قضايا وآراء

قوالب «مسبقة الصنع»

| عبد المنعم علي عيسى 

كان الإعلان عن بدء العمل في منطقة خفض التصعيد الثالثة شمال وشرق حمص، في الثاني من الشهر الجاري، يعني في وجهه الآخر غير المعلن، أن الحرب السورية قد وضعت أوزارها أو هي على وشك أن تفعل، كما أن الحدث بجوهره يعتبر بمنزلة رسالة تريد أن تقول بأن لا أحد بعد اليوم قادر على تعديل خرائط السيطرة الميدانية أو تعديل المعادلات العسكرية القائمة في البلاد.
يمكن لحظ المتغير الدولي في التعاطي مع الأزمة السورية عبر «الأنفاس» التي تنقل ويصدر عنها ما يشير إلى تغليب «الكل» للأجندة التي تسهم بتهدئة الحالة السورية على أجندتهم الخاصة، بعدما كانت الحالة عكسية على مدار الأعوام الستة المنصرمة، أو هي تقوم على تغليب هذه الأخيرة على الأولى، هذا المتغير لم يحصل حباً بالسوريين ولا رغبة في إرساء السلام والاستقرار في سورية، وإنما لأن مفرخة الإرهاب باتت تتكاثر بمتوالية هندسية مرعبة، والخشية الآن هي أن أجيال المخيمات باتت قادرة على حمل السلاح، فمن كان عمره عشر سنوات في بدء الأزمة أضحى اليوم بعمر سبعة عشرة عاماً، وليس من الصعب استقراء ما يجول في أذهان تلك الأجيال التي عاشت حرمانا يكفي للحقد على البشرية جمعاء، أما الوسيلة التي ستعتمدها للانتقام فهي لن تكون إلا بالمزيد من التطرف والتشدد وممارسة العنف في حدوده القصوى.
باتت المعادلة التي تحكم علاقة الدول الفاعلة مع الأزمة السورية تختصر بأن الكل ماض نحو إيجاد حل لتلك الأزمة، فقد كان من الواضح أن ثمة تحولاً إستراتيجياً مهماً كان قد حصل منذ استعادة حلب إلى حضن الوطن في 22 كانون الأول 2016، إلا أن ذلك التحول كان يحتاج لكي يتسع ويصبح شاملاً، إلى توافقات روسية أميركية كبرى، بدا وكأنها متعثرة من خلال سقوط اتفاق لافروف كيري في 9 من أيلول الماضي، إلا أن الأنفاس الأميركية والروسية تبدو اليوم وكأنها متوافقة فيما يخص التسوية السورية على الرغم من وجود حالة توتر قصوى فيما بين البلدين لم تكن مسبوقة منذ نهاية الحرب الباردة عام 1989 على حد توصيف وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون مطلع الشهر الجاري، والراجح أن ذلك التوافق قد تم التوصل إليه بناء على قبول أميركي بعدم المساس بالثقل الروسي أو بمحاولات موسكو تقوية نفوذها بالبحر المتوسط حيث المحطة الأبرز هي سورية، وهذا القبول الأميركي بالتأكيد له ما يقابله وإن كان هذا الأخير غير مفضوح حتى الآن، حيث الشروط التي أعلنها تيلرسون في الأول من الشهر الجاري، اللازمة لانخراط بلاده في التسوية السورية، تبدو، على أهميتها، وكأنها «لا تطعم خبزاً»، فهو يحدد الشرط الأول بوحدة سورية وإقامة انتخابات حرة ونزيهة تدفع بقيادات جديدة إلى سدة السلطة في البلاد، أما الثاني فهو قيام إيران بتفكيك البنى العسكرية والثقافية والمجتمعية الإيرانية في سورية ووجوب مغادرتها البلاد فوراً.
وإذا ما كان الشرط الأول مرناً أو هو يتمتع بمطاطية كبرى، فإن الأخير يبدو صارماً وهو مؤشر على أن قنوات الاتصال الأميركية الإيرانية التي أنشئت في أعقاب التوقيع على اتفاق فيينا في 14 تموز 2015، لم تنجح في الوصول إلى تفاهمات إقليمية ودولية، أما المسائل التقنية النووية أو حتى برنامج الصواريخ الإيراني، أقله في مرحلته الآن، فهما ذرائع يمكن استثارة الرأي العام بهما فقط.
يشكل الموقف من الجماعات الإسلامية نقطة فراق كبرى فيما بين واشنطن وطهران، فعلى حين ترى الأخيرة وجوب دعم بعض تلك الجماعات، فإن الأولى باتت منذ حين في مرحلة «نفض اليد» منها، وأصعب أنواع الفراق هو الفراق بعد تحالف واشنطن التي سبق لها أن دعمت تنظيم الإخوان المسلمين منذ مطلع العام 2011 بناء على «وشوشة» قطرية عندما كانت الدوحة تتصدر المشهد الإقليمي إلا أن واشنطن عادت في أواخر عام 2012 لتعلن طلاقا بائنا مع هؤلاء في أعقاب اغتيال السفير الأميركي في بنغازي في 11 أيلول 2012 على يد جماعات إسلامية كانت واشنطن تقوم بدعمها وتمويلها، على حين بقيت طهران ترى إمكان دعم وتمويل بعض تلك الجماعات الإسلامية وعلى رأسها الإخوان المسلمين وخصوصاً في فلسطين ممثلين بحركة «حماس».
هذا الخلاف الأميركي الإيراني يمكن أن يختصره تصريح سفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة الذي قال في 30 من تموز المنصرم إن الخلاف مع قطر هو خلاف فلسفي فدول الخليج، بما فيها السعودية، تريد قيام أنظمة علمانية على امتداد المنطقة، على حين أن قطر تدعم الإخوان المسلمين وتريد إيصالهم إلى السلطة في العديد من البلدان، ومن الواضح أن العتيبة هنا كان يتحدث بوكالة أميركية، فمنذ متى كانت السعودية تريد قيام حكومات علمانية طالما ارتأت فيها تهديداً مباشراً لنظامها القائم في الرياض.
من الممكن اختصار الاستراتيجية الأميركية الراهنة تجاه إيران بالقول: إن واشنطن تسعى إلى إقامة حكومات علمانية وخلق سور «عولمي» من شأنه أن يؤدي إلى إحاطة النظام الإيراني بخصوم أيديولوجيين يصعب التلاقي معهم، وهو ما رصده جيداً نائب الرئيس العراقي نوري المالكي عندما قال في الأول من الشهر الجاري: إن واشنطن تعمل على تأجيل الانتخابات البرلمانية العراقية لإخراج التيارات الإسلامية من السلطة، وفي قطر عملت واشنطن على وقف ارتماء هذه الأخيرة في الأحضان الإيرانية على خلفية حصارها خليجياً، ظهر ذلك في دعوة دول الحصار في 30 تموز إلى فتح الحدود البرية مع قطر ومن ثم امتداح تليرسون للدوحة التي قال إنها تفي بالتزاماتها في ضوء وثيقة التفاهم الأميركية القطرية التي وقعها هذا الأخير مع نظيره القطري مؤخراً.
في اليمن يمكن القول: إن العمل جار على إضعاف الجماعات ذات الصبغة المذهبية أو التي تتلون بها، لكن مع حالة افتراق أميركية سعودية في الداخل اليمني تتمثل في الموقف من تنظيم القاعدة، فقد أعلنت واشنطن مؤخراً عن وجود قوات أميركية برية ترابط على الأراضي اليمنية لاستهداف بنى القاعدة وقياداتها على حين أن الرياض لا تزال ترى في هذه الأخيرة عصب القتال ضد الحوثيين وقوات الرئيس اليمني السابق علي عبد اللـه صالح، أما في لبنان حيث حزب اللـه، فالأمر يحتاج إلى دراسة متروية لا يدركها الخطأ ويجري إعدادها بدقة على مختلف المستويات بالتعامل مع تل أبيب التي تدرك هي الأخرى أن أي خطأ في الحسابات هذه المرة ستكون له تداعيات خطرة على الكيان الإسرائيلي برمته.
يبقى الشيء الأهم هو السؤال: هل الولايات المتحدة تعمل وتقوم بهذه الخطوات لإسقاط النظام القائم في طهران أو لإضعافه وإجباره على الانصياع للمطالب الأميركية؟ وإذا ما كان المسار الأول يحمل في طياته مخاطر إقليمية عظمى، فإن المسار الثاني يبدو وكأنه ملغى لدى القيادة الإيرانية التي تدرك أن أي تنازل إيراني جديد لواشنطن من شأنه أن يصب في مصلحة تيار المحافظين خصوصاً أن التوازن القائم ما بين هؤلاء وبين الإصلاحيين والذي سمح بوصول الرئيس حسن روحاني إلى السلطة في 2013 وتجديد ولايته الثانية في الخامس من الشهر الجاري توازن هش، ولربما انكشفت تلك الهشاشة بوضوح في احتجاجات حزيران 2009 التي أطلق عليها اسم الثورة الخضراء ولذا فإن من الصعب البناء عليه.
ما يحضر لسورية يبدو وكأنه قوالب «مسبقة الصنع» في الخارج على حين البلاد هي التي يجب عليها التأقلم مع تلك القوالب لا العكس وتلك سياسة خطرة من الصعب لها أن تدوم ما لم تكن ناجمة عن حالة احتياج داخلي سوري تدفع نحو رسم معالم سورية الجديدة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن