قضايا وآراء

فتاوى مجيَّشة.. والاستثناء السوري

| عبد المعين زريق 

ردد بعضِ «المتذاكين» عباراتٍ متكررةً سبق أن سمعناها طويلاً في السنوات العجاف السابقة في سياق ما دعي «الربيع العبري» ومعارك كسر العظم التي اجتاحت منطقتنا، وكانت إحدى تمظهراتها القاسية، وضع الجيوش العربية في موقع الاستهداف تحت شعار «يسقط حكم العسكر»، هذه العبارات تُشبهُ الفتاوى الجاهزة التي رأيناها وسمعناها على شكل تعليقاتٍ «غيرَ مسؤولةٍ» انتشرت وساحت في طولِ النت وعرضه، وعلى شاشات مشبوهة بالنفط والظلامية، رداً على أي حدثٍ سياسيٍ في الشوارع العربية، عباراتٍ قطْعيّةٍ حاسمةٍ كحدِّ السيفِ من مثل: الجيش المصري جيش خائن، جيش كامب ديفيد، مجرمو السيسي، يجب تغييره. والجيش العراقي عصابات المالكي الطائفية، جيش الرافضة، والجيش الليبي، كتائب القذافي الذي كفره القرضاوي وأحل دمه ووضعه في رقبته إلى يوم الدين، وأطلقوا على الجيش السوري «عصابات الأسد» وأفتوا سياسياً وشرعياً أنه جيش طائفي مجرم كافر يجب إبادته وقتال كل من يدعمه من مدنيين وعسكريين وعلماء وجهلة.
فُتحت المواجهات على كلِّ الساحات، وضخّ الإعلام النفطي بروباغندا مضلِّلة، شكّلت روايةً مفبركةً صعبةَ الاختراق، تم بها شيطنةُ الدولة السورية بكل مؤسساتها وبشكل خاص الجيش والمؤسسات العسكرية والأمنية، وبدا أن محاولة تصحيح هذه الرواية لسنوات برواية أخرى يصدقها الواقع والدم البريء النازف أمراً أشبه بالمحال.
وظل تساؤل العقلاء يصدح في تلك الساحات الافتراضية والمعارك العبثية التي تستنزف مقدرات الأمة وإمكانياتها البشرية والمادية: من العبقري الألمعي الفهيم الذي يثور شاهراً سلاحه أو مبرراً استخدامه ضد الجيوش الوطنية الجامعة، ويضمن بقاء الأوطان سليمة موحدة الأرض والمواطنين إن تفتتت فيها الجيوش أو حُلت؟! هل نحن بحاجة لأدلةٍ على ذلك؟! ولماذا تخوض اليوم كلُّ الجيوش العربية المعتبرة بكل تنويعاتها، سواء تلك التي واجهت وعادت الثورات أو التي وقفت معها أو تلك التي وقفت على الحياد، حروباً مصيريةً لمنع التقسيم ولصدِّ الإرهاب؟!
قُدمت تحليلات أطنبت في تقديم شروحات وأمثلة من أنحاء العالم مفادها أن التجارب والأحداث التاريخية القريبة والبعيدة أثبتت إخفاق الجيوش الميدانية عندما تواجه حروب العصابات، ولا يكاد يذكر التاريخ استثناءات، فلماذا يتحقق الاستثناء السوري وما مبرراته؟ ولماذا لا يفشل الجيش السوري في مواجهاته مع عصابات متنوعة لا تحصى وألوية وكتائب وفرق وجيوش بأسماء «مباركة» غير مسبوقة؟!
ما فاتَ المنظرين السياسيين الذين كتبوا بصعوبة انتصار الجيوش على العصابات، أن الجيش في سورية ليس وافداً إلى ساحة المعارك الدائرة، وليس محتلاً لها أو مرتزقاً، بل هو يدافع عن أرض وطنه، والجيش السوري الممثل لوحدةِ الكيان السوري بأطيافه المختلفة، هو الركيزة الأساسية التي تستبقي وحدة الأرض السورية وهو ضمانته الوحيدة، وقد أثبت الجيش في السنوات السابقة من عمر الحرب على سورية، أنه قادر على إكمال مسيرة التضحية والفداء، وأنه استطاع أن يمر بأصعب المراحل وأن يتجاوزها، وبات إكمال المشوار لتصفية هوامش العدوان والإرهاب أقلَّ كلفة.
ازداد هذا الجيش في مشوار الدفاع عن سورية مِراناً وتدريباً عملياً، واكتسب الخبرة اللازمة في حرب العصابات، وأُضيفت لعديده الكثيرُ من الفصائل الشعبية والحزبية الداعمة، مثل الجيش الوطني وكتائب الأحزاب والدفاع الوطني وغيرها، التي عانت من حالات الشيطنة والكره والاستعداء الشديد.
إن الطبيعة المحتدمة والمحمومة والمجنونة في الصراع من أجل السيطرة على سورية أو استنزافها وتدميرها، والتي تشابه معمودية الحديد والنار التي تخوض بها سورية وشعبها وجيشها امتحانها المصيري وحرب بقائها وقرارها المستقل، وصّل الجيش السوري بعناصره، لهذه القناعة، في وجوه أطراف لا تمثل السوريين، مؤلفة من هجين خليط من الغرباء والمرتزقة والمضللين، يشكلون احتلالاً واقعياً على الأرض السورية التي كانت لفترات طويلة عريناً مُصاناً آمناً مطمئناً مُحرّماً على القدم الغريبة.
ومع هذا القدر المتعاظم من الحقد والتوحش والتكفير وانعدام الرحمة خلال سنوات سبع كأنها دهوراً إغريقية، لم يتبق للمدافعين عن سورية، السوريين منذ الأزل، خيارٌ أخر، مهما كانت الأكلاف باهظة والتضحيات مؤلمة، إلا أن يملأ قلوبهم الغضبُ والرغبةُ الوحيدة بالانتصار والذودُ عن هذه البلاد التي اعتادت على حروب الغرباء، فيمرقون بذلِّهم وبربريتهم وقلوبهم السوداء بلا طيف أو أثر، وتبقى لهذه الأرض المطّهرة العتيقة قدسيتها وجلالها وشرفها معجونةً بدماء أولادها المخلصين الشجعان، وتورد فوقَ ثراها أزهارُ شقائق النعمان وتنطلق في أجوائها نسماتُ زهر الياسمين.
أخيراً، هل يدرك هؤلاء المتنطحون لتكفير الجيوش والطلب بتفتيتها، أنهم يتحدثون عن مئاتِ الألوفِ وربما الملايين من زهرة شباب العرب؟! وهل يدركون أن هذه الجيوش كانت مكانَهم المقدسَ يومَ حرسوا حدودَ الوطن؟ وأن فتوى «التكفير» أو «الرِدّة» أو الحكم بـ«القتل» أو «القِصاص» لا يجوز تطبيقُها على الفردِ «الـمُعيّن» إلا بشروطٍ صارمةٍ ليس أقلَّها الاستتابة وقبول العودة إلى صواب «الشرع» وليس الشارع، فكيف بإطلاقِ الحُكمِ على شريحةٍ اجتماعيةٍ جامعةٍ متنوعةٍ مثل الجيش، فيقال هذا جيشٌ «خائن» وهذا جيشٌ «كافر» يحلُّ دماءَ أبنائهِ وعائلاتهِ التي تزودُه بالرجال؟! وأنهم بذلك يقومون بتنفيذ الوصفة السحرية المشبوهة المصدرة لشرقنا، لتمزيقه وتفتيته بالقضاء على الجيوش وهي الضامنة الحقيقية لبقاء البلدان العربية، ويبدو من التفكير العبثي الكارثي قبول معادلة التصادم الجهنمي «العسكرة مقابل الحرية»، بحيث ينقدح سؤال مهم مرتبط، وماذا عن حرية البلدان وكيف تتحقق مع جيوش ممزقة أو ضعيفة أو دونها؟!
عند التفكير بحسنِ ظنٍ نابعٍ عن طويةٍ حسنةٍ: أن المطلوبَ بهذا توصيفٌ أكثر منه فتوىً بالقتلِ، ويُعبرُ عن رغبةِ هؤلاء البعض في تحسينِ مواصفاتِ الشريحةِ الاجتماعيةِ المقصودةِ بالحُكمِ الـمُطلق، أقولُ لأصحابِ هذا التفكيرِ وهذه الفتاوى: هل استطعتَ أن تُغيرَ في نفسك ، عاداتِك السيئةَ، ماذا عن ولدك الضّال، عن ابنتِك التي تكسرُ العُرفَ كلَّ يوم، عن أخيك الذي ينازعُك الميراثَ، عن زوجتِك المتأففةِ من تصرفاتك، عن مديرِك في العمل، عن ظروفِ عملِك وعن وعن وعن؟!
هل استطعتَ تغييرَ شيئ مما ذكرنا؟ لتطلبَ تغييرَ عقائدَ جيوشِ المنطقةِ ولتدخلَ في تقييمِها وتحكمَ على شرائحَ مجتمعيةٍ كاملةٍ يبلغُ تعدادُها أحياناً الملايين من وراءِ مكتبكِ الأثير في مكانك القصي أنها «خائنة» «مجرمة» «كافرة»، التغييرُ يبدأُ من داخلك ومن محيطك، «ابدأ بنفْسِك وبمنْ تَعول»، لكن حذارِ أن تصبحَ فأراً يقضمُ في جسدِ السدودِ المنيعةِ، فقد يحدثُ يوماً وتتكاثر الفئرانُ ويزدادُ القضم، وينهارُ سدُّ مَـــــأْرِبَ فيحدث الطوفانُ العظيم الذي لن يوفرَ أحداً.
احتفل قبل أيام الجيش العربي السوري بعيده، وأكد مرة تلو الأخرى كل ما ذكرناه، وأنه استطاع مع حلفائه الأصفياء المخلصين، شركاء المعركة والخندق والدم، أنه الدعامة الأساسية لسورية كياناً وشعباً، وهو من دفع الثمن الباهظ لتحقيق سياسة «دومينو الانهيارات المتعاكسة» في المعسكرات المعادية، وهو من استطاع المحافظة على بقاء الروح العربية المقاومة، وهو من كانت تضحياته الشريفة المقدرة هي النسغ الكامل لكل التغييرات الجديدة التي تنبني عليها توازنات العالم الجديد!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن