ثقافة وفن

قصيدة الشباب بعد أن ولّى زمن التحدّيات … مبالغة في علامات الترقيم وتسيير اللغة إلى الثقافة اللامنتمية

| أحمد محمد السّح

ظهرت تسمية قصيدة الشباب منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي على ألسنة النقاد المختصين، ولم يكن الشعراء يومها معنيين بهذه التسمية، وربما ما زالوا غير معنيين بها حتى الآن. فقد أشارت هذه التسمية إلى ولادة شريحة شعرية جديدة، ومحاولةِ تحسّس ظاهرةٍ فنيةٍ جديدة، مع هذه التجارب الناشئة، لكن الطرف الآخر للفكرة يكمنُ في أن التفتّت في المنطقة العربية على المستوى السياسي وصلت شراذمه إلى القصيدة، حيث بات الاهتمام محصوراً ضمن كل بلد على حدة، لا تيار شعرياً واحداً كما في العقود السابقة، فلم يظهر أي بيان يجمعهم ويعرّف منطلقهم، ولم تتشكل أي جمعية أو رابطة لتعلن عن تجمّعهم.
وقد أطلق كل ناقد على بعض الأسماء في بلاده هذه التسمية ومن هذه الأسماء وقتها: خزعل الماجدي (العراق)– محمد العبدالله وشوقي بزيع (لبنان)– محمد الغزي (تونس)– نزيه أبو عفش (سورية) وربما كثيرون لم تصل أسماؤهم إلى بلدان غير بلدانهم. لكن السمة التي بدأ فيها هؤلاء الشعراء هي الانفتاح على مناخات التجريب، وهو ما جعل عصياً على النقاد والمتابعين أن يجعلوا من هؤلاء الشعراء حزمة واحدة بل على العكس أصر هؤلاء الشعراء- الذين صاروا عجائز اليوم- على التصرف بطريق «الفتية الشرسين» الذين كانوا منفلتين من القيود ويحاولون تشكيل شخصية منفردة لكل منهم لا أن يكونوا جزءاً من تيار، فقد اختبروا صيغ الكلام فانفتحت النصوص على صيغ الكلام المتنوعة في الكتابة من دون أن تطبق نمطاً منفرداً دون سواه، فقد اعتمدوا على إدراج شيء من الغناء مع بعض العبث المجاني وبدؤوا يحاولون تطبيق النظريات المترجمة التي كانت تصلهم من التجارب الأوروبية وتحديداً نظريات التشكيل الفني للنص، فاستخدموا علامات الترقيم وبالغوا في استخدامها، كما حاولوا تسيير اللغة وفقاً لمنهجية ثقافتهم اللامنتمية إلى تيار عروبي أو اشتراكي أو يميني، فاشتغلوا على موجة التحدي والمشاكسة من خلال خلق جمل طويلة تتبعها جمل قصيرة ومركزة، وتتداخل بين هذه وتلك سكتات شعرية متنوعة. لكن هذه الانفرادات الذئبية التي افتعلها هؤلاء الشباب كان لها أصولها ومرجعيتها وتحديداً الفرنسية منها، وهذا يعيدنا إلى الفترة الممتدة بين عامي 1860– 1920 حيث انفصل المبدع عن مجتمعه، واعتمد على مناهضته كتجربتي رامبو وبودلير، وتكاثرت هذه الظاهرة في التعبير عن نفسها من خلال الموسيقا التي نشأت، فنشأت أنواع عديدة للموسيقا غيرت الكثير من قوالبها.
يحاول الكثير من الشعراء الشباب اليوم أن يقولوا كلمتهم بالطريقة التي يريدون، ويغلب على بعضهم الإنكار الكامل لكل ما سبقهم من تجارب، وربما يحاولون الانقطاع الكلي عن هذه التجارب، تحت مبرر عدم التقيّد والتأثر بما سيقرؤونه، على حين تجد محاولات طريقاً سهلةً للعودة إلى التأصيل، ومن المهم جداً أن نلاحظ ظاهرة الشعراء الشباب اليمينيين الذين يطلقون قصائد متشبعة بالمفاهيم الدينية التي اعتمد الشعراء على التعامل معها بحيادية إن لم يهاجموها خلال كل عقود الحداثة سابقاً، لكن العقدين الأخيرين حيث يتلعثم الإنسان بالتطرف، في كل زاوية، تظهر أصوات تريد أن تعبر عن مكنونها الديني شعراً، رغم أن أعمارهم لا تتجاوز الثلاثين، أي إننا نقف أمام مفارقة النص الكهل على لسان شاب، بمنطقه تحلّ الكهولة قبل أن تتجسد بمحتواه. وكأن هذه الأجيال تحاول إعلان هوية مغايرة للنصوص التي أريد بها تعريف القصيدة، بل تأكيد ضرورة تغيير النهج من خلال الردة إلى الموروث، وفي الزمن نفسه وعلى المنبر نفسه يظهر شعراء من الجيل نفسه يلبسون الحالة العمرية نفسها ليعلنوا لغة لا منتمية إلى أي لغة سوى الفردانية المطلقة أي بالمعنى الحرفي للفردانية تمييزاً لها عن الذاتية، لأننا لو قلنا إنها نصوص ذاتية لربما استطاعت الدخول بتقاطعات مع المتلقّي حيث إن الذوات البشرية لا بد أن تميل إلى عواطف ومشاعر إنسانية متماثلة، لكن هؤلاء الشعراء الفردانيون يتحدثون عن حالاتهم الخاصة والخاصة جدا، من دون أن تكون هذه القضايا قادرة على لمس أي تصور للفرد المتلقي، بل تزايد حالة الإنسلاخ عن المجمتع والمحيط والانسانية لنصل إلى نصوص شعرية لا بل مجموعات كاملة تتحدث عن مشاعر الفرد تجاه شيء يخصّه هو دون سواه من دون إمكانية إيجاد أي دلالة أو تقاطع مع هذه الأقوال. فإذا ما كان الشعر إبداعاً خصوصياً في لغةٍ بعينها أي إنه يهضم كل ما يتلقّاه فهو يقوم– في تجاربه السيئة أيضاً– على قدر من التلفيق واصطناع دور شعري، فالنص مقطوع عن الحياة منتمٍ للعبة الذهنية لذلك نحن نتعرف على قصائد سوريالية وهي ليست سوريالية ونقرأ قصائد مهزوزة من دون أن نعرف سبب اهتزازها، يسودها الارتباك اللغوي الناشئ عن ضعف الملكة اللغوية (وعن قراءة النتاج المترجم أكثر من النتاج العربي!)
ربما بعد مدّ الحداثة جاء جزرها وتعود أسباب المد والجزر دائماً لأسباب سياسية– تاريخية (غلبة المشاريع الراديكالية في المنطقة، السلفية والدينية، وسحق المشاريع الوحدوية والحداثوية) ولنكن على أمل أن هذه التنوعات المناقضة التي تحدث إنما سببها أن هناك محاولات للهضم للنتاج ومحاولة فهم ما يحدث ربما إما للبناء عليه وأما لتجاوزه، آملين بقول النفري: (ليس أمامكم بابٌ فتقصدوه، وليس وراءكم باب فتلتفتوا إليه).

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن