قضايا وآراء

«النافذة الواحدة» الروسية

| عبد المنعم علي عيسى

عشية تهادي الأزمة بعدما استطاعت «الدلتا» السورية بمجراها العريض، استيعاب الفيض القادم من مئات الينابيع التي تبعد عنها آلاف الكيلومترات، حتى ظهر الركود على هذا الأخير واضحاً، لكأنه يدرك جيداً ثقافة العبور في الدلتا التي تفترض الركون لملاقاة أمواج البحر، وبات من الجائز القول إن مرحلة «الأرض المحروقة» في الحرب السورية قد انتهت، وما تبقى منها حرب «الجيوب» التي قد تستمر، تطول أو تقصر.
تبعاً للعديد من المعطيات والمستجدات، بات من الجائز القول إن جذوة الحرب قد انتهت أو هي فقدت حتى بريقها الذي شغل العالم طويلاً ولا يزال، وفي الأمر ما يدعو إليه والمؤشرات على هذا القول عديدة لكن برز منها في الآونة الأخيرة اثنان، الأول: هو الإعلان في واشنطن 19 تموز المنصرم عن أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان قد وجه بوقف دعم وتمويل المعارضة السورية والذي ستكون له الكثير من التداعيات اللاحقة والمنتظرة، والثاني: يتمثل في إعلان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في 6 من آب الجاري عن أن الوقائع في سورية تقول بأن مسألة خروج الرئيس بشار الأسد من السلطة هو أمر لم يعد ممكناً في المرحلة الانتقالية.
ما يجعل المؤشرين السابقين مهمين هو أنهما جاءا كممرات في سياق عام لمسارات كبرى، وهما لم يظهرا هكذا منفردين دون منصة يمكن الاستناد إليها، وبمعنى آخر فإنهما يعتبران تحصيل حاصل، فالرئيس الأميركي الذي رفع شعار «أميركا أولاً» منذ وصوله إلى البيت الأبيض كان يدرك ويعني الإسقاطات التي سيؤدي إليها تطبيقه على أرض الواقع، فهو سيدفع بالتأكيد إلى تنفيذ المزيد من انسحاب الظل الأميركي من العديد من المناطق الساخنة بما فيها تلك التي تحوي أنظمة حليفه تاريخياً لأن أميركا «لم يعد لزاماً عليها أن تدفع ثمن حماية تلك الأنظمة مجانياً»، وهو ما اضطر دول الخليج خصوصاً السعودية لأن تدفع بفلذات أكبادها المالية بوجه ترامب سعياً وراء إبقاء شعرة معاوية عالقة، وكوسيلة ناجعة لدوام الترابط القائم بين الاقتصادين الأميركي والسعودي واقعاً لا فرار لواشنطن منه، بعدما كانت الأخيرة قد جهدت على مدار الخمسة عشر عاماً المنصرمة في إجراء عملية انفصال بينهما ولطالما قطعت أشواطاً كبيرة وناجحة في هذا السياق، وفي الآن ذاته تدمير الجسور على «أوتوستراد جاستا» الذي تأجل تدشينه مؤخراً ريثما تتم، أو تنتهي، عمليات مراجعة الفواتير ليس إلا، وهذا كله كان قد فرض على الرياض الدخول في فضاءات أخرى جديدة من التبعية أشبه بمشي الخراف وراء «المرياع» على وقع أجراسه التي لا تقف عن الرنين.
من الواضح أن الأزمة السورية قد دخلت مرحلة جديدة مختلفة شكلاً ومضموناً عما سبقها، إلا أنها هي الأخرى لا تخلو من المخاطر، فالدولة السورية التي أنهكتها سنين الحرب السبع والتي شهدت فيها تدميراً مبرمجاً ومدروساً لبناها العسكرية والاقتصادية بل والثقافية أيضاً في محاولة لشق اللحمة التي تميز بها النسيج المجتمعي السوري على مر المراحل، وهو ما ستكون له تأثيراته وتداعياته في المرحلة المقبلة خصوصاً في ظل الانسحاب السياسي الأميركي لمصلحة إطلاق يدي موسكو في برمجة مشاريع التسويات أو الحلول المفترضة بما فيها إمكان إجراء «سوفت وير» لمحو مجريات الكثير من الأحداث السابقة وتطوراتها انطلاقاً من مبدأ لا غالب ولا مغلوب، ولربما يأتي ذلك في ظل توافق سياسي أميركي روسي حدث سراً وهو قاد إلى «يالطا» إقليمية جديدة تحدد التخوم وترسم الحدود التي يتوازعها النفوذان الأميركي والروسي في المنطقة، وهو ما بدأت تباشيره بالظهور مؤخراً، فنحن لم نسمع عن موقف روسي أو عن محاولة روسية تعمل على «تثقيل» الدور الروسي في الخليج في ظل فرصة كانت سانحة، فقد اقتصر الموقف الروسي من الأزمة الخليجية القطرية التي لا تزال مستعرة إلى الآن، على الدعوة إلى حل سياسي للأزمة تماماً كما فعلت غواتيمالا أو موزامبيق، والدوحة التي استعانت بـ«الباشق» التركي والإيراني، لابد أنها فكرت قبيل ذلك بالاستعانة بـ«النسر» الروسي فهو أجدى وأكثر فاعلية، وهذا دليل واضح على أن موسكو قد رفضت طلباً قطرياً لقيامها بدور أكبر من دورها الذي تمارسه في الخليج، يقابله رضا أميركي بأن يملك الروس 90 بالمئة من أوراق اللعبة السورية.
إن جعل الحل السوري «سلافياً» بشكل كامل، يوحي كما لو أن الثمرة السورية قد نضجت لتتساقط في الأحضان الروسية، ولذاك العديد من المخاطر والكثير من المحاذير وما يجعلنا نذهب إلى هكذا فرضية هو ذلك الأداء الذي باتت تمارسه المعارضة السورية مؤخراً، فها هو عضو الهيئة العليا للمفاوضات أحمد العسراوي يقول في 8 من آب الجاري: «إن الهيئة تتواصل مع الجانب الروسي ونحن مستعدون لزيارة موسكو في حال تم توجيه الدعوة إلينا» وهكذا تصريح لا يصدر إلا عن شخص، أو هيئة، باتت ترى أن للأزمة السورية «نافذة واحدة» هي النافذة الروسية إذ لطالما كانت المعادلة التي تحكم علاقة المعارضة السورية ممثلة بالمجلس الوطني ثم الائتلاف المعارض وصولاً إلى الهيئة العليا للمفاوضات مع موسكو تقوم على حالة «اندفاع» روسي، يقابله حالة «تمنع» تمارسها المعارضة بقوة، حتى إن العديد من قياداتها كان قد ذهب إلى حدود توصيف التدخل الروسي في سورية بالاحتلال، كان ذلك عندما كانت واشنطن تشغل حيزاً سياسياً واضحاً في الأزمة، حتى وإن كان سلبياً اتجاه الدولة السورية، إلا أنه كان يمثل عامل توازن يحد من الاستفراد الروسي بالحل.
صحيح أن موسكو قد لعبت دوراً محورياً في الحفاظ على الكيان والدولة السوريين ومن الطبيعي بأنها تفكر في استحصال أثمان لذلك الدور، ولا ضير في أن تكون تلك الأثمان اقتصادية أو حتى حصولها على ما يساعدها في تقوية نفوذها الإقليمي والدولي، أما أن تصل الأثمان إلى إطلاق ذات اليد الروسية في «توضيب» البيت الداخلي السوري من بابه إلى محرابه، فذاك أمر لا تحتمله الوقائع ولا التركيبة السورية، ثم إن تسليم المولود السوري المنتظر إلى طبيب روسي مناوب اختصاص عام، هو أمر لا يمكن أن يكون مفيداً إلا إسعافياً، ولذا فإن الكرة الآن باتت في ملعب المعارضة السورية التي يجب أن تخلي صفوفها من حملة الأحقاد والضغائن الشخصية والمذهبية وممن امتهنوا السياسة بالصدفة كوسيلة للارتزاق أو بناء على طلب الخارج، فهؤلاء مضى زمنهم، وعليه فإن الخطوة الإيجابية الأولى التي يمكن أن تقدم عليها تلك المعارضة، هي نسف قيادات الصف الأول والثاني بما فيهم رأس الهرم رياض حجاب الذي وجد نفسه في ظرف وموقع لم يكن يعلم فيه أكثر مما يعلمه مطلقو الألعاب النارية في تكنولوجيا الصواريخ البالستية بعيدة المدى، وإذا ما صدقت الأخبار التي تقول بأن حجاب قد أودع استقالته لدى الكفيل السعودي على أن يختار هذا الأخير توقيت إعلانها فتلك ستكون خطوة في الاتجاه الصحيح.
لم تكن المعارضة السورية بمستوى الحدث ولا هي استطاعت استيعاب ما يجري، حتى الأصوات والأدمغة التي كانت قادرة على أن تفعل، كانت مغيبة تماماً ولا صوت لها، بل ولربما توافرت العديد من الوقائع التي تسمح بتوصيف هذه الأخيرة بأوصاف أقسى من ذلك، فلو سألنا أي إنسان عادي وبسيط في الشارع السوري وعلى مر مراحل الأزمة عن تصوره لها أو لحلولها، لأجاب مختزلاً: إن بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة هو أمر حتمي لأنه ضرورة وضمانة في آن حتى إن العديد من القوى الكبرى والفاعلة في الأزمة السورية، سيضيف المتحدث، كانت قد أعلنت بأن لا بديل موجوداً للرئيس الأسد في سورية، أما لو سألنا أياً من النخب المعارضة من أدناها إلى أعلاها السؤال نفسه لأجاب هو الأخير مختزلاً أيضاً: إن بقاء الرئيس الأسد في السلطة هو أمر مستحيل.
الآن وبعدما أثبتت تقديرات الشارع بأنها هي الأصح ألا يمكن القول: إن التطورات، ومختزلاتها، باتت تؤكد أن الشارع السوري كان يتمتع بحس وتقدير فطريين سليمين، وهو يتفوق بهما على نخبه ومثقفيه وقياداته، حتى الشكل العاطفي الذي يطبع عادة مواقف الشارع كان على الدوام أكثر مواءمة وأقل جموداً من مواقف الثالوث سابق الذكر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن