثلوا بي وأن يعملوا بحب ويبتعدوا عن السعي المادي البحت والبعيد عن الرغبة في العمل ومحبة العمل.

قدمت لسورية الكثير.. ماذا تريدين منها أن تعطيك؟
أنا سورية بامتياز ودمشقية بامتياز وسورية حبيبتي التي أريد منها أن تعود أحسن مما كانت.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن