ثقافة وفن

بحر الدموع.. وأرض الشموع … نشعل الشموع احتراماًً لذكراهم والصلوات لدموع الأمهات

| سارة سلامة

لم تنسها المسافات الشاسعة ما يعانيه بلدها ولم تخف يوماً ما حزناً يعتصر قلبها هي دائماً هكذا تعيش وجعه من بعيد تتذكر تفاصيله تصلي وتشعل الشموع، تحمل همّ بلدها أينما وجدت وتبحث عن حقيقة لا يحب أن يعرفها الكثيرون، الكاتبة السورية المغتربة سهام يوسف دفعها كل ما يجري في بلدها للكتابة، وعلى الرغم من هذه الغربة في المكان إلا أنها أقرب ما تكون إلى كل مواطن وبيت سوري فاليوم وهي تصدر روايتها الجديدة «بحر الدموع.. وأرض الشموع»، نراها تعيش في كل لحظة واقع بلدها حتى المشاكل التي تعتبر القوت اليومي للمواطن من أزمة البنزين وحتى القصص اليومية بأسلوب أقرب ما يكون إلى كتابة اليوميات مع ذكر التفاصيل الدقيقة لكل جزئية بسيطة والأسماء الحقيقية للأشخاص وأسماء الأماكن، ما يجعلنا نسترجع أيام وأسلوب الحكواتي السوري ونشعر بالواقعية والقرب من ذواتنا، ابنة القامشلي دفعها الحنين والحب والشوق لبلدها إلى الإبحار في الكتابة حيث نراها تعيش عذاب كل أم شهيد روى دمه تراب سورية ومع كل دمعة طفل سالت قهراً على فقدان حضن يؤويه، وتبدو حزينة كحزن البحر الذي أزهق حياة إيلان وغيره من السوريين. أما عن سبب تسمية روايتها فتوضح ذلك وتقول:
لماذا بحر الدموع وأرض الشموع؟
لأن البحر الأبيض المتوسط ابتلع مئات السوريين من مختلف الأعمار، فكتمت مياهه ابتسامتهم، واستقرت في قاعه أجسادهم، وأصبحت أحلامهم زبد أمواجه.
ولأنني كواحدة من بين آلاف النساء السوريات نبكي أعزاء فقدناهم وأحبة لن نعود نراهم وبكائي لا يقارن ببكاء أمهات الشهداء وزوجاتهم ونحيب أطفالهم.
ولأننا نشعل الشموع احتراماً لذكراهم ونرفع الصلوات لتزهر دماؤهم انتصاراً لسورية وترفّ في جنة الخلد أرواحهم.
شهرزاد السورية

قال القاص السوري ناظم مهنا إن «هذه الرواية ليست فقط سرداً لأحداث اجتماعية، بل هي تؤرخ روائياً لأحداث ولحقبة سياسية واجتماعية تتعلق بحياة السوريين، وهي عبارة عن قصص متفرقة، يربط بينها رابط معنوي قوي ومركزي وشديد التأثير، وهذا ما يمكن أن يطلق عليه «البعد السائد»، وقد اختارت السيدة سهام أن يكون البعد السائد في روايتها هو مأساة وطنها سورية، وهو اليوم موضوع وطني وعالمي أيضاً، تسوق كل هذه القصص والحكايات والأحداث واللقاءات لتستدرجنا إلى الموضوع السوري بأبعاده الحضارية القديمة والمعاصرة، ولتبين أن الشرّ العالمي، بدافع المصالح والإيديولوجيات والأحقاد والحسد، تلاقت كلها في حرب مدمرة على هذا النموذج السوري العريق، الذي يصلح لأن يكون قدوة للعالم في السلام والمحبة بين أفراده وبينهم وبين العالم».

كلمات من القلب
ووجهت يوسف الإهداء إلى كل شرفاء العالم.. الذين هزهم الألم السوري.. وقالت مستهلة الرواية بكلمات من قلبها: «يسعدني أن أقدم للإخوة الأحباء والأصدقاء الأوفياء والقراء الأعزاء هذه الصفحات التي كتبتها بيدٍ ارتجف القلم مراراً بين أصابع كفها المرتعشة يمدها بالقوة نبض قلب اعتصره الأم والحزن كثيراً وهي تخط ما تحتويه من حالات إنسانية سمعتها وتأثرت بها فكان ألمي وحزني مضاعفين.. فكم حزنت وبكيت، وأنا استمع إلى الأشخاص الذين ألهموني كتابتها؟ وكم تكرر ألمي وبكائي وأنا أعيد كتابة ما تحدثوا به أمامي بكل أمانة وصدق؟ حتى إنني حاولت أن أجسد وأنقل وأصور مشاعرهم بالأحرف والكلمات، وكم أشعلت الشموع لأجلهم ولذكرى أطفال تحدث عنهم أب أو أم قضوا نحبهم وهم ينشدون طريق الخلاص؟».

التعلق بالوطن
بوطنها السرّ الذي يدفعها دائماً للسمو والحب والعشق والشعر والأغاني، كل هذا يمرّ بها كشريط ذكريات يدفعها للتعلق بكل تفصيلة صغيرة في هذا البلد الذي طالما تغنى به الشعراء وكان مهداً للحضارات، حتى ذكرى والدتها التي أمضت آخر أيامها هنا، فهنا أنفاسها وروحها وذكرياتها حيث تقول:
يشرفني القول: إنني تعودت وأدمنت زيارة وطني «الأم سورية» مرتين أو ثلاث مرات سنوياً قادمةً من السويد وغالباً ما تكون الزيارة الأولى في الشهر الأول من فصل الربيع فأمضي أسبوعين أو ثلاثة أسابيع في ربوعها ثم أغادر لأعود في منتصف أو مطلع شهر آب فأمضي شهراً كاملاً بين دمشق ومشتى الحلو. وحين كان يسمح الوقت كنت أذهب إلى منطقة المالكية والقامشلي، وكانت والدتي قد أمضت سنوات عمرها الأخيرة في دمشق وتوفيت بتاريخ 22/5/2013 كنت أكرر عودتي إليها بمناسبة أعياد الميلاد وفي كل مرة كنت أصل فيها، ينتابني شعور وكأنها المرة الأولى التي أزورها فيها، كيف لا وهي معشوقة الشعراء ومحط رحال الأدباء ومسرح أهل الفن الرفيع ومنصة فيروز والرحابنة وسياج الياسمين الذي ينتشر عبقه في قصائد نزار قباني على مرّ السنين دمشق التي تمنح الدفء والحنان لكل عابر فيها أو قادم إليها، أو مودعٍ لها.

كنيسة بودن
تروي لنا يوسف قصة حدثت معها وربما كانت مصادفةً جميلة أن تكون في مكان ما بعيد وغير متوقع أن يحدث ما حدث وتسمع الصلوات تقام من أجل سورية في كنيسة نائية وغير معروفة، فما الدافع الذي دفع بهذه الكنيسة وبالخوري السويدي ليقيم القداس لأجل بلدها ونراها تذهب إلى الكنيسة حاملة كل هذه المشاعر والأسئلة حيث تقول:
ذهبت صيف العام الماضي مع مجموعة من زملاء المهنة، للعمل في الترجمة في دائرة الهجرة، إلى مدينة «بودن» في الشمال السويدي، استغرق الوصول إليها جواً نحو ساعة ونصف الساعة.
وبوصولنا وجدنا سيارة أقلتنا إلى الفندق، واستغرق وصولنا إليه قرابة ساعة من الزمن، كان الطريق جميلاً غير مزدحم والأشجار التي تحفُّ بجانبيه تزيده جمالاً. ولم تكن دائرة الهجرة بعيدة عن الفندق، وغالباً ما كنت أمشي إليها عندما يكون الجو صحواً، فالأمطار يمكن أن تهطل عدة مرات في اليوم، وفي الصيف يكون النهار طويلاً فما إن تغيب الشمس قرابة منتصف الليل حتى تظهر ثانية بعد منتصفه.
خلال وجودي في غرفة الفندق سمعت صوت جرس كنيسة، فاستغربت الأمر لأن الساعة تجاوزت الرابعة بعد ظهر يوم الأحد، وضوح الصوت يدل على أن الكنيسة لا تبعد كثيراً، فصممت أن أستوضح عن الأمر من سيدة تعمل في مطعم الفندق، نزلت من غرفتي إلى المطعم في الطابق الأرضي وقلت لتلك السيدة: قبل قليل سمعت صوت جرس كنيسة وقد استغربت ذلك، فالوقت أصبح متأخراً.
أجابتني: هذه الكنيسة أصبحت مشهورة في «بودن» بسبب ذلك، وسكتت، وهذه عادة أهل السويد يجيبون بشكل مختصر وبأقل الكلمات بمعنى «الجواب على قدر السؤال».
فقلت: لماذا اشتهرت بذلك؟ أتمنى أن توضحي الأمر أكثر فأنا أحب أن أزورها.
قالت: «منذ أكثر من سنتين وهذه الكنيسة تقيم قداساً بعد الظهر من كل يوم أحد ويقوم المصلون بإشعال الشموع والصلاة من أجل سورية»!

حلاوة التين ومرارة البنزين
تستعرض لنا الكاتبة يومها قبل السفر إلى السويد وفي هذا اليوم تعيش همّ كل مواطن وترى معاناته تحس به عندما كانت ستذهب إلى السوق لتحمل معها «التين» إلى السويد، وفي الطريق ينفد معها البنزين وتبدأ رحلة البحث عن محطة وقود لا تشهد ازدحاماً وكان هذا من المحال حيث تقول:
قبل انتهاء إجازتي التي أمضيتها في وطني الغالي سورية الحبيبة بعدة أيام نشرت على صفحتي الشخصية «فيسبوك» صوراً حقيقية من مشتى الحلو في محافظة طرطوس وريفها حيث كنت أقطف ثمار التين وأجمع من المساكب المزروعة بأنواع الخضر «الخس، والملفوف، والنعناع، والفليفلة.. إلخ» من عند سيدة رائعة معروفة باسم «أم خضر» قرب قمة جبل النبي صالح في أقصى الريف الشرقي لمحافظة طرطوس حيث يشعر المرء وهو عندها أنه على متن طائرة مكشوفة النوافذ، فالارتفاع شاهق ومساحة الرؤية واسعة.
دفعني حبي للخالدة سورية، أن أنشر للإخوة والأصدقاء الواقع كما هو والحقائق التي لا يساورني أدنى شك فيها عن الأصالة المتجذرة في عروق وأرواح السوريين وتمسكهم بجذورهم وتعلقهم بأمراس الحياة وكدهم ليقدموا للإنسانية كما قدموا في سابق عهدهم أرقى وأنصع صور التآخي والتكافل والتعاضد وخاصة أن الحرب تدور رحاها في أكثر من منطقة على أرض سورية المظلومة سورية الجريحة، سورية التي ستخرج من أتون هذه الحرب الكونية منتصرة وهذا ما قرأته ورأيته في عيون رجالها ونسائها وأطفالها. وكما يقول المثل «ما عندك همّ.. همّ جبنالك».
طلب أحفادي أن أشتري لهم ثمار التين ليتذوقوها في السويد، شعرت بالسعادة والفرح عندما طلبوا مني ذلك وقررت أن ألبي طلبهم، ومن أجل ذلك تركت بعض ملابسي في بيتي بدمشق، لأخفف من وزن حقائبي.
ويذكر أن الكاتبة سهام يوسف من مواليد 1961 تعلمت في مدارس المالكية والقامشلي وانتقلت للإقامة في السويد عام 1978، وعملت مدرّسة للغة العربية في مدارس «بوتشيركا» ثم حازت شهادة مترجم محلف من جامعة استوكهولم ولا تزال تمارس عملها مترجمة محلفة في اللغة العربية والسويدية والسيريانية لدى الدوائر الرسمية في السويد ونشرت العديد من المقالات في عدة صحف.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن