ثقافة وفن

دمشق هبة نهر بردى .. رحلة مع بردى من المنبع إلى المصبّ

| منير كيال

لئن كانت مدينة دمشق جنّة الله في أرضه، فإنما يعود ذلك إلى ما تحمله مياه نهر بردى إلى دمشق ومرافقها العامة، وإلى كلُ ذرّة تراب من غوطتي دمشق من مياه بردى الذي كان يطلق عليه زمن الرومان اسم نهر الذهب.
لقد عمل الإنسان بدمشق إلى الإفادة من كل نقطة ماء من مياه نهر بردى، وفق أدق المعايير وأمهر الأساليب.. حفروا الأنفاق، وشقوا الأقنية بالصخور، فكانت مدينة دمشق جنة الله في أرضه، ولولاه لكانت دمشق صحراء جافة تلفحها الشمس المحرقة.
يخرج نهر بردى من وادٍ ضيق بجبال لبنان الشرقية، وما أن يسير في سهل الزبداني حتى يتغلغل في الصحراء وتغيب مياهه بالرمال في مقر منخفض رهيب مليء بالمستنقعات.
ولعل مخرج بردى من علوٍّ وانحدار واديه بالقسم الأوسط يجعل لهذا النهر صفة السيول المتدفقة أيام الشتاء، الجافة أكثر أيام السنة، لو لم ترفده مياه نبع الفيجة الفياض، بمعدل خمسة أمتار مكعبة بالثانية. ما جعل هذا النهر على مقدرة من دفع مياهه إلى مدينة دمشق وغوطتيها. والنهر بذلك الجريان تكون مياهه تارة لينة الجريان، وتارة أخرى تشتدّ حتى إذا بلغ النهر خانق الربوة فيكون قد انشطر منه سبعة فروع نتيجة لجهود الإنسان المستمرة في هذا المجال، ذلك أنه لولا هذه الجهود لما استطاع النهر أن يجتاز الصحراء المحرقة ليصل إلى مدينة دمشق ويزودها بالمياه، ويسقي أراضي الغوطة ويجعلها مخضوضرة. أكان ذلك على سفح جبل قاسيون أم هضاب المزة وبساتين الغوطة الشرقية، الأمر الذي أدى إلى مضاعفة مساحات الأراضي المروية وتيسير أسباب اتساع عمران مدينة دمشق خارج السور.

لقد عمد الإنسان إلى تفريع نهر بردى إلى تلك الفروع قبل خانق الربوة. ليطوّق الأراضي الممتدة على طرفي النهر بأقنية دائمة الجريان، وليتمكن من الانحدار من أعلى نقاط ممكنة ويروي بالراحة، أكبر مساحات من الأرض.
وقد حفرت هذه المجموعة من الأقنية، منذ زمن بعيد بشكل يتلاءم مع الوضع الطبوغرافي لخانق الربوة الذي يجري فيه نهر بردى.
وهكذا فإننا نجد قناتين (فرعين) على الضفة اليمنى (لمجرى النهر) ومثلهما على الضفة اليسرى للنهر. وهي أقنية معلّقة على سفحي الجبلين اللذين يشرفان على نهر بردى، فهي موازية للمجرى الأصلي لنهر بردى.
فالقناتان الممتدتان على السفح الأيمن للجبل هما قناة المزاوي وقناة الداراني، وتنقلان مياه بردى إلى روابي المزة، وتمكنان من زراعة الأشجار المثمرة وذلك قبل أن تصبح المزة ضاحية سكنية لدمشق.
أما القناتان الممتدتان على السفح الأيسر للجبل فهما قناة يزيد وقناة ثورا، وهما تسوقان المياه على طول سفح جبل قاسيون فعند خانق الربوة تنفصل قناة بانياس وقنوات، وقد حفرتا بالسفح العمودي الشمالي لجبل المزة على ارتفاع يقارب (10) أمتار عن المجرى الرئيسي لنهر بردى.
وقد اعتبُر اشتقاق (احتفار) هذه الأقنية بالصخور في منطقة جبلية وعرة من الأعمال المدهشة، التي تشهد على ما وصل إليه الإنسان من حضارة ورقيّ، كما اعتبر الترتيب الذي جرى في سير هذه الأقنية مثنى مثنى على السفوح الجبلية الشديدة الانحدار، جديراً بالتقدير والأعجاب،، كان حفر هذه الأقنية على عمق متر ونصف المتر، ولم يتجاوز عرضها ثلاثة أرباع المتر، وقد اخترقت العقبات الصخرية التي اعترضتها بأنفاق لبضع مئات من الأمتار في بعض الأحيان، ويقع معظمها بأماكن تهوي سفوحها على الوادي بشكل رأسي. ولهذا فإن هذه الأقنية تظهر للعيان تارة وتختفي تارة أخرى.
وما إن تخرج فروع (قنوات) بردى من خانق الربوة نحو دمشق وبساتينها حتى تشكل شبكة واسعة، وتنفرج على شكل مروحة واسعة تلتقي مع المياه الهابطة من وادي منين حتى برزة، مشكلة جزيرة خضراء وسط السهوب القفراء والجبال العالية الجرداء. وسنحاول فيما يلي إلقاء نظرة على هذه الفروع التي تتفرع من نهر بردى، ودور كل من هذه الفروع أو الأقنية بتزويد مدينة دمشق بالمياه.

قناة يزيد
تعود هذه القناة إلى العهد الروماني، ثم وُسّعت زمن الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، وهي تتفرع عن الضفة اليسرى لنهر بردى. على مقربة من بلدة الهامة، وهي قناة معلقة على سفح الجبل، من مكان التفرع إلى خانق الربوة، وهي تختفي في بعض المناطق كما هي في بلدة دمر ومنطقة المنشار والربوة لكونها محفورة ضمن أنفاق داخل الصخور.
وبعد أن تخرج قناة يزيد من خانق الربوة، تأخذ مجرى يساير سفح جبل قاسيون، لتتمكن من تزويد مساحة أكبر بالمياه، ومن ذلك المهاجرين والمالكي وشارع الرشيد والعفيف والصالحية والشركسية وركن الدين ثم إلى القابون، ويكون ذلك بوساطة تفرعات (مواصي) منها ماصية الزعبي وماصية أبي العلاء وماصية الرشيد، أما الدور التي أعلى من مستوى مياه قناة يزيد فقد استخدمت النواعير والآبار والأنفاق لتزويدها بمياه قناة (نهر) يزيد.

قناة تورا
وهي أقدم عهداً من قناة يزيد، ذلك أنها تعود إلى العهد الآرامي. وهي تتفرع أيضاً عن الضفة اليسرى لنهر بردى إلى الجنوب من بلدة دمر، بالقرب من موقع الشادروان.
ومن الجدير بالذكر أن مياه قناة تورا تتضاعف بما يفيض إليها من مياه قناة يزيد وبخاصة عند خانق الربوة.
ويكون مجرى قناة تورا جنوبي مجرى قناة يزيد، مارة بأراضي المهاجرين والحواكير وكيوان، وحديقة أبي العلاء فأبي رمانة، والجسر الأبيض وشارع الشهبندر، ثم إلى ركن الدين، كما تمر بشارع بغداد والديوانية فشارع حلب ثم إلى طريق دوما، وذلك عبر أربعة فروع تتفرع لها قناة تورا، وهي فرع أبي العلاء وفرع بوابة الصالحية وفرع شارع بغداد فضلاً عن فرع الكزبري فشارع حلب.

قناة القنوات
يمكن أن تعتبر هذه القناة مع قناة بانياس وقناة تورا قنوات خاصة بمدينة دمشق، لاعتماد هذه المدينة على مياهها قبل اعتماد مدينة دمشق على مياه نبع الفيجة.
يعود تفرع قناة القنوات إلى العهد الروماني، فقد رفع الرومان هذه القناة فوق قناطر، وفي عهد المماليك جرت على قناة القنوات تبدلات عديدة، أعقبها تبدلات أخرى زمن العثمانيين. ما يسمح بإيصال مياه القنوات إلى أكثر مناطق دمشق القديمة ارتفاعاً.
تتفرع قناة قنوات عن يمين مجرى نهر بردى عند موقع الشادروان، وتبقى مياهها مكشوفة أثناء سيرها بمدينة دمشق، لكنها تختفي وسط حي القنوات.
وعند وصول مياه قناة قنوات إلى قرب جامعة دمشق، فإنها تنقسم إلى قسمين قسم يُدعى الخلخال، وهو يتجه جنوباً نحو المزة وكفرسوسة والقدم كما تتوجه مياه الخلخال إلى باب سريجة وقبر عاتكة والميدان.
أما القسم الآخر من مياه قناة قنوات فإنها تتجمع بطوالع توزع مياهها على الدور والجوامع والحدائق بدمشق.
أما قناة بانياس: فهي من الأقنية الرئيسة التي كانت تغذي مدينة دمشق بالاشتراك مع قناة قنوات وقناة ثورا.
وهي تتفرع عن الضفة اليمنى لنهر بردى عند مخرجه من خانق الربوة، فتكون مياهها مسايرة للحافات الجبلية لجبل المزة، ثم تنحدر هذه المياه إلى أسفل جامعة دمشق.
ويمكن أن نميز بين مياه قنوات وقناة بانياس من وضع طوالع توزيع المياه بكل من قناة قنوات وقناة بانياس، ذلك أن الطوالع التي ترتفع موزعات المياه بها إلى أكثر من مترين بشكل بارز عن الطريق العام، إنما هي طوالع خاصة بقناة قنوات. أما موزعات الطوالع التي تكون على علو نحو المتر فإن مياهها من قناة بانياس. وفي جميع الأحوال فإن بالإمكان اعتبار الجامع الأموي من أكثر الأماكن التي تختلط بها مياه قناة قنوات مع مياه قناة بانياس، ذلك أن الجامع الأموي يتغذى من مياه قناة قنوات ومياه قناة بانياس في آن واحد، وما يفيض من هذه المياه يتوجّه إلى حي القيمرية وإلى الأحياء المجاورة.
وباتجاه مياه قناة بانياس شرقاً، فإنها تمرّ بتكية السلطان سليم، فإلى محطة الحجاز بقناة جوفية تتفرع إلى جامع المولوية وتنكز وأسفل زقاق رامي ثم إلى سوق العتيق حيث تختلط مياه قناة بانياس مع مياه قناة ثورا، ثم تتابع قناة بانياس إلى السنجقدار وحمام الناصري وسوق الخيل، كما تنقسم قناة بانياس عند السنجقدار إلى فرعين، الفرع الأول هو فرع الطوير وهو الذي تحدّ مياهه سوق الحميدية والعصرونية وباب البريد، والسبع طوالع حيث تتفرع عنه مقاسم لطوالع تنحدر مياه موزعاتها نحو عدد من الجوامع وإلى حي العمارة وبين السورين لتنتهي مع مياه قناة باناس عند باب توما.
أما الفرع الآخر فإن مياهه تمد ما بقي من السنجقدار والسروجية ومن ثم تتابع قناة بانياس طريقها إلى الحريقة والشاغور مروراً بقلعة دمشق.
وتجدر الإشارة إلى أن مياه هذا الفرع منها ما يتخذ طريقه إلى الباب الصغير والميدان، ومنها ما يتجه إلى بساتين الشاغور وباب شرقي.

قناة الداراني
وهي نسبة إلى بلدة داريا. وتتفرع هذه القناة عن الضفة اليمن لنهر بردى، قبل تقاطع الطريق العام مع السكة الحديدية. وتجري مياه هذه القناة بأراضي عميقة محفورة بالصخور وهي تختفي بعدة مواضع داخل الأنفاق حتى خانق الربوة.
ويقترب مجرى قناة الداراني من مجرى قناة المزاوي ثم تنعطف القناة لتصبح موازية لها وعدما تبلغ مياه الداراني مقسم التفلة بأرض المزة فأنها تشكل أربعة فروع:
فرعان يتجهان إلى أراضي مقسم طاحونة التوتة، حيث تغطي مياهه بساتين الخليح التابعة لداريا، في حين يتجه قسم آخر من مياه هذه القناة نحو كفرسوسة وأراضي الفحامة، كما يتجه قسم آخر من مياه الداراني إلى حي الميدان.
ومن هذه الأقنية التي انشقت عن نهر بردى قناة تعرف بقناة المزاوي وهي نسبة لأراضي المزة. وتتفرع مياه هذه القناة عن يمين مجرى مياه نهر بردى، قبيل بلدة دمر.
ومياه قناة المزاوي مكشوفة، ثم تختفي ولا يظهر من مياهها إلا عبر فتحات تعرف بالضوايات، وهذه الفتحات تساعد على كري (تعزيل) هذه القناة، ومن ثم تختفي مياه المزاوي بمجموعة من الأنفاق، تخترق بعدها منطقة المزة راسمة الحد الفاصل بين الأراضي المروية على يسارها، والأراضي الجافة إلى اليمن منها. فضلاً عن ذلك فإن لمياه قناة المزاوي مقاسم كان من أهمها:
مقسم المرجانة وهو يسقي، أراضي الهيل والزيتون بحيث تصل مياهه إلى الجميرية.
وهناك مقسم الشيخ قاسم الواقع خلف البلدية، وتنشق عنه قناة تروي أراضي القاطوع وأراضي جنينة البوابة.
ومن تلك المقاسم: مقسم الجندي ومقسم الرّحيبي.
وختاماً لا بد من الإشارة إلى أن نهر بردى لا يحمل عند دخوله مدينة دمشق إلا نسبة ضئيلة من تصريفه، لكنه يستعيد قسماً كبيراً من هذه المياه بعد نحو (500) متر من أول فرع يتفرع عنه، لأن تلك المياه العائدة، فائضة عن حاجة القناة المنشقة المتفرعة عن نهر بردى، فضلاً عن ذلك فإن المياه الفائضة عن حاجة البساتين قبل خانق الربوة تزيد من وفرة مياه بردى. ومن أسباب وفرة مياه بردى تلك المياه التي تتسرب عبر الحاجر المقام في عرض مياه نهر بردى في نقاط الاشتقاق أو التفرع عن عرض مياه نهر بردى وترفد مياه هذا النهر.
وبالطبع فإن هذه العوامل بمجموعها ساعدت على استعادة حيوية نهر بردى بدمشق، وتجعله يشكل مجموعة أخرى من الأقنية داخل مدينة دمشق نذكر منها قناة أو نهر العقرباني والداعياني والمليحي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن