سورية

الصين ستكون «اللاعب الأبرز» في إعادة الإعمار.. والعلاقات مع واشنطن ستتحسن مع نهاية الأزمة.. والدور المصري «ملتبس» … السفير عماد مصطفى لـ«الوطن»: مواقف بكين أفضل وأقوى مما تبدو عليه علناً

| حاوره – مازن جبور – تصوير: طارق السعدوني

استبعد سفير سورية في بكين عماد مصطفى أي دور صيني على النمط الروسي في سورية، لكنه أكد أن الصين تقدم مساعدات مهمة جداً لدمشق، ليست كلها معروفة، وأن المواقف الصينية الحقيقية أفضل وأقوى مما تبدو عليه علناً.
وفي مقابلة خص بها «الوطن» قال مصطفى: إن الصين تتعهد بأنها ستكون اللاعب الأكبر والأبرز على الساحة في إعادة إعمار سورية لحظة التوصل إلى حل سياسي»، معتبرا أنها «الأقدر على ذلك». وأوضح أن الصين متضررة ضرراً عظيماً جداً من الإرهاب العالمي، ولديها مشكلة إرهابية تتمثل في جماعات «الويغور» المتطرفين،
واعتبر مصطفى، أن الولايات المتحدة الأميركية وسورية بالأصل ليستا دولتين عدوتين، لكن استعداء واشنطن لسورية كان رهينة بالمصالح الإسرائيلية، وأعرب عن اعتقاده بأنه عندما تقترب الأزمة السورية من فصولها الأخيرة، «وهي بالفعل في فصولها الأخيرة الآن، فإن العلاقات الأميركية السورية التي وصلت إلى الحضيض ستعود إلى أعلى مرة أخرى».
وأبدى مصطفى عدم تخوفه من أي نوايا طويلة المدى للولايات المتحدة في سورية، لكنه أبدى تخوفاً من نوايا طويلة المدى لتركيا «ومن محاولاتها التاريخية والمستمرة لاستلاب المزيد والمزيد من الأراضي السورية».
وشدد مصطفى على أنه «لابديل عن «اللعبة الصفرية» مع عصابات القتل والإجرام»، لكنه أضاف: «ومع ذلك فالبراغماتية والواقعية السياسية تفرض علينا أن ندرك أن إيجاد حل بالقوة العسكرية الصرفة لهذه الأزمة أمر صعب للغاية، ولاسيما ضمن التدخلات الإقليمية والدولية للأزمة».
ولفت إلى أن سعي «منصة الرياض» لعقد اجتماع يضم منصتي «موسكو» و«القاهرة» في العاصمة السعودية ناجم عن «دفع سعودي للبحث عن شرعية لمعارضة الرياض التي أنشأتها وتمولها، وذلك من خلال تحالفها مع معارضات تبدو أقل عمالة منها»، معتبرا أنه لو قبلت منصتا «القاهرة» و«موسكو» الانضمام إلى «معارضة الرياض» فهذا «خطأ سياسي قاتل».
ووصف مصطفى الدور المصري الحالي في سورية، بأنه «دور ملتبس وضعيف وفيه بعض الإيحاء من السعودية»، إلا أنه أبدى تفاؤله من هذا الدور عله يذكر مصر بأنها ذات يوم كانت محرك العالم العربي بأكمله.
وفيما يلي نص المقابلة…

عملت سفيراً للجمهورية العربية السورية في الولايات المتحدة الأميركية ومن ثم أنت الآن سفير في الصين، وهذه مفارقة كبيرة؟ باعتبار أن الدولتين عظميان وفي حالة صراع وتنافسية كبيرة، ماذا يمكن أن نستعرض، عن هاتين التجربتين؟
نعم لقد عملت سفيراً في عاصمتين مهمتين، لكن الفرق بينهما شاسع، عندما قدمت أوراق اعتمادي للرئيس الصيني هو جينتاو عام 2012، وبعد تقديم أوراق الاعتماد والجلوس لتبادل الحديث معه، قلت له أنا أشعر بالسرور الكبير لأنني انتقلت من الغرب المتوحش إلى الشرق المتحضر، فسُرّ سروراً عظيماً، وكرر الجملة ثلاث مرات، أعتقد أنني من ناحية لامست وتراً حساساً لديه، ومن ناحية ثانية أنا أعبر عن خلاصة حياتي الدبلوماسية، حيث لم أجد في الولايات المتحدة بعد نحو ثماني سنوات ونيف من الخدمة هناك إلا التوحش بكل معنى الكلمة، فلا يجب أن يؤخذ الإنسان إطلاقاً بأثواب الحضارة الخارجية، ففي العمق أرى لديهم توحشاً لا يقل عن توحش داعش، لكن الفرق الوحيد هو الشكل الخارجي.
الصين كانت بالعكس تماماً، هي بلد يتمتع بثقافة وحضارة قديمتين جداً، بعمق وحكمة وصداقة دافئة، فالتجربتان غنيتان، فالعمل في الولايات المتحدة تحد صعب للغاية، لكون الجو معادياً والبيئة معادية وخلق حيز وفضاء للعمل الإيجابي فيه هو تحد وأمر بالغ الصعوبة، أيضاً العمل في الصين صعب لسبب آخر وهو أن الصين بلد صديق وودود ولطيف ومتفهم ومساند لقضايانا، ولكن لا يستطيع الإنسان العمل على الساحة الصينية وفي الفضاء الصيني دون فهم الثقافة الصينية والعقلية الصينية.

الطريق الواحد الحزام الواحد
إلى أي درجة ترى أن بكين جادة في إعادة تفعيل مشروع طريق الحرير؟، وكيف يمكن أن ينعكس هذا المشروع على سورية؟
اعتبر نفسي محظوظاً أنني كنت في الصين في هذه اللحظة التاريخية المهمة جداً، التي تعيد الصين فيها النظر بأحد أهم معالم تراثها القديم «طريق الحرير»، وتقرر إحياءه بشكل حديث ومعاصر، يقوم على الأسس القديمة لطريق الحرير التقليدي، لكنه يحمل كل مفاهيم العولمة الحديثة، الصين تقارب هذا الموضوع بمنتهى الجدية ولديها نظرة شاملة للموضوع، لديها رؤية، وهذه الرؤية من شأنها ليس فقط أن تنهض بالصين، بل أن تنهض بمعظم العالم المحيط بالصين والممتد على الطريق القديم للحرير، طبعاً ليس فقط طريق الحرير بل هناك حزام بحري.
تقوم قناعة الصين على الفكرة التالية: أنه إذا تطورت الدول الصديقة والمجاورة لي وأصبحت أكثر رخاء وثراء، فهذا سينعكس على الصين ذاتها، فالقضية لدى بكين ليست قضية أنانية ونظرة كولونيالية استعمارية وفق النمط الغربي في السيطرة على الشعوب الأخرى، وإنما سياستها تقوم على أساس المنفعة لكلا الطرفين، وهذه النظرة الحكيمة للصين وتنبع من حضارة وثقافة قديمتين.
وبالنسبة لمبادرة الطريق والحزام اسمها الصحيح في الصين «الطريق الواحد والحزام الواحد»، فطريق القوافل البرية كانت تنطلق من عاصمة الصين القديمة تشانغ آن، وتصل تدمر السورية، ومن تدمر كانت قوافل طريق الحرير تتفرع، فالحقيقة أن سورية كانت نقطة تفرع وتوزع لطريق الحرير، ولذلك تدمر لها مكانة ومنزلة عالية جداً في ثقافة الصينيين، فهم يدركون عمق العلاقات بين سورية والصين عبر التاريخ.
أما الحزام الواحد، فيقصد به الحزام البحري، لأن الصين كان لديها أيضاً أسطول تجاري يذهب إلى بحر الصين الجنوبي مروراً بالمحيط الهندي وصولاً إلى بحر العرب، والآن تعيد الصين إحياء المسارين، الطريق البري والحزام البحري، وهي مصرة ومصممة على أن هذه المنطقة ستكون منطقة تنمية عالمية، ومصممة على أن يكون التواصل بينها عالياً جداً، وأقصد بالتواصل كل طرق التواصل عبر البر والانترنت والفضاء والبحر، وهي تعتبر أن البنى التحتية للتواصل إذا تحققت فهذا سيكون إنجازاً عظيماً للتجارة والصناعة والتبادل الثقافي والإنساني والاجتماعي والحضاري بين الصين وسائر بلدان هذه المنطقة.

موقف الصين مشرف
إذاً، كيف يمكن أن ينعكس مشروع «الطريق الواحد الحزام الواحد» على سورية في ظل الأزمة الحالية؟
هذا الأمر يرتبط بدور الصين في الأزمة السورية، الصين تاريخياً تنأى بنفسها عن النزاعات والصراعات الدولية، وهي تتخذ مواقف واضحة لكنها لا تحاول أن تلعب أدواراً فاعلة فيها، الأزمة السورية بالنسبة للصين مسألة واضحة للغاية، هي تعتبرها محاولة للتعدي على سيادة بلد، ليس فقط لزعزعة استقراره، ولكن لتقسيمه وتجزئته وتدميره، فهي منذ البداية اتخذت موقفاً سياسياً ودبلوماسياً مشرفاً تجاه الأزمة السورية، هذا الموقف تجلى بأمر استثنائي بالنسبة لجمهورية الصين الشعبية، فالصين باعتبارها عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي يمكنها استخدام حق النقض الفيتو، لم تستخدمه إطلاقاً منذ دخولها إلى مجلس الأمن حتى الآن سوى ثماني مرات، ثلاث منها لأسباب تخص الصين ذاتها، وخمس مرات من أجل سورية، وصفر مرة من أجل كل القضايا العالمية الأخرى، فالصين لا تحب استخدام حق النقض ومع ذلك استخدمته خمس مرات من أجل سورية، وهذا موقف استثنائي جداً بالنسبة لها.

مساندة بالعمق
لكن انحصر الدور الصيني خلال الأزمة بـ«الفيتو»، ولم نشهد أي دور مماثل أو قريب من الدور الروسي، هل هناك دور صيني غير معروف؟
أذكّر مرةً أخرى أن لكل دولة خصوصيتها الحضارية والثقافية والتاريخية، فالصين تاريخياً تنأى بنفسها عن الصراعات والنزاعات، فلا هي تقوم بصراع مع طرف ثان، ولا تشترك في صراعات متعددة الأطراف، ولم يعرف هذا عن الصين عبر تاريخها، ولكن القضية ليست مجرد استخدام «الفيتو» في مجلس الأمن، الصين تساند سورية بالعمق، وهي تفهم أن معركة سورية ليست فقط معركة الدفاع عن السيادة ومعركة عدم السماح للدول العظمى بتمزيق أشلاء دولة صغيرة، هي تدرك أن سورية تقف اليوم في طليعة دول محاربة الإرهاب العالمي، والصين متضررة ضرراً عظيم جداً من الإرهاب العالمي، ولديها مشكلة إرهابية تتمثل في جماعات «الويغور» المتطرفين، و«الويغور» أقلية قومية في الصين هذه الجماعات منضوية تحت لواء اسمه «جبهة تحرير تركستان الشرقية»، وهي متحالفة تحالفاً عضوياً مع «جبهة النصرة» الإرهابية ومتواجدة بقوة في محافظة إدلب السورية الجريحة والشهيدة.
«الويغور» و«النصرة» هم ضمن تحالف «هيئة تحرير الشام»، الذي يسيطر على ادلب بشكل كامل، في ظل هذه التطورات الحالية للأزمة هل من الممكن أن نشهد دوراً مباشراً في الأزمة للصين على نمط العملية العسكرية الروسية؟
أستبعد دوراً صينياً على النمط الروسي، ولكن من دون أن أصرح بما لا يجوز لي التصريح به، أطمئن القارئ أن الصين تقدم مساعدات مهمة جداً لسورية، ليست كلها معروفة، ولا أستطيع الحديث عنها الآن، لأن الصين لا تفضل ذلك، ونحن في سورية لا يضيرنا الحديث عنها بل نفتخر بها، ولكن نمتنع عن الحديث عنها نزولا عند رغبة الصين، ولكن نطمئن الشعب السوري أن المواقف الصينية الحقيقية أفضل وأقوى مما تبدو عليه علناً.

مرحلة لحظية
في أي إطار يمكننا وضع الموقف الصيني الأخير فيما يخص الامتناع عن استخدام «الفيتو» ضد مشروع القرار العدواني الأميركي الفرنسي البريطاني في مجلس الأمن حول حادثة «كيميائي خان شيخون»؟
الصين دقيقة جداً في علاقتها الثنائية الصعبة والشائكة والمعقدة مع الولايات المتحدة الأميركية، وكانت في مرحلة تحاول فيها تخفيف تأزم العلاقة بينها وبين إدارة الرئيس دونالد ترامب، ووجدت أن الفيتو الروسي هذه المرة يكفي، فلم ترغب أن تضع نفسها في تحد مباشر مع الرئيس ترامب، هذه المرحلة آنية ولحظية وتتعلق بمرحلة محددة ولا تتعلق بكامل المنظور الصيني، وهم كانوا مرتاحين وقالوا لنا: «نحن مرتاحون فيما يخص مداولات مجلس الأمن والأمم المتحدة حول سورية، والروس سيأخذون على عاتقهم حق النقض، نحن الآن منهمكون في محاولة لبناء نوع من أنواع العلاقة مع إدارة الرئيس ترامب»، وهذه العلاقة الآن متوترة جداً وتراجعت كثيراً عما كانوا يأملونه في تلك الآونة، بسبب قيام الولايات المتحدة الأميركية بنشر صواريخ «تاد» في كوريا الجنوبية، الأمر الذي يهدد الأمن القومي الصيني، فردت الصين على ذلك بالقيام بأكبر استعراض عسكري بتاريخ الصين على الإطلاق في بداية هذا الشهر، وهذه رسائل على الطريقة الصينية، ناعمة جداً، لكنها تقرأ بعناية في الغرب، وتفهم بأن الصين لا تستطيع أن تصبر على تطاول الولايات المتحدة الأميركية فيما يخص أمنها القومي.

فاعلية في إنجاح الحلول
هل من الممكن في ظل التطورات الحالية دخول الصين على خط مفاوضات جنيف واجتماعات أستانا القادمة بصورة مباشرة؟
الصين لا تلعب دوراً فاعلاً في إيجاد حلول للأزمات الدولية، لكنها تلعب دوراً فاعلاً جداً في إنجاح الحلول التي يتم الوصول اليها، وعندما ننتقل الآن من هذا الدور الصيني التقليدي إلى ما نسقطه على الأزمة السورية، نرى أن الصين تريد أن تلعب بالضبط هذا الدور، هي تريد أن تقدم كل الدعم والمساندة للدور الروسي والدور الإيراني الداعم لسورية سواء في أستانا أو جنيف، ولكنها تتعهد وتكرر من دون توقف أن لحظة التوصل إلى حل سياسي في سورية وبدء عملية إعادة الإعمار بشكل فعال ونشط، فالصين ستكون اللاعب الأكبر والأبرز على الساحة السورية وسيكون لها دور كبير جداً في إعادة إعمار سورية، وهذا أمر مهم جداً، والصين متنبهة إلى هذا الدور وتعبر عنه بكل الطرق الممكنة، وهي مستعدة للقيام به، وأعتقد أنه لا توجد اليوم دولة في العالم تستطيع أن تنافس الصين في قدراتها على مساعدة بلد على إعادة بناء بناه التحتية وعلى إعادة ترميم اقتصاده وإعمار منشآته، لذلك نحن نعتبر أن الصين نعم تقدم مساندة هادئة للحلول السلمية والدبلوماسية، وهي تقدم مساعدة ضخمة جداً لإنجاح هذا الحل عند حدوثه.

الفصول الأخيرة
سعادة السفير سنعود قليلاً إلى عملك السابق كسفير في الولايات المتحدة الأميركية، هل ترى أنه من الممكن أن تعود العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وسورية في ظل التطورات الراهنة للأزمة السورية؟
هناك عوامل عديدة يجب أخذها بالاعتبار بداية لا يوجد شيء مستحيل، بالسياسة لا يوجد خصومة أبدية ولا يوجد صداقة أبدية، القضية دائماً في السياسة الدولية صراع المصالح وصراع القوى، ومحاولة كل طرف اقتناص الفرصة التي يعتقدها مخطئاً كان أم مصيباً في توقيت زمني معين، الولايات المتحدة الأميركية وسورية بالأصل ليستا دولتين عدوتين، ولا يوجد حالة خصومة مزمنة بينهما، حيث لم تكن الولايات المتحدة في السابق تحتل أراضي سورية على غرار ما تقوم به تركيا وإسرائيل، ولم تكن سورية ترسل الإرهابيين لقتل وتدمير الأميركيين على غرار ما فعلت السعودية في أحداث أيلول عام 2011، لكن للأسف الشديد العلاقات السورية الأميركية كانت رهينة بالمصالح الإسرائيلية لدى واشنطن، فكل استعداء واشنطن لسورية لم يكن موضوعاً أميركياً سورياً ثنائياً، وإنما كان رهينة طرف ثالث هو إسرائيل وسيطرة اللوبيات الصهيونية على مفاصل صنع القرار في الولايات المتحدة، لذلك أنا أعتقد أنه عندما تقترب الأزمة السورية من فصولها الأخيرة، وهي بالفعل في فصولها الأخيرة الآن، فإن العلاقات الأميركية السورية التي وصلت إلى الحضيض ستعود إلى أعلى مرة أخرى، هذا الحضيض ناجم عن دعم أميركا المخجل والمخزي لجماعات إرهابية متشددة في الوقت نفسه الذي تتشدق فيه لسنوات طويلة وعديدة بأنها تتصدر الجهود العالمية لمكافحة الإرهاب، وأيضاً يؤسفني أن أقول أنه اليوم توجد قوات أميركية ويوجد طيران أميركي غير شرعي على الأرض السورية وفي الفضاء الجوي السوري، ودون إذن من السلطات السورية صاحبة السيادة والقرار فيما يخص الجمهورية العربية السورية، وهذا نوع من أنواع التعدي على السيادة السورية، ولكن آمل أن يكون تعدياً ذا طبيعة انتقالية وعابرة وليس ذا طبيعة طويلة المدى.
أنا لا أخاف الآن من أي نوايا طويلة المدى للولايات المتحدة في سورية، خوفي الوحيد من النوايا طويلة المدى، هو من تركيا ومن محاولاتها التاريخية والمستمرة لاستلاب المزيد والمزيد من الأراضي السورية، نعم الولايات المتحدة الآن في مرحلة عداء صارخ لسورية ناجم عن حسابات سياسية تبين بالنسبة لهم أن معظمها خاطئة، لذلك فإن مراجعة هذه الحسابات أمر ممكن جداً، وأعتقد أن إدارة الرئيس ترامب رغم كل تصرفاتها الرعناء والحمقاء تقوم بعملية المراجعة هذه، أما الحسابات السياسية للسلطان العثماني الجديد في تركيا، فهذه حسابات خطرة ويجب أن نكون أكثر حذراً وتيقظاً تجاهها.

لا حل سياسياً مع العصابات
فيما يخص تطورات الوضع الداخلي السوري وما نشهده اليوم من مناطق تخفيف التصعيد في جنوب سورية والغوطة الشرقية وحمص حالياً مع الدخول المصري على الخط حالياً، كيف تقرأ سعادة السفير الوضع الداخلي السوري؟ وكيف تتصور مستقبل مناطق تخفيف التصعيد في خارطة الحل النهائي للأزمة السورية؟
لنكن واضحين أنه خلال كل التطورات التي تحدث اليوم أن الناس بدؤوا يتناسون أن الدولة السورية منذ البداية طرحت الحل السياسي للأزمة السورية، وهي لا تؤمن بأن الحل يجب أن يكون حلاً عسكرياً، وأنا أدرك وأتفهم أن هواجس الكثير من المواطنين السوريين بعد كل ما حصل، فإن عصابات القتل والإجرام لا يوجد أي حل سياسي معها، لابد أن تتم معها لعبة المعادلة الصفرية، أي إما نحن وإما هم، أي إما هم يمزقون سورية ويردونها إلى إمارات متحاربة وإلى عصور الظلام في القرون الوسطى أو نحن نبني دولة علمانية حديثة متنورة إنسانية حضارية ونهضوية، هذان المشروعان لا يلتقيان أبداً، ومع ذلك البراغماتية والواقعية السياسية تفرض علينا أن ندرك أن إيجاد حل بالقوة العسكرية الصرفة لهذه الأزمة أمر صعب للغاية، ولاسيما ضمن التدخلات الإقليمية والدولية للأزمة إذاً من الحكمة أن نحاول إيجاد حلول سياسية للأزمة، وأن نعزل الجماعات الأكثر ظلامية وتطرفاً ونشن عليها حرب إلغاء نهائي، كما هو حال تنظيمي داعش والنصرة وحلفائهما، وحينها تبذل كل الجهود والضغوط الممكنة لإقناع الجماعات المسلحة بالتخلي عن الطريق العسكري التدميري الذي اتبعته والذي لم يؤد إلا إلى خراب الوطن وقتل المواطنين والانضواء تحت لواء عملية سياسية، وهذا مطلب الدولة السورية منذ البداية والآن روسيا قد أصبحت لاعباً مهماً على الساحة السورية، تستخدم نفوذها العسكري والسياسي والدبلوماسي مع أطراف إقليمية ومع الولايات المتحدة الأميركية لمحاولة تحويل هذه المقولة إلى واقع.
في النهاية نحن نقول وروسيا تقول، بأن فكرة مناطق تخفيف التصعيد تهدف إلى أن يكون الحل سورياً، وأن يختار الشعب السوري بنفسه مساره الذي يريده وقيادته السياسية، ولا يمكن أن يفرض علينا أمر من الخارج، ولا يمكن تقديم وصفات للدولة السورية بالقوى العسكرية الأميركية وبأموال الغاز والنفط وبالتدخل العسكري التركي الفاضح والمشين.
في هذا الخضم يهتم الكثير من الناس بالتفاصيل من قبيل، ما هذه المنطقة وما المقصود بتخفيف التصعيد وما هو الدور التركي والدور السعودي والدور الأردني والروسي، وكل هذه الأسئلة مشروعة، لكن الفكرة الأساسية أن الأزمة السورية قاربت على نهايتها، وأن الحل لها هو حل سياسي، وأن الجماعات التي ستواصل حمل السلاح سينتهي بها المطاف إلى الجحيم، والشعب السوري بحريته وإرادته وكرامته سيختار ما يريد لنفسه، ولا يمكن ترك أي جزء من سورية خارج السيادة السورية، وكما أظهرنا للعالم كله صلابة الإرادة السياسية السورية وقدرتها على التحمل وعدم ترددها خلال السنوات الماضية، سنثبت للعالم بأننا سنواصل هذه الصلابة مستلهمين العزيمة الماضية نفسها للسيد الرئيس بشار الأسد، وعدم تردده إطلاقاً في أن ينظر إلى سورية ضمن المفهوم الحضاري والإنساني لهذا البلد، وضمن مفهوم حقه وواجبه الدستوري في صون هذا البلد والحفاظ عليه وحدة متكاملة، وعدم التفريط بأي شبر من أرضه، هذا مسارنا، وهذا ما سنتوجه إليه، وهذا ما أعرفه معرفة اليقين عن عزيمة وإصرار الرئيس الأسد، لأن هذا البلد هو أمانة في عنقه ولن يفرط بهذه الأمانة أبداً.

انتكاس في الموقف السعودي
تدعو «منصة الرياض» اليوم منصات المعارضة الأخرى (موسكو، القاهرة) لعقد اجتماع في العاصمة السعودية، كيف ترى سعادة السفير هكذا دعوة؟ هل تنم عن تغير في الموقف السعودي تجاه سورية أو بالحد الأدنى بداية انزياح عن المواقف السابقة العدوانية للرياض تجاه سورية؟
قد لا يحدث تغير في الموقف السعودي، لكن قد يحدث ارتكاس وانتكاس ونوع من تخفيف الدور الذي حاولت أن تلعبه الدبلوماسية السعودية مؤخراً على الساحة العربية، ففشلت فشلًا ذريعاً ومنيت بهزائم ساحقة، السعودية اليوم توجّه كل طاقاتها إلى الاتهامات المتبادلة مع قطر حول رعاية الإرهاب وأصله، وأنا شخصياً أعتبر أن الدولة الوهابية هي دولة داعش التي نجحت، ومن درس التاريخ يعرف أن مملكة آل سعود الوهابية قد قامت على نفس أداء وطرق داعش بالضبط، فهاجمت القبائل المحيطة بها وقطعت رؤوس الرجال وسبت النساء ومارست وحشية كبيرة وتمتعت برعاية بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي فإن قصة نشوء مملكة آل سعود لا تختلف عن نشوء داعش، إلا بعامل واحد هو أن مملكة آل سعود التي سيطرت بالقوة الغاشمة على الجزيرة العربية هي داعش التي نجحت، أما نحن فلدينا الآن داعش التي ستفشل بالهزيمة النهائية في دير الزور قريباً، فالفرق الوحيد بين تنظيم داعش وتنظيم المملكة السعودية الوهابية، هو الفرق بين من انتصر ومن فاز ولكن المبادئ نفسها والايديولوجيا نفسها والدعم البريطاني والأميركي نفسه والوحشية بحق الجوار العربي والمسلم نفسه.
نعود الآن إلى هل ستراجع المملكة السعودية مواقفها؟ نعم ستراجعها مضطرة، فهزائمها الدبلوماسية على الساحة الإقليمية والعربية وموقفها المشين والقميء في اليمن، والذل العظيم الذي تعرضت له بانتصار العراق ضد الجماعات الإرهابية، هو ضربة للسعودية، وإن كانت تزعم أن لا علاقة لها إلا أنها صفعة للسعودية، والآن الصفعات التي تنالها الجماعات المدعومة سعودياً في سورية نتيجة الهزائم المتتالية، كل هذا التراجع السعودي لا بد وأن ينعكس بعلم الواقع السياسي على تغير في مقاربتها، فهي تريد أن تنقذ البقية المتبقية لها من نفوذ سياسي، وهي تعرف تماماً أن المعارضات مشرذمة متفرقة ضعيفة ولا تمثيل لها، وكل منها تتبع أجندة من يمولها ويدفع أكثر، وهي تغير ولاءاتها حسب من يدفع أكثر، والآن أدركت السعودية فجأة أن من الأفضل لها أن تعطي توجيهاتها للمعارضات التي تتمول من قبلها بأن تتحالف مع المعارضات الأخرى، ولاسيما تلك التي تسمي نفسها منصة موسكو ومنصة القاهرة، لعل ذلك يعطي بعض الشرعية لمعارضتها التي أنشأتها وتمولها، وذلك من خلال تحالفها مع معارضات تبدو أقل عمالة منها وهذا كله محاولة لتحسين صورة المعارضة المرتبطة معها وليس العكس، حيث إن هناك من يعتبر هذا تنازلاً عظيماً من «معارضة الرياض» التي كانت تصر على احتكار ووحدانية تمثيلها للمعارضة وعدم شرعية المنصات الأخرى، والآن هي تتنازل وتقبل بتمثيل تلك المعارضات، إلا أن الأمر معكوس، فلو قبلت المعارضات الأخرى الانضمام إلى معارضة الرياض فهذا سيعطي الشرعية لمعارضة الرياض، وسيعطيها زخماً جديداً للحياة، وسيكون هذا خطأ سياسياً قاتلاً، لأنه في اللحظة المناسبة ستعود المعارضة الممولة سعودياً فتنقض على المعارضات الأخرى بعد أن تكون قد أفقدتها مصداقيتها إذ تحالفت معها.

موقف ملتبس

ما هو تقييمك للدور المصري الذي ظهر مؤخراً في الغوطة الشرقية واليوم في اتفاق تخفيف التصعيد في شمال حمص؟
مصر عبر فترة تاريخية طويلة جداً كانت زعيمة العالم العربي، وأنا أتكلم منذ عهد الأيوبيين عندما حاربوا الصليبين، ومنذ عهد سيف الإسلام قطز والظاهر بيبرس عندما طردوا المغول وحاربوهم، وأتكلم أيضاً عن عصر النهضة العربي، وأتكلم عن زعامة مصر أيام جمال عبد الناصر، فعندما كانت مصر تقوم بدورها القومي والعربي لم يكن لمثل هذه الأحداث أن تحدث في العالم العربي بأكمله، لا في ليبيا ولا العراق ولا في سورية ولا اليمن، ولكن عندما انكفأت مصر على نفسها وتخلت عن دورها وأصبحت تابعاً يعيش على صدقات وهبات مشايخ النفط والغاز، حلت الكوارث في العالم العربي بأكمله، واليوم إذا كانت مصر جدية في لعب دور ما، وأنا لا أعرف هذا الدور، إلا أنني متفائل بأن مصر تستفيق مجدداً، وربما إذا لعبت هذا الدور تتذكر مجدها السابق والدور الذي كانت تلعبه من قبل، فتزداد اقتناعاً أن تقوم مرة أخرى بقيادة الأمة العربية وأن تنحي «عرب الجيولوجيا» عن المكانة التي احتلوها من خلال النفط والغاز، وأعتقد أن هذا يعيد العافية إلى العالم العربي.
لكن برأيي فإن الدور المصري الحالي في سورية، هو دور ملتبس وضعيف وفيه بعض الإيحاء من السعودية، ومع ذلك أنا متفائل فلا بأس إذا اعتقدت مصر اليوم أنها تستطيع أن تلعب دوراً خجولاً، فقد يذكرها هذا أنها ذات يوم كانت هي محرك العالم العربي بأكمله، ورغم كل شيء، أشجع مصر على لعب دور مهما كان صغيراً، لأنه سيكون مثل كرة الثلج التي ستكبر أكثر فأكثر كلما تدحرجت.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن