ثقافة وفن

دراسة تحليلية لقصيدة بورخيس … الغرض الرئيس للقصيدة هو محاولة الشاعر تقديم مفهومه عن الشعر ورؤيته لخصائصه ووظيفته

| سارة سلامة

صدر عن وزارة الثقافة- الهيئة السورية للكتاب دراسة تحليلية لقصيدة بورخيس «فن الشعر» بعنوان «الأبدية الخضراء»، تأليف الدكتور نزار بريك هنيدي، حيث يسلط الضوء على الشاعر الأرجنتيني بورخيس الذي أفنى حياته ليشق طريق الإبداع بعد اطلاعه على مخيلات الفنانين والشعراء والفلاسفة والعلماء ليقدم ما لم يتمكن غيره من تقديمه، وذلك بالاعتماد على عدد من الكتب المترجمة عن شعر بورخيس وحياته.
ويركز هنيدي على تحولات حياة الشاعر الثقافية بشكل موسع إضافة إلى حياته الصحية والاجتماعية ثم يحلل نص القصيدة مرتكزاً على رؤيته للشعر من خلال موهبته وتجربته وتجربة الآخرين أيضاً، لطالما تناول الشاعر الشعر في كتبه ومحاضراته المتعددة وقال في إحدى محاضراته «أمضيت حياتي وأنا أقرأ وأحلل وأكتب أو أحاول أن أكتب واستمتع وقد اكتشفت أن هذا الأمر الأخير هو الأهم».

متفوقاً على علماء الفلك
ومما جاء في مقدمة الكتاب: (إننا نعرف ما الشعر. نعرف ذلك جيداً إلى حدّ لا نستطيع معه تعريفه بكلمات أخرى)، لذلك عندما حاول (بورخيس) مقاربة (فن الشعر) قام بتحويله إلى موضوع شعري لقصيدة، وبالرغم من أن الغاية من دراستها هي محاولة الوقوف على ملامح نظرية الشعر عنده، إلا أن كلّ كلمة أو صورة أو فكرة فيها تدفع إلى الخوض مجدداً في (المتاهات) التي تعجّ بها نصوصه، مما يجعل من تحليلها رحلة في عالمه الإبداعي والفكري في مجمله).
في معرض حديثه عن (لغز الشعر) قال خورخي لويس بورخيس: (كلما تصفّحت كتاباً في علم الجمال، راودني إحساس مقلق بأنني إنما أقرأ أعمالاً لفلكيين لم ينظروا إلى النجوم قط). ولا شك في أنه أراد بقوله هذا أن يؤكد ما سبق أن قاله الشاعر الأميركي أرشبالد ماكليش، في كتابه المشهور (الشعر والتجربة): (والمرء في ميدان الشعر بحاجة إلى رائد ثقة، رجل رأى واستبان ثم عاد، ولن يكون هذا الرائد إلا شاعراً، أما النقاد فهم كمن يضع خرائط لجبال العالم الذي يرودونه، غير أنهم هم أنفسهم لم يتسلّقوا تلك الجبال قط).
ذلك أن الشاعر هو من نذر عمره كله ليتسلق جبال الإبداع، بعد أن ملأ جعبته بكل ما اجترحته مخيلات الفنانين والشعراء، وما أنجزته عقول الفلاسفة والعلماء، ليصل إلى أقصى نقطة استطاعت البشرية الوصول إليها، ومن ثم يطلّ منها على ما يرخم وراءها، من خفايا وأسرار.
والشاعر هو من منحته الطبيعة الملكات والقدرات التي تتيح له أن يتجاوز بحدسه حدود الحواس الطبيعية التي يمتلكها الإنسان العادي، ويتخطى برؤيته ظواهر الموجودات، ويتغلغل إلى أعماق أسرار الكون والحياة، مما يجعله متفوقاً على علماء الفلك جميعهم، في القدرة على سماع همسات النجوم، والتقاط إشارات الكواكب، وتلقي رسائلها الضوئية المشحونة بالمعاني والرموز.
(ولا يقلّ الشعر غموضاً عن عناصر الكون الأخرى)، كما يقول بورخيس في مقدمته لديوانه (مديح الظل) الذي أصدره في السبعين من عمره، ويمثله في أوج نضوجه.
وما دام الأمر كذلك، فإن أحداً لن يستطيع أن يعرّف لنا الشعر، أكثر من الشعراء أنفسهم.
إلا أن بورخيس يؤكد لنا أننا نقترف خطأً شائعاً جداً عندما نظن أننا نجهل شيئاً لأننا غير قادرين على تعريفه! بل إنه يستعير كلمات (تشيسترتوني) ليقول: (إننا لا نستطيع تعريف شيء إلا عندما لا نعرف أي شيء عنه) مما يعني أننا نعرف ما الشعر، نعرف ذلك جيداً إلى حدّ لا نستطيع معه تعريفه بكلمات أخرى.

فن الشعر
أصبح من المألوف في الدراسات الحديثة، أن تبدأ مقاربة النص الأدبي من (العنوان) الذي يحمله، فالعنوان هو العتبة النصية الأولى التي تواجه المتلقي وتتحكم بطريقة تفاعله مع النص وتوجّهه نحو احتمالات معيّنة لتأويل محتوياته وربطها بما تختزنه الذاكرة من نصوص وتجارب سابقة، وفتحها على آفاق المعاني التي تشعّ لتشكّل الرؤيا العامة للنص الشعري.
ومن ثم فإن عنوان (فن الشعر) الذي اختاره بورخيس لقصيدته يستفزّ القارئ منذ الوهلة الأولى، لأنه من غير المألوف أن تحمل قصيدة مثل هذا العنوان، الذي يحيل أول ما يحيل إلى كتاب (فن الشعر) لأرسطو، فعنوان كهذا يصلح لمبحث فلسفي أو دراسة في علم الجمال أو النقد الأدبي، أكثر بكثير من أن يكون واسماً لقصيدة شعرية.
وهكذا فإن على القارئ أن يستخلص مباشرة، أن الغرض الرئيس للقصيدة هو محاولة الشاعر تقديم مفهومه عن الشعر ورؤيته لخصائصه ووظيفته، ولكنه لن يتوسّل إلى ذلك الوسائل النظرية والفكرية التي يستخدمها الفلاسفة والمنظّرون والنقاد، لأن تلك الوسائل بقيت عاجزة عن الاقتراب من ذلك المفهوم على الرغم من بحار الحبر التي أريقت منذ أرسطو إلى اليوم، وإنما سيلجأ إلى وسائل التعبير الشعرية، ومن إيحاء وتخييل وتناصّ وتحريض للذاكرة واستنفار للأحاسيس والمشاعر، وشحن للمفردات والجمل لتتمكن من قول ما تعجز عن قوله في حالتها النثرية.
ومن ثم، فإن على القارئ أن يوجه أجهزة الاستقبال والتبقي عنده، باتجاه تأويل ما يتضمنه النص من مكونات وإيحاءات وتناصّات، بما يمنحه القدرة على تلمّس ما يريد الشاعر توصيله حول مواقفه وآرائه فيما يتعلق بـ(فن الشعر) بالتحديد، ولاسيما أن القارئ سيستدعي إلى ذاكرته مجموعة من القصائد التي كتبها شعراء آخرون ليعرضوا فيها مذاهبهم ورؤاهم الفنية، تحت العنوان نفسه (فن الشعر)، منذ الشاعر الروماني (هوارس)، وحتى اليوم.

لم يستخدم الشعر الحر
وبالرغم من صعوبة الموضوع الذي تدور حوله القصيدة، وبالرغم من أننا اعتدنا أن يكون غرضاً للسجالات النظرية الفكرية ذات اللغة النثرية، أكثر من أن يكون غرضاً لقصيدة، فإن بورخيس لم يستخدم شكل الشعر الحر، ولم يهرب من القواعد الفنية، بل قام ببناء قصيدته بشكل منتظم متقن، فجعلها تتألف من سبعة مقاطع متساوية، في كل مقطع أربعة سطور أو أبيات.
يبدأ بورخيس قصيدته بالمقطع التالي:
(نحدّق في نهر من الوقت والماء
ذاكرين أن الوقت نهر آخر.
نعرف أننا شاردون كالنهر
وأوجهنا تتلاشى كماء)
فأن تكون شاعراً، يعني أن تتأمل النهر الذي لا يكفّ عن الجريان، ويطابق الشاعر بين نهر الماء في الطبيعة، ونهر الوقت الذي يتدفق فيه الزمن، فالزمن يتدفق أيضاً، وحين يتأمل الشاعر نهر الزمن المتدفق، فإنما يتأمل سيرورة الوجود بأسره، ومصير الإنسانية جمعاء.
كما أن بورخيس نفسه يستحضر في إحدى محاضراته عنوان رواية توماس وولف «عن الزمن والنهر» التي طبعت أول مرة عام 1935، مما قد يشير إلى أن بورخيس رسم صورته بفعل ما ولدته تلك الرواية في ذهنه من إيحاءات، فهو يقول عنها: (إن مجرد اتحاد الكلمتين يوحي بالاستعارة: الزمن والنهر، كلاهما يتدفق وهناك حكمة الفيلسوف اليوناني المشهورة: لا أحد ينزل مرتين إلى النهر نفسه، هنا نجد بصيص رعب، لأننا نفكر أولاً في تدفق النهر، في قطرات الماء ككائن مختلف، وبعد ذلك ننتبه فجأة إلى أننا نحن النهر، وأننا لا نقل عن النهر تفلتاً وهروباً).
والرعب الذي يذكره بورخيس في المقبوس السابق، هو النتيجة المحتمة لكوننا (نعرف أننا شاردون كالنهر، وأوجهنا تتلاشى كماء) كما يقول في السطرين الأخيرين من هذا المقطع من القصيدة، وهو الرعب نفسه الذي ينضج من قصيدة الشاعر الإسباني (خورخي مانريكي) التي يقول فيها:
(حيواتنا هي الأنهار
التي تجري لتصب في البحر
الذي هو الموت.
إلى هناك تمضي الأبهة الأرضية،
مباشرة إلى الانتهاء والنفاد..)
فوجودنا في هذا الكون، محكوم بتلك القوانين الغامضة، التي لا نعرف منها غير نتائجها، التي تجعلنا حيارى ضائعين شاردين، وتفضي بنا، في النهاية، إلى مصير واحد، هو تلاشي الأحلام، ونفاد القوى، والرحيل إلى حيث يمضي كل ما على الأرض.. إلى الموت.
وهكذا يصبح واضحاً أن بورخيس أراد أن يقول في مستهلّ قصيدته: إن الشاعر الحقيقي هو من يتأمل العلاقة الأزلية القائمة بين الوجود الإنساني وأسرار الكون.
ويحاول مقاربة الأسئلة الكبرى التي ما فتئت البشرية تطرحها منذ أن وعت وجودها في هذا العالم، عن الأصل الذي جاءت منه، والغاية من وجودها، والمآل الذي سيؤول إليه مصيرها.
ويذكر أن نزار بريك هنيدي هو شاعر وناقد سوري له ثماني مجموعات شعرية إضافة إلى كتبه في النقد الأدبي النظري والتطبيقي وعضو اتحاد الكتاب العرب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن